حوارٌ مع صديقي المتعصب
محمد علي يوسف
في لحظةٍ يُسقط أي مخلوق الذين ما إن يختلف مع ما يتعصب له المرء حتى يصير احترامه وتقديره له في خبر كان. وهذا ما كان من أحبار اليهود الذين تغيروا على ذلك الرجل الذي كانوا يُثنون عليه قبل قليل، ورغم أن المنطق يقول أنه لا مانع من بعض الأخذ والرد والإقناع بالحسنى الذي يحتاجه أى مدعو خصوصًا إن كان يعتقد بشدة ما هو عليه إلا أن ما يدعو للدهشة هو ذلك الانهيار الكامل في نظرتهم للرجل والتي كان من المفترض أن يسبقه حتى بعض النقاش وربما الاستغراب لفعله؛ وسؤاله عن دوافعه وأسبابه أو حتى مناظرته فهو ليس نكرة بينهم بشهادتهم أنفسهم ولا بد أن لديه ما يقوله.
- التصنيفات: الآداب والأخلاق -
قال: أيُّ رجلٍ فيكم عبدُ اللهِ بنُ سَلامٍ؟
قالوا: أعلَمُنا، وابنُ أعلَمِنا، وأخيَرُنا، وابنُ أخيَرِنا.
قال: أفرأيتُم إن أسلَم عبدُ اللهِ بن سلام؟
قالوا: أعاذه اللهُ من ذلك!
فخرَج عبدُ اللهِ بن سلام إليهم فقال: أشهَدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ أنَّ محمدًا رسولُ اللهِ.
فقالوا: هو شرُّنا، وابنُ شرِّنا، ووقَعوا فيه!
كان هذا نص حوار دار بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين أحبار اليهود عندما دعاهم بعد إسلام عبد الله بن سلام ذلك الحبر الذي كان له بينهم شأن ومكانة كبيرة ظهرت في كلامهم عنه قبل أن يكتشفوا إسلامه بيد أن تلك المكانة قد تهاوت في لحظات بمعول التعصب، حتى صار فجأة شرَّهم وابن شرِّهم. وكذلك التعصب في كل زمان ومكان.
في لحظةٍ يُسقط أي مخلوق الذين ما إن يختلف مع ما يتعصب له المرء حتى يصير احترامه وتقديره له في خبر كان. وهذا ما كان من أحبار اليهود الذين تغيروا على ذلك الرجل الذي كانوا يُثنون عليه قبل قليل، ورغم أن المنطق يقول أنه لا مانع من بعض الأخذ والرد والإقناع بالحسنى الذي يحتاجه أى مدعو خصوصًا إن كان يعتقد بشدة ما هو عليه إلا أن ما يدعو للدهشة هو ذلك الانهيار الكامل في نظرتهم للرجل والتي كان من المفترض أن يسبقه حتى بعض النقاش وربما الاستغراب لفعله؛ وسؤاله عن دوافعه وأسبابه أو حتى مناظرته فهو ليس نكرة بينهم بشهادتهم أنفسهم ولا بد أن لديه ما يقوله.
لكن شيئًا من هذا لم يحدث..!
لقد صدر الحكم في لحظة ونقضوا سابق رأيهم مباشرة ووقعوا فيه بل حتى في أبيه لأنه خالف ما هم عليه!
إنه التعصب ذلك المرض العضال الذي يستشري في نفوس الكثيرين دون أن يشعروا، لذا دعني يا صديقي أسألك وأسأل نفسي معك بعض الأسئلة الكاشفة، ودعنا نحاول معا الإجابة عنها بصدق لعلنا نعرف هل تسرّب هذا الداء إلى نفوسنا أم لا؟
هل تشعر بالغضب حين تسمع أو تقرأ رأيًا يُخالِف رأيك أو وجهة نظر مغايرة لما أنت مُقتنع به؟
هل هذا الغضب دائم في كل خلاف، أم أنه يختلف حسب نوع الخلاف وطبيعته؟
وهل كل الخلاف في نظرك أمر عقدي دونه الرقاب أم أنك ممن يُفرِّقون بين أنواع الخلاف؟
وهل تسيء الظن بمخالفك، وتتسابق إلى ذهنك قائمة اتهامات لنيته وقصده، وتبدأ في محاسبته عليها، وقد ترسخ لديك أنها دوافعه المؤكدة لهذا الرأي أو الاختيار؟
هل تلاحظ تغير رأيك في الشخص، أو حتى تغير صدرك نحوه حين يخالفك، حتى لو كنت من قبل محبًا له؟
وإن كنت كذلك فبعد كم مخالفة تتغير نحوه؟
وهل مخالفة واحدة تكفيك أم أن حكمك تراكمي متزن؟
هل "استسهلت" وحكمت على مخالفك وصنفته فور اختلافه معك، أم أنك ناقشته وتبينت منطقه قبل إطلاق حكمك عليه؟
