وقفات مع مفهُوم (الرُّوَيْبِضَة)
الرُّوَيْبِضَة هُوَ الرَّجُلُ التَّافَةُ الحَقِيرُ يَنْطِقُ فِي أُمُورِ العَامَّةِ، وَهُوَ «مَنْ لَا يُؤْبَهُ لَهُ»، وَهُوَ الفُوَيْسِقُ يَتَكَلَّمُ فِي أَمْرِ العَامَّةِ، وهو العاجز الذي رَبَضَ عن مَعَالي الأمُور، وقعَد عن طَلَبها..
- التصنيفات: فقه المعاملات -
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبيّ بعده، وبعد:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ الله عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَبْلَ السَّاعَةِ سِنُونَ خَدَّاعَةٌ، يُصَدَّقُ فِيهِنَّ الكَاذِبُ، وَيُكَذَّبُ فِيهِنَّ الصَّادِقُ، وَيَخُونُ فِيهِنَّ الأَمِينُ، وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الخَائِنُ، وَيَنْطِقُ فِيهِنَّ الرُّوَيْبِضَةُ» (رواه الحاكم في المستدرك [4/465]، وقال: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الإِسْنَادِ، وَلَمْ يُخْرِجَاهُ، ووافقه الذهبيّ).
قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ: وَمَا الرُّوَيْبِضَةُ؟ قَالَ: «المَرْؤُ التَّافِهُ يَتَكَلَّمُ فِي أَمْرِ العَامَّةِ».
وفي رواية: «إِنَّ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ سِنِينَ خَدَّاعَةً» (مسند البزار [7/174]). وفي رواية أخرى: «يَكُونُ أَمَامَ الدَّجَّالِ سِنُونَ خَوَادِعٌ» (المعجم الكبير للطبراني [12/438]).
كثر في هذه الأيّام استدلال بعض الناس بهذا الحديث، واتّهام مخالفيهم بـ الرُّوَيْبِضَة، في معرض الردّ عَلَى مخالفيهم في الرأي، وعدم مناقشة الرأي المخالف مناقشة موضوعيّة.. ممّا يدعو الطرفَ الآخر إلى جفوةِ مخالفه، واتّخاذ موقف ردّة فعل أسوَأ وأشنعَ.. وضاعت الحقيقة وراء الأهواء المُتضاربة..
وأحبّ أن أقفَ وقفة هَادِئةً معَ مفهُوم الرُّوَيْبِضَة، وما وجاهةُ الاستدلالِ به في المناقشات العلميّةِ ، والحوارات الفكريّة؟ وذلك مِن خلال النقاط التالية:
1- ما المراد النبويّ بالرُّوَيْبِضَة؟ لقد ذكر العلماء تفسيرات عديدة للرُّوَيْبِضَة:
- فقيل من حيث الأصل اللغويّ: الرُّوَيْبِضَةُ: تصغير الرابضة، وهو راعي الربيض، والربيض: الغنم، والهاء للمبالغة.
- وقيل: الرُّوَيبضة تصغير الرَّابِضة، وهو العاجز الذي رَبَضَ عن مَعَالي الأمُور، وقعَد عن طَلَبها، وزيادة التَّاء للمبالغَة.
- وقيل التَّافه: الخَسِيس الحَقِير. كما في النهاية في (غريب الحديث والأثر (2/460)).
- وجاء ما يؤيّد هذا المعنى في البيان النبويّ: قِيلَ: وَمَا الرُّوَيْبِضَةُ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «مَنْ لَا يُؤْبَهُ لَهُ».
- وفي رواية: «السَّفِيهُ يَتَكَلَّمُ فِي أَمْرِ العَامَّةِ» (مسند أحمد [2/ 291]).
- وفي رواية: "قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ! وَمَا الرُّوَيْبِضَةُ؟ قَالَ: «الفُوَيْسِقُ يَتَكَلَّمُ فِي أَمْرِ العَامَّةِ» (شرح مشكل الآثار (1/ 404))، وفي حديث أشراط الساعة: «وأن تَنْطِق الرُّوَيْبضةُ في أمْر العامَّة»، قيل: وما الرُّوَيْبضة يا رسول اللّه؟ فقال: «الرجل التَّافِه يَنْطِق في أمْر العامَّة».
- وَقال الإمام الشاطبيّ: قَالُوا: هُوَ الرَّجُلُ التَّافَةُ الحَقِيرُ يَنْطِقُ فِي أُمُورِ العَامَّةِ، كَأَنَّهُ لَيْسَ بِأَهْلٍ أَنْ يَتَكَلَّمَ فِي أُمُورِ العَامَّةِ فَيَتَكَلَّمُ (الاعتصام [2/ 681]).
فالرُّوَيْبِضَة هُوَ الرَّجُلُ التَّافَةُ الحَقِيرُ يَنْطِقُ فِي أُمُورِ العَامَّةِ، وَهُوَ «مَنْ لَا يُؤْبَهُ لَهُ»، وَهُوَ الفُوَيْسِقُ يَتَكَلَّمُ فِي أَمْرِ العَامَّةِ، وهو العاجز الذي رَبَضَ عن مَعَالي الأمُور، وقعَد عن طَلَبها..
