الموت فاجعة الفواجع

أيمن الشعبان

قد يفقِد إنسان منصبه فتكون له خسارة عُظمى، وقد يخسر آخر ثروته فتكون له كارثة كبرى، وقد يُطرد أو يُهجر آخر من أرضه فتكون له نكبة ومأساة، والإنسان في هذه الدنيا الفانية الزائلة يتقلب ويمرّ بمراحل مُتعدِّدة ومِحن مختلفة، لكن الفاجعة التي لا تماثلها فاجعة، والكارثة التي لا تدانيها كارثة، والمصيبة التي لا تقاربها مصيبة؛ هي فاجعة الموت.

  • التصنيفات: الزهد والرقائق - الموت وما بعده - الدار الآخرة - الحث على الطاعات -

الحمد لله الواحد القهار، العزيز الغفار، مُقدّر الأقدار، يخلق ما يشاء ويختار، والصلاة والسلام على النبي المختار، وآله الأطهار، وصحبه الأخيار، ومن تبعهم وسار على نهجهم إلى يوم القرار، وبعد:

قد يفقِد إنسان منصبه فتكون له خسارة عُظمى، وقد يخسر آخر ثروته فتكون له كارثة كبرى، وقد يُطرد أو يُهجَّر آخر من أرضه فتكون له نكبة ومأساة، والإنسان في هذه الدنيا الفانية الزائلة يتقلب ويمرّ بمراحل مُتعدِّدة ومِحن مختلفة، لكن الفاجعة التي لا تماثلها فاجعة، والكارثة التي لا تدانيها كارثة، والمصيبة التي لا تقاربها مصيبة؛ هي فاجعة الموت.

قد هيؤك لأمرٍ لو فطنت له *** فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل

إنها الحقيقة الكبرى، والفاجعة العظمى، والنازلة التي ما بعدها نازلة، إنه هادم اللذات، ومُفرِّق الجماعات، ومُشتِّت القرابات، ومُيتّم البنين والبنات، ولولا الموت لتنعَّم أهل النعيم بنعيمهم، ولكن الموت نغَّص عليهم هذا النعيم فهلَّا نعيمًا لا موت فيه؟!

يقول جل وعلا: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجمعة:8]، فلن تنفعكم أموالكم ولا قوتكم ولا قصوركم ولا جاهكم ولا أولادكم إذا نزل الموت بساحتكم، فإنه ملاقيكم مُدركُكم لا محالة مهما أخذتم الحيطة والحذر، فأين القياصرة والأكاسرة والجبابرة والأباطرة؟!

أفناهم الموت واستبقاك بعدهم *** حيًا فما أقرب القاصي من الداني
ومُعجبٌ بثياب العيد يقطعها *** فأصبحت في غدٍ أثواب أكفان
حتى متى يُعمِّر الإنسان مسكنه *** مصير مسكنه قبر إنسان

الموت الزائر الذي يأتي بلا استئذان، وسيتذوقه كل إنسان، {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [العنكبوت:57]، وهذا يشمل سائر نفوس الخلائق، وإن هذا كأس لا بد من شربه وإن طال بالعبد المدى، وعمّر سنين.

الموْتُ بابٌ وكلُّ الناسِ داخِلُهُ *** يا ليْتَ شعرِيَ بعدَ البابِ ما الدَّارُ
الدَّارُ جنَّة ُ خلدٍ إنْ عمِلتَ بِمَا *** يُرْضِي الإلَهَ، وإنْ قصّرْتَ، فالنّارُ

الخلائق جميعًا ما هي إلا ودائع وأمانات في هذه الدنيا، فمتى ما انتهى أجلها أعيدت، {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} [يونس من الآية:49]، {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ . وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن:26-27]، سبحان من ساوى بين البرية في ورود حياض المنيَّة، فلا القوي يعتصم منها بقوته، ولا العزيز يرتفع عنها بعزته، قضاء وفصل سبقت به إلاهيته والأقدار، وحكم عدل حكم به من كل شيء عنده بمقدار، فمن سخط فله السخط، ومن رضي فله الرضا، لأن القدر إذا طلب أدرك، وإذا حكم أمضى.

قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "ما أصبح أحد إلا وهو ضيف وماله عارية فالضيف مُرتحِل والعارية مردودة".

وما المالُ والأهلونَ إلاَّ وَدِيْعَةٌّ *** ولا بُدَّ يَوْمًا أنْ تُرَدَّ الوَدائعُ

والموت حق على كل نفس، يقول سبحانه {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} [ق من الآية:19]، والحق أننا جميعًا سنموت والله حي لا يموت، {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} والحق أن القبر إما روضة من رياض الجنة وإما حفرة من حفر النيران، {ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق من الآية:19]، ذلك ما كنت منه تهرب، ذلك ما كنت منه تجري، ذلك ما كنت منه تفر، ذلك ما كنت منه تبتعد وتتأخر.