وهل تدخل النقاش فقط بغرض إقناع مخالفك، أم يكون لديك احتمال ولو يسير أن تغير رأيك بعد الحوار؟
هل تغضب لأشخاصٍ بأعيانهم دون غيرهم؟
وهل يختلف تقييمك ونظرتك للفعل وتقبله إذا صدر عمن تؤيدهم بخلاف ما إذا صدر بحذافيره عمَّن تخالفهم؟
هل تتذكّر متى كانت آخر مرة رأيت فيها أن من تؤيدهم أخطأوا؟ وهل أنكرت عليهم حينها وعاملتهم كما تعامل مخالفيك الآخرين، أم أن رد فعلك اختلف و"طنشت"؟
هل من طبيعتك إبدال رأيك بالكامل تماشيًا مع رأى من تؤيدهم كلما تبدل رأيهم أو تراجعوا عن مواقفهم التي كنت تدافع عنها منذ برهة لتعود وتُبرِّر مواقفهم الجديدة؟
وهل تتخلى عن خلقك وأدبك في الحوار وتخلعهما على عتبة الخلاف في الرأي، لتستبيح وصف مخالفك بكل منقصة؟
إن كانت الإجابة بـ "لا" على كل ما سبق أو أغلبه فهنيئًا لك، أنت متجرِّدٌ منصفٌ باحث عن الحق ملتزم بحدوده وآدابه وقيم الوصول إليه. لكن إن كانت الإجابة بـ "نعم" فللأسف أنت في مشكلة كبيرة.
إن دلالة وجود تلك الأفعال التي تضمنتها الأسئلة في تصرفاتك تشي بوضوح أنك لا تطيق الاختلاف، وأنك تُقدِّم سوء الظن في مخالفيك، ولا تضع اعتبارًا قط لكونهم قد يكونوا على حق، أو على الأقل طالبين للحق، وتشي أيضًا أنك توالي وتعادي على أشخاصٍ معينين، وتعرف الحق بهم ومن خلالهم، وتغلق عقلك وقلبك عن غيرهم.
باختصار تشي أنك متعصب يا صديقي. أقولها لك هكذا وعلى بلاطة.. إن كانت إجابتك على تلك الأسئلة بالإيجاب، وتقع في تلك الأمور التي تضمنتها أو بعضها، فللأسف الشديد أنت متعصب أو على الأقل فيك شيء من التعصب.
والتعصب يا عزيزي مرض خطير، ينبغي أن تدرك بشاعته لكي تستطيع التخلص منه، يكفي أنه يُورث نوعًا من أنواع العمى والصمم.
نعم عمى وصمم ولعلك سمعت بحديث "حبك للشيء يُعمي ويصم"، وهو على ما فيه من ضعف في الإسناد إلا أن صحة معناه تترسخ لدى كثير من الناس يومًا بعد يوم.
تترسخ ونحن نشهد تلك الأمور التي سألت نفسي وإيَّاك عنها في تلك الأسئلة التي قدَّمت بها للمقال، والتي صار بها الحب والاتباع عصبية مقيتة، تُعمي الأبصار عن رؤية أى حقيقة مخالفة، وتصم الآذان عن سماع أي رأي مغاير.
ذلك العمى والصمم عرَض بسيط ومبدئي لذلك المرض العضال، مرض "التعصب"، الذي لا يستشري في جسد أمة إلا وهنت، وتمزَّقت أطرافها، وصارت إلى ضعف وانتكاس فكري وحضاري محتوم، وربما يؤدي إلى كوارث أكبر حين تترجم تلك العصبية إلى كراهية وتنازع وفُرقة.
وبداية العلاج لأي مرض أن يعرف المريض أنه مريض وأن يستشعر حاجته للعلاج، وتلك هي أولى خطوات الإصلاح.
أن يعترف المرء بوجود مشكلة ومن ثم يكون راغبًا في التعامل معها وعلاجها وإلا ظل على تعصبه الذي يجعله في النهاية يخسر الجميع إلا النذر البسير ممَّن قرَّروا موافقته على طول الخط.. نعم يا عزيزي ستخسر كثيرًا إن أصررت على تعصبك إذ لا يعقل أبدًا يا عزيزي كلما اختلفت مع متبوعك -غير المعصوم- أو انتقدته أن أتحول في لحظات إلى عدوك اللدود وخصمك البغيض وأن أقع فريسة سبابك واتهامك وتصنيفك الجائر وأن تسقط فورًا كل فضيلة أو سابق مودة بيننا لمجرد أنني اختلفت أو حتى يا سيدي لو اعتبرتها أنني أخطأت.
ولا يُعقل أيضًا أن يكون هدفي من كل موقف تبنيته مخالفًا لقائدك أو متبوعك تشويهه أو تتبع زلاته وإبرازها كما يتبادر إلى ذهنك دومًا وربما إلى لسانك.