وقد جاءَ وَصْفُ الرُّوَيْبِضَة في حديث بِالفِسْقِ، وهُو ممّا يَمْنَعُ مِثْلَهُ مِنْ الكَلَامِ فِي أَمْرِ العَامَّةِ.. كما جاءَ وَصْفُهُ في حديث آخر بِأَنَّهُ «لَا يُؤْبَهُ لَهُ»، وهذا ممّا يترتّب على فِسْقِهِ، فلَا حَاجَةَ بِالنَّاسِ إلَيْهِ، فَيَكُونُ بِذَلِكَ خَامِلًا لَا يُؤْبَهُ لَهُ.
2- ومن مجموع هذه الصفات، وما توحي به نرى أنّ الحديث يشير إلى صنف من الناسِ لا يهمّهم أمرُ الدينِ في شيء، فليسوا من صنف الخَوَارِجِ، الذين وصفهم حَدِيثٌ آخرُ أنّهم: «يَقْرَؤُونَ القُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ»، وَإِنّما هم أصحاب أهواء دنيويّة، يرفعون رايات جاهليّة، ويدعون إلى مبادئ ضالّة هدّامة، ويتطلّبون التزعّم على الناس والرئاسة، يشير إلى ذلك وصفهم بالتفاهة والفسق والحقارة، فليسوا من طلاّب الحقّ، ولا من ملتمسيه بصدق، وَإِنّما هم من الأدعياء الكاذبين ، الذين لا تخفى أحوالهم على أدنى ذي بصيرة.. ولو زعموا أنّهم يدافعون عن الحقّ، وينصرونه.
إنّهم أئمّة الضلال، ومن والاهم، الذين ابتليت بهم هذه الأمّة، وأتباع الأهواء والشهوات، وقادة الضياع الفكريّ، والانحراف السلوكيّ، والفساد والإفساد الأخلاقيّ في الأرض، يؤازرهم المنافقون المتشدّقون، والجهلة بدين الله المغفّلون، الذين قد يلبسون لباس العلم والهدى، ولكنّهم يبيعون دينهم بعرض من الدنيا، يستخدمون علمهم لتبرير الفساد، والتماس الأعذار للسقوط والانحراف، وخلط الحقّ بالباطل، حتّى تضيع معالم الحلال والحرام، والمعروف والمنكر في نظر العامّة.
ويتصدّر هؤلاء ميادين العمل الاجتماعيّ، والمسئوليّات الكبرى، في الوقت الذي ينزوي الأخيار عن الساحة، أو يفرض عليهم الإقصاء، ويصبح أهل الحقّ قابضين على الجمر، يُحارَبون من أقرب الناس إليهم، ولا يجدون على الحقّ أعواناً.
وتنقطع الجسور بين أولي العلم والبصيرة بدين الله، والغيرة على حرماته، وبين هؤلاء من أولي الظلم والقهر، الذين يمسكون بزمام الأمور، فلا يبقى بينهم إلاّ التنازع والصراع، الذي ربّما يخفت تارة، ويتأجّج تارة أخرى، وتكثر الخروق في سفينة المجتمع وتتّسع، فلا يكاد أهل الحقّ يعالجون أمراً حتّى تفجأهم أمور.
3- الأحاديث التي ذكرت الرُّوَيْبِضَة جعلت وجوده متّصلاً بالساعة، فهو من علاماتها، لأنّه قَبْلَ السَّاعَةِ، أو بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ، أو يَكُونُ أَمَامَ الدَّجَّالِ.. وكلّها معان متقاربة، وتنزيل أمثال هذه الأحاديث على واقع معيّن، في زمن معيّن، فيه مجازفة شرعيّة وتجاوز، إذ ما الذي يدرينا أنّ زماننا هذا مقارب للساعة، وهل عندنا من دليل على ذلك؟! وقد أخطأ في هذا الأمر عدد من الكتّاب والباحثين وطلاّب العلم الشرعيّ، عندما جمعوا أحاديث الفتن في آخر الزمن، وفسّروا الواقع بها.
كما سبق في هذا الخطأ بعض العبّاد والزهّاد في القرون الأولى، فرأوا بعض الفتن فنزّلوا أحاديث الفتن في آخر الزمن عليها، فاعتزلوا الناس، وبعضهم هجر المدن، ولجأ إلى البراري.. ثمّ كشفت الأيّام خطأهم وسلبيّة عملهم.
4- ولا يخفى أنّ وصف إنسان لآخر بعينه بالرُّوَيْبِضَة، لخلاف معه بالرأي والفكر، وبخاصّة إذا كان يستند في رأيه إلى اجتهاد معتبر عند أهل العلم، ليس من الموضوعيّة في الحوار في شيء، بل هو اتّهام وتجريح لا يُنتظَر ممّن يُواجه به إلاّ ردّة فعل أشدّ وأعتى.
ومعلوم أنّ إطلاق هذا الوصف على نوع عامّ غير إطلاقه على شخص معيّن، يوصف بذلك الوصف فيما نظنّ، أو يحمل ذلك الفكر والرأي ويدافع عنه.
فمن يحاجّك بدين الله لا ينفع معه إلاّ أن تحاجّه بالدليل، ومن يحاجّك بمنطق العقل لا ينفع معه إلاّ أن تحاجّه بمنطق مثله، مع سموّ في لغة الخطاب، وأدب في أسلوب الحوار.. أخذاً بالهدي الربّانيّ الكريم: {وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت: من الآية 46].
وقد مرّ على الأمّة زمن تحوّل فيه الحوار العلميّ إلى معارك كلاميّة حامية الوطيس، من التراشق بالتهم، وإطلاق الألقاب، والسخرية والاستهزاء، فما جنت الأمّة من وراء ذلك إلاّ مزيداً من التفرّق والاختلاف، وكانت فرصة ذهبيّة لأعداء الإسلام لتأجيج الخلاف وتعميقه، والتسلّل إلى حصون الأمّة وتخريبها من الداخل.
5- وإنّ ممّا لا يخفى على ذي لبّ أن لا عبرة في العلم والفهم بكبر السنّ أو حداثته ، فقد يفتح الله على الصغير بما لم يبلغه الكبير، و"المرء بأصغريه: قلبِه ولسانِه"، وكم من طالب سبق شيخه، وتلميذ فاق أستاذه؟!
وقد أخبرنا الله جلّ وعلا عن دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عليهما السلام، فقال سبحانه: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ القَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِين . فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء:79-80].
وَقد رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رَضِيَ الله عَنْهُ أنّه قَالَ: "قَدْ عَلِمْتُ مَتَى يَهْلِكُ النَّاسُ! إِذَا جَاءَ الفِقْهُ مِنْ قَبِلَ الصَّغِيرِ اسْتَعْصَى عَلَيْهِ الكَبِيرُ، وَإِذَا جَاءَ الفِقْهُ مِنْ قِبَلِ الكَبِيرِ تَابَعَهُ الصَّغِيرُ فَاهْتَدَيَا".
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ الله عَنْهُ: "لَا يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا أَخَذُوا العِلْمَ مِنْ أَكَابِرِهِمْ، فَإِذَا أَخَذُوهُ عَنْ أَصَاغِرِهِمْ وَشِرَارِهِمْ هَلَكُوا".
قال الإمام الشاطبيّ في الاعتصام (2/ 683): "وَاخْتَلَفَ العُلَمَاءُ فِيمَا أَرَادَ عُمَرُ بِالصِّغَارِ"، فَقَالَ ابْنُ المُبَارَكِ: "هُمْ أَهْلُ البِدَعِ، وَهُوَ مُوَافِقٌ، لِأَنَّ أَهْلَ البِدَعِ أَصَاغِرُ فِي العِلْمِ، وَلِأَجْلِ ذَلِكَ صَارُوا أَهْلَ بِدَعٍ".
وَقَالَ البَاجِيُّ: "يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الأَصَاغِرُ مَنْ لَا عِلْمَ عِنْدِهِ". قَالَ: "وَقَدْ كَانَ عُمَرُ رَضِيَ الله عَنْهُ يَسْتَشِيرُ الصِّغَارَ، وَكَانَ القُرَّاءُ أَهْلُ مُشَاوَرَتِهِ كُهُولًا وَشُبَّانًا".
وهذا هو القول الحقّ، الموافق لمنطق العقل.. والمتّفق مع سلوك عُمَرَ رَضِيَ الله عَنْهُ، إذ كان يقرّب ابن عبّاس رَضِيَ الله عَنْهُما، وهو صغير السنّ، فيجعله مع خاصّة أهل شوراه من كبار المهاجرين والأنصار.
وقَالَ البَاجِيُّ أيضاً: "وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِالأَصَاغِرِ مَنْ لَا قَدْرَ لَهُ وَلَا حَالَ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا بِنَبْذِ الدِّينِ وَالمُرُوءَةِ. فَأَمَّا مَنِ التَزَمَهُمَا فَلَا بُدَّ أَنْ يَسْمُوَ أَمْرُهُ، وَيَعْظُمُ قَدْرُهُ".
قلت: وهذا ما يؤكّد ما رجّحته من تفسير الرُّوَيْبِضَة.
وبعد؛ فلا أجد مبرّراً شرعيّاً، ولا دعويّاً للاستدلالِ بهذا الوصف: الرُّوَيْبِضَة، والاتّهام به في المناقشات العلميّةِ، والحوارات الفكريّة، وخير لنا أن نحرّر مواطن نزاعنا بدقّة، ونتحاور حولها، ولا نلتفت لسفه المسفّين وجهل الجاهلين.
هذا، والله تعالى أعلم، وصلّى الله وسلّم وبارك على عبده ونبيّه سيّدنا محمّد، وعلى آله وصحبه أجمعين. والحمد لله ربّ العالمين.
د. عبد المجيد البيانوني