المَوْتُ حَقٌّ وَلَيْسَ الدَّمْعُ مُبْطِلَهُ *** وَلَو بَكَتْ أَسَفًا فَقْدَ امْرِئٍ أُمُمُ
لَوْ كَانَ يَسْلَمُ حَيٌّ مِنْ مُصِيبَتِهِ *** لَجُنِّبَ المُصْطَفَى مَا خَطَّهُ القَلَمُ
إِنْ تَبْكِ فَابْكِ عَلَيْهِ فَهْيَ فَاجِعَةٌ *** كُلُّ الفَوَاجِعِ مِمَّا بَعْدَهَا لَمَمُ

يقول عليه الصلاة والسلام: «قال لي جبريل: يا محمد عِش ما شِئت فإنك مَيِّت، وأحبب من شِئت فإنك مُفارِقه، واعمل ما شِئت فإنك ملاقيه» (رواه الحاكم في المستدرك)، هذا وعظ وزجر وتهديد. والمعنى: فليتأهب من غايته للموت بالاستعداد لِما بعده ومن هو راحل عن الدنيا كيف يطمئن إليها فيخرب آخرته التي هو قادم عليها.

هو الموت ما منه ملاذٌ ومهرب *** متى حط ذا عن نعشه ذاك يركب
نُؤمِّل آمالًا ونرجو نتاجها *** لعل الرجا مما نرجيه أقرب

ونبني القصور المشمخرات في الهوى *** وفي عِلمنا أنَّا نموت وتخرب
إلى الله نشكو قسوة في قلوبنا *** وفي كل يوم واعظ الموت يندب

ولنعلم جميعًا يقينًا، أن كل باكٍ سيُبكى، وكل ناعٍ سيُنعى، وكل مذكورٍ سيُنسى، وكل مدخورٍ سيفنى، ليس غير الله يبقى، من علا فالله أعلى، وكل من شيع جنازة سيشيع، وكل من غسل ميتًا سيُغسل، وكل من مشى في جنازة سيُمشى في جنازته، وكل من حفر قبرًا سيُحفر له قبره، فلماذا الغفلة وطول الأمل والتكبُّر والغرور وربنا سبحانه يقول {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ . الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ} [الانفطار:6-7].

كُلٌّ ابْنِ أنْثَى وإنْ طَالَتْ سَلامتُهُ *** يَومًا عَلى آلةٍ حَدْبَاء مَحْمُوْلُ

مرّ المهلب بن أبي صفرة على مالك بن دينار وهو يتبختر في مشيته فقال مالك: "أما علمت أن هذه المشية تكره إلا بين الصفين؟". قال له المهلب: أما تعرفني؟! قال: "أعرفك أولك نطفة مذرة وآخرك جيفة قذرة وأنت بينهما تحمل العذرة"، فقال المهلب: الآن عرفتني حق المعرفة.

الموت ما ذُكر في قليل إلا كثَّره، ولا في كثير إلا قلَّله، لما فيه من الفاجعة وهول المصيبة، لكن العِبرة فيما بعد الموت، أفي جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر أم في ضلال وسعر يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مسّ سقر عياذًا بالله، فالعجب كل العجب ممن عرف الموت وسكرته، والقبر وظلمته، والساعة وأهوالها، والنار وسطوتها، ولا يزال مُقصِّرٌ ومُفرِّط بالفرائض والطاعات، مرتكبٌ للمعاصي والمنكرات!

فلو أنا إذا مِتنا تُركنا *** لكان الموتُ راحةَ كلِّ حيّ
ولكنا إذا مِتنا بُعثنا *** ونسألُ بعده عن كلِّ شيءٍ

يقول عليه الصلاة والسلام: «أكثروا ذكر هاذم اللذات: الموت»، قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: مَعْنَاهُ: مَتَى ذُكِرَ فِي قَلِيلِ الرِّزْقِ، اسْتَكْثَرَهُ الْإِنْسَانُ، لِاسْتِقْلَالِ مَا بَقِيَ مِنْ عُمْرِهِ، وَمَتَى ذُكِرَ فِي كَثِيرٍ قَلَّلَهُ، لِأَنَّ كَثِيرَ الدُّنْيَا إذَا عُلِمَ انْقِطَاعُهُ بِالْمَوْتِ، قَلَّ عِنْدَهُ.

يذكر أن الإمام الشافعي رحمه الله كان يعظ أخًا له في الله ويخوفه بالله، فقال: "يا أخي إن الدنيا دحض مزلة، ودار مذلة، عمرانها إلى الخراب صائر، وعامرها إلى القبور زائر، شملها على الفِرقة موقوف، وغناها إلى الفقر مصروف، الإكثار فيها إعسار والإعسار فيها يسار، فافزع إلى الله وارض برزق الله. لا تستسلف من دار بقائك في دار فنائك، فإن عيشك فيءٌ زائل، وجدارٌ مائل، أكثر من عملك، وقصر من أملك".

قال كعب الأخبار رضي الله عنه: "من عرف الموت هانت عليه مصائب الدنيا".

ولما جاء أبا الدرداء رضي الله عنه الموت قال: "ألا رجل يعمل لمثل مصرعي هذا؟ ألا رجل يعمل لمثل يومي هذا؟ ألا رجل يعمل لمثل ساعتي هذه؟" ثم قُبِضَ رحمه الله.