يحق لك بالطبع أن تدافع عن وجهة نظر متبوعك ما دمت مقتنعًا بها، لكن ما لا يحق لك بحالٍ من الأحوال أن تنتقص من خالفه، أو فنَّد رأيه، فتتهم نِيَّته أو تسبّه وتمتهن كرامته وتتحول دون أن تشعر إلى رجل شرطة يسعى للإمساك بالمخالفين باعتبار اختلافهم مع من يؤيدهم جريمة أو تهمة لا تغتفر.
عليك يا صديقي المنضوي تحت جماعة أو حزب أو المتبع لقائد أن تفرَّق بين من يختلف بأدبٍ ودون تجريح، وبين من يسبّ ويهين.
بين من يقارع حجة بحجة وينقد رأيًا ويفنده -وإن كان نقده لاذِعًا- وبين من يلتفت لشخص صاحب الرأي نفسه ويتفرّغ لامتهانه وتشويهه.
فإن وجدت من يُهين متبوعك وينتقص من عينه أو شخصيته -وليس رأيه- فحق لك حينئذ أن ترد غيبته إن كنت ترى تجاوزًا في حقه واعتداءً على عِرضه.
لكن أن تجد نقدًا وتفنيدًا لرأي متبوعيك، أو تساؤلات واستفسارت حول مواقفهم وخياراتهم، فتتداخل أنت لتسب وتشتم!
هذا ببساطة يا عزيزي لا يقال عنه إلا بلطجة فكرية، وتعصب أعمى.
فارقٌ كبير يا صديقي بين من ينقد بأدب ويختلف برقي ويقوّم من يراه أخطأ، وبين من يُشوِّه ويسيء ويهين مخالفيه، أو يختلف لمجرّد الاختلاف، وليس من حق مخلوق أن يتهم نِيَّة الخلق، أو يزعم ضمنيًا اطلاعه على غيب دوافعهم وأسباب اختلافهم، ومن ثم يصنفهم، ويحكم عليهم، ويسيء لذواتهم وأشخاصهم.
وينبغي أن تسأل نفسك يا صديقي عدة أسئلة قبل اتباعك لإنسان أو مجموعة من البشر فى حزب أو جماعة.. هل اتباعك لهم أعمى؟
وإن كنت قد قرَّرت أن يكون اتباعك له أو لهم ملزمًا لك فهل هو ملزم لغيرك؟
وهل متبوعك هذا منزّه عن الخطأ ولا يعتريه النقص والزلل؟
وهل صارت قناعتك به مبرّرًا أن تعلو به فوق البشر بحيث لا تتصوّر أن الحق جانبه وصادف غيره ولو فى بعض المسائل؟
وإن كنت أنت يا صديقي قد قرّرت وارتضيت أن يكون اتباعك لحزبك أو جماعتك أو قيادتك ملُزِمًا لك فهل هو ملزم لغيرك؟
ما شأني أنا كمخالِفٍ لك بخيارك هذا ولماذا تريد أن تفرضه عليَّ باتهام نيتي أو تشويهي حين أختلف معهم؟
دعني يا صديقي أجيبك أو أذكرك بالجواب الذي ربما تكون قد نسيته في زحام نضالك المقدس -في نظرك- ضد مخالفيك.
إن جماعتك أو حزبك أو قادتك ليسوا معصومين، ومن الممكن أن يخطئوا أو يسيئوا، ومن يختلف معهم أو يرى خطأهم ويردهم أو يُفنِّد مواقفهم وخياراتهم بل ولربما رفضها ورأي مذمتها ليس بالضرورة حاقدًا أو خائنًا، وطالما يختلف بأدب فعليك أنت أيضًا أن تجادله بالحسنى بل بالتي هي أحسن.
ينبغي عليك يا عزيزي أن تدرك أن متبوعك طالما أخرج رأيًا من بين شفتيه، وجهر به وطرحه على الملأ مجاوِزًا أسوار عقله، فقد صار قوله عُرضةً للنقد والقبول والرفض والتفنيد والأخذ والرد.
ويفترض أن متبوعك أو قائدك يفهم ذلك جيدًا، ولئن ظن يومًا أن رأيه مُنزَّه مُقدَّس، لا ينبغي لأحد ردّه، ولا يسع أحدًا رفضه فإنه قطعًا لا يستحق أن يتصدي للعمل العام. فهو بذلك من أهل تلك القاعدة الفرعونية التي يبدو للأسف أن الأجيال تتوارثها في بلادنا!
قاعدة: {مَا أُرِيكُمْ إِلا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلا سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر من الآية:29]..
قاعدة التعصب في كل زمانٍ ومكان.
عافنا الله وإيَّاك من التعصب والمتعصبين ..