وحينما أتى بلالًا رضي الله عنه الموت.. قالت زوجته: "وا حزناه". فكشف الغطاء عن وجهه وهو في سكراتٍ الموت.. وقال: "لا تقولي واحزناه، وقولي وا فرحاه"، ثم قال: "غدًا نلقى الأحبة ..محمدًا وصحبه".

وقال عيسى عليه السلام: "يا معشر الحواريين ارضوا بدنيء الدنيا مع سلامة الدين كما رضي أهل الدنيا بدنيء الدين مع سلامة الدنيا".

عن ابن عباس أنه قرأ: {فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا} [مريم:84] فبكى وقال: آخر العدد خروج نفسك، آخر العدد فراق أهلك، آخر العدد دخول قبرك.

ذكر عن شقيق البلخي أنه قال: "الناس يقولون ثلاثة أقوال، وقد خالفوها في أعمالهم، يقولون: نحن عبيد الله، وهم يعملون عمل الأحرار، وهذا خلاف قولهم، ويقولون: إن الله كفيل بأرزاقنا، ولا تطمئن قلوبهم إلا بالدنيا وجمع حطامها، وهذا خلاف قولهم، ويقولون: لا بد لنا من الموت، وهم يعملون أعمال من لا يموت وهذا خلاف قولهم".

وقال حاتم الأصم: "مصيبة الدين أعظم من مصيبة الدنيا، ولقد ماتت لي بنت فعزَّاني أكثر من عشرة آلاف وفاتتني صلاة الجماعة فلم يُعزِّني أحد".

وكتب عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه إلى الأوزاعي: "أما بعد، فإنه من أكثر من ذكر الموت، رضي من الدنيا باليسير".

روي أنه لما حضرت محمد بن سيرين الوفاة، بكى، فقيل له: "ما يبكيك؟ فقال: أبكي لتفريطي في الأيام الخالية وقلة عملي للجنة العالية وما ينجيني من النار الحامية".

حينما حضر المأمون الموت قال: "أنزلوني من على السرير". فأنزلوه على الأرض... فوضع خده على التراب وقال: "يا من لا يزول ملكه... إرحم من قد زال ملكه".

لما احتضر هشام بن عبد الملك، نظر إلى أهله يبكون حوله فقال: "جاء هشام إليكم بالدنيا وجئتم له بالبكاء، ترك لكم ما جمع وتركتم له ما حمل، ما أعظم مصيبة هشام إن لم يرحمه الله".

كنت أتحدَّث يوم الأحد الموافق 13-2-2011م مع الشاب نبيل الأسعد عبر الإنترنت، وتكلَّمنا بعدة أمور منها أنه أخبرني بأن موعد مقابلة زوجته في السفارة السويدية في روسيا بتاريخ 24/2/2011م لاستكمال إجراءات لم الشمل إذ قد تزوّج قبل أكثر من شهرين وكنت ممن حضر عرسه، وأيضًا تحدَّثنا بمواضيع أخرى، ثم أدركتني الصلاة فاستأذنت على أمل استكمال الحديث معه بعد الصلاة، إلا أنني انشغلت قليلًا ولم أتكلَّم معه بنفس اليوم ولا باليوم التالي ليصلني خبر كالصاعقة يوم الثلاثاء 15-2-2011م بأنه قد فارق الحياة بحادثٍ مروري، فصُعِقتُ وصُدِمت عندها من هول الفاجعة والخبر! فهذا حال الدنيا تجمع وتُفرِّق، تُباعِد وتُقرِّب تُكثِّر وتُقلِّل، فرحم الله أخي نبيل وجعل مثواه الجنة وزوجه من الحور العين.

فكم من فتى أمسى وأصبح ضاحِكًا *** وقد نسجت أكفانه وهو لا يدري
وكم من صحيح مات من غير علة *** وكم من سقيمٍ عاش حينًا من الدهر

فالموت لا يعرف صغيرًا أو كبيرًا، ولا غنيًا أو فقيرًا، ولا عظيمًا أو حقيرًا، وتكاد تنطبق على فلسطينيي العراق بالجملة من شدة التنقل والتشرذُّم والتفرُّق؛ الآية الكريمة {وَما تَدْرِي نَفْسٌ بأيّ أرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان من الآية:34] بشكلٍ جلي وظاهر، فكم إنسان استعد للسفر لدولة ما فبادره الموت قبل الوصول! وكم من إنسان بذل كل ما يملك للوصل لتلك الدولة فانقض عليه الموت، وكم شخص مات في الصحراء وهو ينتظر الهجرة الجديدة، وكم.. وكم.. فهل من مُعتبِر وهل من مُتعِظ؟!

اللهم هوِّن علينا سكرات الموت، وأحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، اللهم ارحم جميع موتى المسلمين، وأحسن مثواهم، وأكرم نزلهم، واغسلهم بالثلج والماء والبرد، ونقِّهم من الذنوب والخطايا كما يُنقَّى الثوب الأبيض من الدنس.

 

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام