الشخصية الإسلامية بين الثبات في المواقف والانهزامية

أيمن الشعبان

إن الأمة الإسلامية هذه الأيام بأمس الحاجة لمواقف راسخة ثابتة قوية، ولشخصيات واضحة مستقيمة قادرة على تحمُّل أعباء المرحلة الحرجة والمسؤوليات المتزايدة نتيجة الغثائية التي نمرّ بها، والضعف والوهن والتراجع، مع كثرة التلون والانهزامية، حتى أصبح بعض الرموز أو الشخصيات المعروفة بتنوع المجتمعات عالة على الأمة، بما لديهم من سلبية وبُعد عن ملامسة جراح الأمة والمؤامرات التي تُحاك ضدنا بمختلف الأصعدة.

  • التصنيفات: السياسة الشرعية - قضايا إسلامية معاصرة - أعمال القلوب - الإسلام والعلم -

الحمد لله العزيز القدير، والصلاة والسلام على نبينا السراج المنير، وعلى آله وصحابته أجمعين، أصحاب المواقف والجبال الرواسخ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:

كثيرٌ من الأمم والشعوب والمجتمعات بل والدول، التي تطمح للسيادة والعلو والتمكين والغلبة، تضع إستراتيجيات وتسلك طُرقًا مختلفة مادية ومعنوية، كل بحسب أيديولوجياته وما يمتلكه من وسائل القوة وآليات التقدُّم والتطور والوصول للهدف المنشود.

إن الصراع بين الحق والباطل.. التوحيد والشرك.. الخير والشر، منذ أن أوجد الله الخليقة، قائم على سنة التدافع والمُقدِّمات التي تسلكها كل فئة وما تؤول إليه من نتائج، وهنالك عنصر هامٌ جدًا في هذا النزال وتلك المعركة يبدأ من مستوى الفرد صعودًا إلى الأمة أجمع، ألا وهو الثبات على الموقف.. والاستقامة على الحق.. والاستمرار على المبدأ، وعدم التراجع والتنصل والتلون والتقهقر.

وقد حثّنا الله سبحانه وتعالى في أحلك الظروف وأصعب المواقف على الثبات إذ يقول جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال:45]، يقول العلامة السعدي رحمه الله "{فَاثْبُتُوا}: لقتالها، واستعملوا الصبر وحبس النفس على هذه الطاعة الكبيرة، التي عاقبتها العِزّ والنصر".

ويقول العلَّامة الشنقيطي رحمه الله في (أضواء البيان): "أمر الله تعالى المؤمنين في هذه الآية الكريمة بالثبات عند لقاء العدو، وذكر الله كثيرًا مشيرًا إلى أن ذلك سبب للفلاح. والأمر بالشيء نهي عن ضده، أو مستلزم للنهي عن ضده، كما علم في الأصول، فتدل الآية الكريمة على النهي عن عدم الثبات أمام الكفار".

الأمة الإسلامية في عصورها الذهبية ملكت هذه الدنيا، وضربت أروع الأمثلة في نشر العدل والأمان والعيش الرغيد للمسلمين ولكل من عاش في كنف تلك الدولة القوية، وما ذلك إلا لثباتهم وتمسكهم بعوامل النصر والغلبة والتمكين، من الاستقامة على تعاليم الدين والحرص على الصدع بالحق دون مداهنة أو مجاملة أو محاباة.

إن الأمة الإسلامية هذه الأيام بأمس الحاجة لمواقف راسخة ثابتة قوية، ولشخصيات واضحة مستقيمة قادرة على تحمُّل أعباء المرحلة الحرجة والمسؤوليات المتزايدة نتيجة الغثائية التي نمرّ بها، والضعف والوهن والتراجع، مع كثرة التلون والانهزامية، حتى أصبح بعض الرموز أو الشخصيات المعروفة بتنوع المجتمعات عالة على الأمة، بما لديهم من سلبية وبُعد عن ملامسة جراح الأمة والمؤامرات التي تُحاك ضدنا بمختلف الأصعدة.

ما دعاني لطرق هذا الموضوع وكتابة هذه السطور عسى الله أن ينفعنا بها جميعا؛ كثرة المتهاوين المنهزمين المتخلين عن مناهجهم ومعتقداتهم ومبادئهم بل وسلوكهم هذه الأيام، وإغراقهم بهذه الحياة التي طغت عليها الماديات، بل والأدهى من ذلك تبرير العديد منهم هذا التقاعس والنكوص والرضا بالدون، بمبرِّراتٍ أوهى من بيت العنكبوت والله المستعان.

إن هذا الدين العظيم نُقل إلينا على أكتاف رجال عِظام اختارهم الله لهذا الحمل الثقيل {صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيْهِ}[1] ولم يتوانوا أو يستكينوا، وكان لرباطة جأشهم وثباتهم في الملمات وبذلهم الغالي والرخيص وتضحياتهم الأثر الكبير في ذلك، حتى توارثت الأجيال من بعدهم هذه القصص والعِبر والصور المشرقة المضيئة، بل واقتدوا بهم بصمودهم بصبرهم بمواقفهم وصاروا مثلًا يُحتذى بهم.

والله إني لأقف مذهولًا كلما تأمَّلت موقف تلك النملة الثابتة التي تحمّلت مسؤوليتها فأنقذ الله بسببها أمة كاملة،"نملة نكرة -يا أخي الكريم- أنقذت أمة، نملة حملت هم أمة فأنقذتها، وهى نكرة لا شأن لها، وأنقذ الله -جل وعلا- هذا الوادي على يديها. إذًا يا أخي الكريم والله من السهل جدا أن تحمل غيرك المسئولية فيما يحاق بالأمة، ولكن كن صريحًا، وكن جريئا أنت ماذا تفعل؟ أنت ماذا قدَّمت؟ أنت ماذا فعلت؟ نملة نكرة، وأنت ألا تستطيع يا أخي الكريم أن تفعل مع أمتك ما فعلته هذه النملة مع بني قومها" (من كلام الشيخ: ناصر العمر في كتاب النملة، ص: [7]).

وحتى تتجلى الصورة وتتضح أكثر، سنذكر مواقف من روائع الثبات، والصبر والعزيمة عند المُلمَّات، حتى ارتقوا إلى رموزٍ وقدوات، يُحتذى بهم في كل الفترات، ونأخذ العِبر والمواعظ من قصصهم والعَبَرات، فتأمَّل تلك الصور المشرقات:

ثبات النبي عليه الصلاة والسلام في دعوته:

قام عليه الصلاة والسلام بأمره لوحده والوحدة بحد ذاتها أمر موحش ومضعفة للهِمَم لكنه سار في الطريق وكأنه معه جيش عرمرم، أوصاه الله عز وجل فقال: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ}[2] وسيرة النبي عليه الصلاة والسلام وجهاده وثباته وصبره لأكبر شاهد على العزيمة والاستقامة والمواصلة.

"كان النبي صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه بالموقف فقال: «ألا رجل يحملني إلى قومه، فإن قريشًا قد منعوني أن أُبلِّغ كلام ربي» (صحيح الترمذي)، ومع ذلك فسيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم مليئة بالمواقف الشجاعة وحُسن الثبات ورباطة الجأش.

ومما كان يدعو عليه الصلاة والسلام: «اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل» فضد العجز هو الثبات، والعجز هو الضعف هو الهوان.. الخور.. الاستسلام.. الخنوع والرضى بالواقع بعجره وبجرِّه من غير أن يكون للمسلم المؤمن صاحب المبدأ موقف وكلمة.

وكما في صحيح مسلم يقول عليه الصلاة والسلام: «المؤمن القوي أحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل الخير» استعن بالله ولا تعجز.

موسى عليه السلام والسحرة:

وقد قصّ الله سبحانه علينا في غير ما موضع قصة موسى عليه السلام، حتى يقول أهل التفسير والسير فجاء السحرة في ثمانين ألفًا ولم يكن مع موسى إلا هارون، ومع ذلك حينما ألقى السحرة سحرهم سحروا عين موسى نفسه مشهد عجيب {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَى} [الأعراف:67]، فماذا قال الله له هل قال ارجع الآن حتى تعد نفسك واعتزل الناس وانصرف عنهم؟! لا.. {قُلْنَا لَا تَخَفْ} اثبت ولو قفز قلبك من محجره، لماذا؟ {إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى} [الأعراف:68]، فيجب أن تكون ثقتك بالله عز وجل كبيرة لا كما يُشاع ويعرف وينتشر (الثقة بالنفس) فالنفس تتقلّب وتتغيّر وتتأثر، فالثبات من الله عز وجل أولًا وآخرًا مع أخذك بالأسباب.

أبو بكر الصديق وجيش أسامة رضي الله عنهم:

بعد وفاة النبي عليه الصلاة والسلام ومبايعة المسلمون الخليفة الأول أبو بكر الصديق رضي الله عنه، بدأت محنة جديدة وامتحان صعب، إذ ظهر مدعي النبوة، وارتد من ارتد من جزيرة العرب، وظهور مانعي الزكاة، وكان عليه الصلاة والسلام قد جهَّز جيش بقيادة أسامة رضي الله عنه لغزو الروم، حيث اقترح بعض الصحابة بأن يبقى الجيش في المدينة لخوفهم من القضاء عليه وبالتالي تستباح المدينة إلا أن أبا بكر خالف ذلك وأمر بإمضاء بعث أسامة، وقال: "لو خطفتني الكلاب والذئاب لم أرد قضاء قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم".

وذكر صاحب كتاب العواصم من القواصم "أن أبا بكر رضي الله عنه قال لأسامة: انفذ لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عمر: كيف ترسل هذا الجيش والعرب قد اضطربت عليك؟! فقال: لو لعبت الكلاب بخلاخيل نساء المدينة، ما رددتُ جيش أنفذه رسول الله صلى الله عليه وسلم".

فكان لهذا الموقف الراسخ الثابت الأثر الطيب والفتوحات بعد ذلك، مع أن غالبية الصحابة رأوا خلاف هذا، فتأمَّل.

أبو سعيد الخدري رضي الله عنه ومروان في صلاة العيد:

خرج في العيد مروان بن الحكم والي المدينة آنذاك، وأراد تقديم الخطبة على الصلاة ومخالفة السنة بذلك لتأويل ما، فجذبه أبو سعيد رضي الله عنه من ثوبه مُنكِرًا عليه هذا الفعل والتصرُّف، حيث أخرج الإمام البخاري في صحيحه: "قال أبو سعيد: فلم يزل الناس على ذلك حتى خرجت مع مروان وهو أمير المدينة في أضحى أو فطر، فلما أتينا المصلى إذا منبر بناه كثير بن الصلت، فإذا مروان يريد أن يرتقيه قبل أن يصلي فجبذت بثوبه فجبذني، فارتفع فخطب قبل الصلاة، فقلت له: غيَّرتم والله، فقال أبا سعيد: قد ذهب ما تعلم، فقلت: ما أعلم والله خير مما لا أعلم، فقال: إن الناس لم يكونوا يجلسون لنا بعد الصلاة فجعلتها قبل الصلاة".

الصحابي الجليل سعد بن مالك رضي الله عنه لم يُداهِن أو يُجامِل، فقال قولته ونهى عن منكر.

أسماء ذات النطاقين رضي الله عنها والحجاج:

امرأة قد تجاوزت المائة عام من عمرها، وبلغها نبأ صلب ولدها عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما من قبل الحجاج الذي طلبها ليتشفَّى بها، فأبت أن تأتيه فأعاد إليها الرسول: لتأتينني أو لأبعثن إليك من يسحبك من قرونك. فأبت وقالت: "والله لا آتيه حتى يبعث إلي من يسحبني بقروني، فما كان من الحجاج إلا أن رضخ لصلابتها، وانطلق حتى دخل عليها، فقال: أرأيت كيف نصر الله الحق وأظهره؟ قالت: ربما أُديل الباطل على الحق وأهاه.

قال: كيف رأيتني صنعت بعدو الله.

قالت: أراك أفسدت على ابني دنياه، وأفسد عليك آخرتك.

قال: إن ابنك ألحد في هذا البيت، وقد قال الله: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}[3]، وقد أذاقه الله ذاك العذاب الأليم.

قالت: كذبت. كان أول مولود وُلِدَ في الإسلام بالمدينة، وسُرَّ به رسول الله وحنَّكه بيده، وكبَّر المسلمون يومئذ حتى ارتجت المدينة فرحًا به، وكان برًّا بأبويه صوامًا قوامًا بكتاب الله، مًعظمًا لحرم الله، مبغضًا لمن يعصي الله - أما إن رسول الله حدثني أن في ثقيف كذَّابًا ومبيرًا، فأما الكذاب فقد رأيناه -تعني المختار بن عبيد الثقفي-، وأما المبير فلا أخالك إلا إيَّاه..

فخرج الحجاج من عندها مُنكسِرًا يتمنى لو لم يكن لقيها، بعد أن دخل عليها مزهوًا يريد أن يتشفَّى.

هذه أسماء العجوز في سن المائة، وهذا هو الحجاج الجبار في أوج انتصاره وعنفوان طغيانه.

إن الإيمان في قلبها جعله في عينها يتضاءل ويتضاءل حتى صار شيئًا صغيرًا كالهباء، وجعلها في عينه تمتد وتستطيل حتى صارت شيئًا كبيرًا كالمارد العملاق.

وبلغ عبد الملك بن مروان ما صنع الحجاج مع أسماء فكتب إليه يستنكر فعله، ويقول ما لك وابنة الرجل الصالح؟ وأوصاه بها خيرًا، ودخل عليها الحجاج فقال: يا أُمّاه، إن أمير المؤمنين أوصاني بك فهل لكِ من حاجة؟

قالت: لستُ لك بأمٍّ، إنما أنا أُمّ المصلوب على الثنية، وما لي من حاجة" (شبكة الدفاع عن السنة).

الصحابي الجليل حبيب بن زيد ومسيلمة الكذاب:

الصحابي الجليل حبيب بن زيد بن عاصم رضي الله عنهما، من السبعين الذين حضروا بيعة العقبة الثانية، وأمه نسيبة بنت كعب (أم عمارة) إحدى المرأتين اللتين بايعتا رسول الله في هذه البيعة، ولم يكن حبيب يتخلف عن غزوة ولا وقعة مع رسول الله عليه الصلاة والسلام.

وعندما ظهر مسيلمة الكذاب في اليمن وادّعى النبوة، بعث عليه الصلاة والسلام برسالة إليه وكان الاختيار على حبيب بن زيد بحملها وعندما قرأ مسيلمة الكتاب ازداد في ضلاله وتكبره وغروره، فقام بتعذيب مبعوث رسول الله في يوم مشهود وآثار التعذيب واضحة فقال مسيلمة لحبيب: أتشهد أن محمدًا رسول الله؟ قال حبيب: نعم أشهد أن محمدًا رسول الله، وعلا وجه مسيلمة الخزي والصفرة، وعاد يسأله: وتشهد أني رسول الله؟ فأجاب حبيب باستهزاء: أني لا أسمع شيئًا! فما كان من مسيلمة إلا أن نادى جلَّاده ثم راح يُقطِّع جسد حبيب رضي الله عنه قطعة قطعة وعضوًا عضوًا وحبيب لا يزيد عن ترديد "لا إله إلا الله محمد رسول الله".

ثم أقسمت أُمّه رضي الله عنهم جميعًا أن تثأر لولدها، ففي يوم اليمامة خرجت أم عمارة مع ولدها عبد الله تحت أمرة خالد بن الوليد، وبيدها سيف وبالأخرى رمح، وقطعت يدها وجرحت اثني عشر جرحًا وقُتِلَ عدو الله مسيلمة.

كان بالإمكان لحبيب المراوغة مع مسيلمة وإظهار شيء آخر، لكن الثبات واليقين والأخذ بالعزيمة، يفعل بأصحابه الأعاجيب!

سلطان العلماء العِزّ بن عبد السلام وقوته في إنكار المنكر:

"شيخ الإسلام والمسلمين وأحدُ الأئمة الأعلام سلطان العلماء، إمامُ عصره بلا مدافعة القائم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في زمانه، المطَّلِع على حقائق الشريعة وغوامضها العارف بمقاصدها، لم يرَ مثل نفسه ولا رأى من رآه مثله علما وورعًا وقيامًا في الحق وشجاعة وقوة جَنان وسلاطة لسان" (طبقات الشافعية، السبكي، ص: [8/103]).

"طلع شيخنا عِزَّ الدين مرة إلى السلطان في يوم عيدٍ إلى القلعة فشاهد العساكر مصطفين بين يديه ومجلس المملكة وما السلطانُ فيه يوم العيد من الأبَّهة وقد خرج على قومه في زينته على عادة سلاطين الديار المصرية، وأخذت الأمراء تقبِّلُ الأرض بين يدي السلطان فالتفت الشيخ إلى السلطان، وناداه: يا أيوبُ ما حُجَّتُك عند الله إذا قال لك: ألم أُبوئ لك ملكَ مصر ثم تبيح الخمور؟ فقال: هل جرى هذا؟ فقال: نعم، الحانة الفُلانية يُباع فيها الخمور، وغيرها من المنكرات وأنت تتقلّب في نعمة هذه المملكة! يُناديه كذلك بأعلى صوته والعساكر واقفون، فقال: يا سيدي هذا أنا ما عملته هذا من زمان أبي، فقال أنت من الذين يقولون: {إنَّا وَجَدنا آباءَنا على أمَّة} فرسم السلطان بإبطال تلك الحانة" (طبقات الشافعية، السبكي، ص: [8/106]).

المُحدَّث أحمد محمد شاكر وخطيب مسجد عبدان:

موقف يذكره المُحدَّث أحمد محمد شاكر في كتابه (الكلمة الحق، ص: [149] وما بعدها) عن والده الشيخ محمد شاكر حيث يقول: "إن السلطان فؤاد كان يصلي الجمعة في العابدين، فاستحضروا الشيخ محمد المهدي خطيب مسجد عبدان؛ لأنه كان خطيبًا مُفوهًا، وكان السلطان يحب أن يصلي وراءه دائمًا، دعته الأوقاف ونقلته إلى مسجد آخر حتى يخطب الجمعة، وصادف في هذه الفترة أن طه حسين عميد الأدب العربي، أتى بالدكتوراه في اللغة العربية من فرنسا، فشل في أن يأخذها في بلاد العرب فأخذها في بلاد الأعاجم. فأراد الخطيب محمد المهدي أن يُثني على الملك فؤاد بمناسبة أنه قادم يصلي الجمعة، فقال يمتدح الملك فؤاد: ما عبس وما تولّى لمَّا جاءه الأعمى. الأعمى: هو طه حسين، ما عبس فيه ولا تولّى، بل هشّ له وبش، وأرسله إلى فرنسا يحضر الدكتوراه. وبعد أن صلوا الجمعة قام الشيخ محمد شاكر والد الشيخ أحمد شاكر-وكان وكيل الجامع الأزهر- وقف وقال: أيها الناس! صلاتكم باطلة والخطيب كافر، فأعيدوا الصلاة؛ حدث هرج ومرج والسلطان واقف، وهو يقول: أيها الناس! صلاتكم باطلة وخطيبكم كافر..

وبعد ذلك إمام مسجد عابدين رفع إلى السلطان الفتوى يأمره بصلاة الظهر، وكان هذا الرجل -محمد المهدي- له ظهر وله مستشارون، فأقنعوه أن يرفع شكوى ضد الشيخ محمد شاكر..

الشيخ محمد شاكر أفتى بهذا لأن في قول الخطيب تعريض بمقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أي: أن الملك فؤاد صنع أفضل مما صنع النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنه لما جاء ابن أم مكتوم عبس وتولّى، ولما جاء طه حسين إلى الملك فؤاد ما عبس ولا تولّى، قال: هذا تعريض في مقام النبي صلى الله عليه وسلم ولا يجوز وإن كان الخطيب يعتقد ذلك فهو كافر..

وأرسل الشيخ محمد شاكر إلى مستشرقين أجانب ممن لهم خبرة بدلالات الألفاظ على المعاني، وأراد أن يستقدمهم ليقول لهم: هل استخدام الخطيب لهذه العبارة فيها تعريض بالمقام النبوي أم لا؟ ولم يرجع لشيخ من شيوخ الأزهر حتى لا يقال: انحازوا له..

فلما علم أن القضية في النهاية ستحدث فتنة وخسرانًا فيها محمد المهدي وقد أذلَّه الله، قال الشيخ أحمد شاكر: وأقسم بالله لقد رأيت هذا بعينيّ، طال الزمان بالرجل محمد المهدي -والذي كان من أشهر خطباء مصر، حتى إن الملك فؤاد كان يحرص على الصلاة عنده- فلقد رأيته خانعًا ذليلًا فرَّاشًا لأحد المساجد يتلقّى نعال المصلين، فتواريتُ عنه وهو يعرفني وأنا أعرفه؛ حتى لا يراني، فلستُ مُشفِقًا عليه فلم يكن يومًا موضعًا للشفقة".

لقد جاءنا هذا الدين على أشلاء أناس فتأمَّلوا آثارهم وقِصصهم ومواقفهم وثباتهم، ولم يأتِ هذا الدين إلينا لولا هذه المواقف والبطولات الرائعة، فهذه نماذج منيرة وصور مُشرِقة، أضاءت لنا طريق الاستقامة، ونوّرت لنا سبيل الحق والثبات، علنا ننتفع بها وأمثالها كثير وقد تركنا العديد منها خشية الإطالة، وكما قيل:

العبد يُقرع بالعصى *** والحُر تكفيه الإشارة
تشبهوا إن لم تكونوا مثلهم *** إن التشبه بالكرام فلاح

ولله در القائل:
إذا بلغتك صفات امرء فكنه *** يكن فيك ما يعجبك
فليس على الجود والمكرمات *** إذا جئتها حاجب يحجبك

إن المُتأمِّل بواقع الأمة الإسلامية هذه الأيام وما تعرَّضت له من انتكاساتٍ نتيجة الضعف والهوان والغثائية، يجد تراجعًا كبيرًا وانحدارًا خطيرًا وفتورًا شديدًا وسُباتًا عميقًا، لا سيما بين العديد من الأوساط الواعية والمثقفة والمحصّنة والملتزمة، من نوعياتٍ ورموز وشخصيات لها حضور في مجتمعاتها وإن صغُرت، وحدِّث ولا حرج عن تهاوي وتساقط الكميات، والله المستعان..!

من أبرز الأسباب والعوامل والمُقدِّمات التي أوصلتنا لهذه المرحلة وتلكم النتائج، عدم الاستقامة والثبات على العقيدة والمنهج والسلوك الصحيح، والتلوُّن والتأرجُّح بين أمواج متلاطمة من الأفكار الدخيلة المُنحرِفة، والعقائد المضطربة، وسلوكيات ضبابية غير واضحة تتأثر بما يدور حولها من أحداث، وفي كثير من الأحيان تُقدِّم المصالح الفردية أو الحزبية والفئوية أو العنصرية أو بعض الأحيان العائلية والعشائرية بل والتجارية، إذا تعارضت مع المصالح الشرعية العامة والقواعد الكلية.

وتظهر جليًا حقيقة الثبات على دين الله والمبدأ والمنهج وتستبين وتتضح عند أمرين في الغالب:

الأول: عند المغريات، حينما يُعرض على الإنسان ذلك المنصب أو الجاه أو المال تجد عنده الاستعداد الكامل أن يغير مواقفه وثوابته ومبادئه وأخلاقه، في سبيل أن يتحصل على هذه المغريات.

وهنا للأسف تتكشف تلك الدعاوى التي يتبناها ذلك الإنسان، والمبادئ الأساسية التي يتبناها وقد تعلَّمها في مطلع التزامه أو تعلُّقه بهذا المنهج والمعتقد، وتتعرّى وتنهار أمام تلك المغريات.

ثانيًا: عند مقابلة المِحن والابتلاءات ومواجهة الفتن والتقلبات، كأن يُهدَّد بالسجن أو قطع معاشه أو أحيانًا بالقتل، أو يضعف أصحاب المنهج السوي والمعتقد النقي في تِلكم المنطقة لأسبابٍ طارئة، فتجده يتنازل عن بعض المبادئ التي كان يؤمن بها وينادي، في سبيل أن يحمي نفسه حتى لا يصل الى حبل المشنقة، أو يحافظ على كيانه وحضوره ومصالحه وعلاقاته حتى لو كانت على حساب دينه وثوابته، نعوذ بالله من الحور بعد الكور.

ولحذيفة بن اليمان رضي الله عنه وأرضاه مقولة نفيسة ووصية جامعة في بابها تكتب بماء الذهب، فعن خالد بن سعد أن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه لمَّا حضرته الوفاة دخل عليه أبو مسعود الأنصاري رضي الله عنه فقال: يا أبا عبد الله، إعهد إلينا، فقال حذيفة: "أو لم يأتك اليقين، إعلم أن الضلالة حق الضلالة أن تعرف ما كنت تُنكِر، وأن تُنكِر ما كنت تعرف، وإيَّاك والتلوُّن في دين الله، فإن دين الله واحد" (شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائي، رقم: [107]).

فمهما يتعرَّض المرء لتقلُّباتٍ وتغييرات طارئة من شأنها التأثير سلبًا على دينه أو استقامته أو ثباته، يُفترض أن لا يُراوغ ولا يتلوَّن ولا يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل كما بين عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: «ليغشين أمتي من بعدي فتن كقطع الليل المظلم يصبح الرجل فيها مؤمنًا ويُمسي كافرًا يبيع أقوام دينهم بعرض من الدنيا قليل» (صحيح الجامع، رقم: [9591]).

هل تعرفون كيف يُنقّى الذهب بعد استخراجه من باطن الأرض، يُوضع في فرن تصل درجة حرارته إلى 5000 درجة مئوية، فيُصفَّى ويُنقّى من الشوائب وهذا يُسمَّى فتنة، ففي المِحن تُصقَل القلوب وتُهذَّب النفوس وتظهر المعادن على حقيقتها. ‌

والثبات هو دواء الفتن وعلاجها، وإلا سقط أحدنا في بُنيات الطريق، وسنة الله عز وجل ماضية فعلينا الثبات وعدم الانهزام النفسي من الداخل لأدنى شيء، فإذا لم يثبت من يحمل العقيدة الصافية والمبادئ السامية والأخلاق الرفيعة والمشهود لهم بالخير والعلم والصدق والسخاء واليقين فمن سيثبت إذًا؟!

والمُتأمِّل لسيرة عظمائنا وقادتنا وعلمائنا من السلف الصالح، يجد بأنهم ثلة قليلة وحفنة يسيرة من الصادقين فتح الله بهم الدنيا لأنهم ثبتوا، فالثبات يجرّ إلى النصر فاثبت أولًا يثبتك الله في المواقف والمُلمَّات، فمن لم يثبت فليحمل نفسه على الثبات.

وكان أيضا يُكثِر عليه الصلاة والسلام من دعائه: «اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك»، فتامَّل ذلك جيدًا رسول الله عليه الصلاة والسلام يُكثِر من هذا الدعاء فكيف بِنا والناظر لحال معظم المسلمين وكأنه لديهم صك الثبات عياذًا بالله، فلا يقل أحدنا أنا على خير كبير ونعمة عظيمة وثبات دائم، فقلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يُقلِّبها كيف يشاء، وما سُمِّي القلب قلبًا إلا لكثرة تقلُّبِه، نسأل الله الثبات والاستقامة والعفو والعافية.

يقول الشيخ أحمد محمد شاكر رحمه الله: "نريد أن نقول كلمة الحق في شؤون المسلمين كلها، نريد أن ننافح عن الإسلام ما استطعنا، بالقول الفصل والكلمة الصريحة، لا نخشى فيما نقوله أحدًا إلا الله. إذ نقول ما نقول في حدود ما أذن الله لنا به، بل ما أوجب علينا أن نقوله، بهدي كتاب ربنا وسنة رسوله" (كتاب: كلمة الحق، ص: [12]).

كتائب الأحرف البيضاء قادمة *** يزفُّها قلم يزهو به ورقُ
صهيله قلم يُصغي الزمان له *** ونقعه لحجاب الشمس يخترق

وسرجه كلمات لا يخالطها *** زيفٌ ولا يرتمي في حضنها نزقُ
مسافرٌ والأماني البيض لاهثة *** وراءه وبحار الشوق تصطفِقُ

إن انهزامية الفرد المسلم من الداخل لَداءٌ عضال ومرضٌ فتَّاك، ينخر في قوة الأمة ووحدتها وعِزَّتها، ويضعف حصانتها من تسلّل شبهات الأعداء وتنفيذ مؤامراتهم ومخططاتهم ومكرهم المتواصل ليل نهار الذي تكاد تزول منه الجبال، حتى بات المسلم المنهزم داخليًا عالة وعبئ على الدين والعقيدة بل والمجتمع، لأنه أضاع وتخلى عن ثغرة كان من المفترض أن يسدها لا سيما في شدة الأزمات.

إن من لوازم ومقتضيات بل أساسيات العقيدة السليمة والمنهج السوي المعتدل والسلوك القويم، أن يتبلّور بشخصيةٍ قويةٍ صلبةٍ ثابتةٍ راسخةٍ شامخة، لا تهاب ولا تخشى في الله لومة لائم، لا تعرف للانهزام طعمًا ولا للخذلان لونًا ولا للتقهقر شكلًا ولا للتقلُّب والتلوُّن حالًا، كما حثّنا الله عز وجل على التمسك بوحيه بل وبالغ في ذلك إذ قال جل وعلا: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} [الأعراف:170]، وقال في موضعٍ آخر: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الزخرف:43].

قال ابن عاشور في تفسيره (التحرير والتنوير): "لمّا هوّن الله على رسوله صلى الله عليه وسلم ما يلاقيه من شدة الحرص على إيمانهم ووعده النصر عليهم فَرّع على ذلك أن أمره بالثبات على دينه وكتابِه وأن لا يخورَ عزمه في الدعوة ضجرًا من تصلبهم في كفرهم ونفورهم من الحق. والاستمساك: شدة المسك، فالسين والتاء فيه للتأكيد. والأمر به مستعمل في طلب الدوام، لأنّ الأمر بفعل لمن هو مُتلبس به لا يكون لطلب الفعل بل لمعنى آخر وهو هنا طلب الثبات على التمسك بما أوحي إليه كما دلّ عليه قول: {إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}" أ.هـ.

نجد البعض كان على خير كبير وتقوى وطاعة وسمتٌ حَسن والتزام ومواظبة ومنهج طيب، إلا أنهم مع مرور الوقت وإطالة الأمد وغلبة أهل الباطل وإدالتهم على أهل الحق وصولتهم عليهم، وضعف مظاهر السنة وكثرة الشرك بالله عز وجل والبدع ومظاهر الإنحراف والأفكار الدخيلة بل المعقدات الإلحادية والكفرية؛ كل ذلك ينعكس على ثبات هذا المسلم ويتزعزع إيمانه ويتغير تفكيره ويغلب جانب الانهزام النفسي والداخلي على جانب الرسوخ والصبر والثبات وتحمل الأعباء الثقيلة، لذلك عندما سُئل عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} قال: "استقاموا على أمر الله ورسوله ولم يراوغوا روغان الثعالب".

والأغرب من هذا كله أن تجد البعض يبدأ ينظّر ويتشدق بالكلام، ويتفلسف ويحشد المُبرِّرات لإثبات الحق لجانبه، وأنه الصواب وما دونه باطل وخطأ، وأن تصريحاته وتصرفاته تنم عن حكمة وفطنة وكياسة فيُصدِّقه ضعاف النفوس ومن طُمست فطرهم، فيُزيِّن الباطل لهم وقد تخلّى شيئًا فشيئًا عن العديد من الثوابت وانسلخ مما كان عليه بل صار منطقه لا يختلف عن الفساق وأصحاب البدع والضلالات والأهواء!

فلا تأمَن أخي الحبيب من الفتن ولا تقل سأنجو منها بقوتي بفهمي بعقلي السديد، بمالي بعشيرتي بعلاقاتي الواسعة كلَّا وحاشا، فوالله وبالله وتالله إذا لم تستعن بالله الواحد القهار وتطلب الثبات منه فأنت على خطر ووجل كبير، لذلك قال تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام: {وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا} [الإسراء من الآية:73].

ولقد صدق من قال:

الطُرق شتّى وطُرق الحق مفرَدةٌ *** والسالكون طريق الحق أفراد
لا يعرفون ولا تدري مقاصدهم *** فهم على مهل يمشون قصاد
والناس في غفلة عما يراد بهم *** فجلهم عن سبيل الحق رقاد

إن كثيرًا من المجاملات والتملُّق الحاصل من البعض على حساب قواعد ثابتة ومبادئ أساسية، {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَىٰ شَيْءٍ}[4] إن هذا خذلان وما بعده من خذلان، ولو تفحصنا أحوال هؤلاء لوجدنا تنازلًا تلو التنازل وتراجعًا في المبادئ، وضعفًا في الدفاع عن الدين من شكوك المشككين وطعن الطاعنين وتحريف الغالين، حتى تستوي عندهم السنة والبدعة ولو بلسان الحال الذي يكون غالبًا أنطق من لسان المقال فتأمَّل.

قد يصل الحال لدى البعض أن يكون سلبيًا ويقف موقف المُتفرِّج إذا انتُهِكت حُرمات الله، والكل يسمع ويشاهد في هذا الزمان كيف يُطعَن بعِرض النبي عليه الصلاة والسلام وأزواجه ويتم تكفير صحابته الكرام، من قِبَل من لا خلاق لهم، حتى صار عياذًا بالله الأمر مقبولًا لا تحمرّ له وجوهنا ولا ترتعِد فرائصنا ولا تتفطّر قلوبنا، حتى أصبح أمرًا عاديًا ولا ندري إذا كان هذا نوعًا من أنواع التطبيع المقيت {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُور} [الحج من الآية:46].

يقول عليه الصلاة والسلام: «سيأتي على الناس سنواتٌ خدَّاعات؛ يُصدَّق فيها الكاذب، ويُكذَّب فيها الصادق، ويُؤتمَن فيها الخائن، ويُخوَّن فيها الأمين، وينطِق فيها الرويبضة» قيل: وما الرويبضة؟ قال: «الرجل التافه يتكلم في أمر العامة» (صحيح الجامع، رقم: [5963]).‌

فليس كل من ارتقى منبرًا أو تصدَّر مجلسًا أو أُشير له بالبنان أو تشدَّق وتفيهق بالكلام، يكون قدوة أو يُسمع له في كل ما يقول، كلَّا وحاشا، بل اعرف الحق تعرف أهله، ولا يُعرف الحق بالرجال أو المؤسسات والجمعيات والروابط والأحزاب والمسميات ومن يُشار إليهم بالبنان أو يتصدَّرون الفضائيات والملتقيات والمؤتمرات والمهرجانات، بل الحق مع من كان على مثل ما عليه صحابة النبي عليه الصلاة والسلام من غير تبديلٍ ولا تحريفٍ ولا تأويلٍ ولا تزييفٍ ولا تنصُّلٍ من واجب أو تأخر في مهم.

وإن أشد ما في الفتن أن لا يدري المرء من أين يُطعن ولا من أين يُغمز ولا من أين يُدخل عليه، فيكون على العين والرأس ويتملَّق له إذا كان عنده مصلحة، وبخلاف ذلك فلا يُبالي بالوقيعة والنقيصة والتشهير فيكون في صف من لا خلاق لهم ضد أخيه المسلم، والفتن عياذًا بالله قد ادلهمت نعم وقد تلتمس العذر لغيرك لكن ينبغي أن نعمل، فإذا أقبلت عليك الفتنة فاستعد لها وإذا واجهتك فواجهها وإذا جاءت كالبحار وأمواجها فكن بقدر المسؤولية فلا تكن في صف المنهزمين المخذلين المنبطحين المتقاعسين.

أدافع عن دينٍ عظيم وهبته *** عطاء مُقِلّ مهجتي وفؤاديا

قال الحسن البصري رحمه الله: "إن هذه الفتنة إذا اقبلت عرفها كل عالِم، وإذا أدبرت عرفها كلّ جاهل" فالعبرة بمعرفة الفتنة إذا اقبلت لا أذا أدبرت.

فالعلم الأصيل المبني على فهم دقيق عميق لدين الله عز وجل، بعيدًا عن ردود الأفعال والعواطف الآنية، يعصم صاحبه من الخوض في الفتن، ويكون سدًا منيعًا وحِرزًا حصينًا من الإنهزام النفسي الداخلي، {وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة من الآية:296].

كُنَّا جبالًا وفي الجبال لربما *** سِرنا على موج البحار بحارا
لم نخشَ طاغوت يُحاربنا *** ولو نصب المنايا حولنا أسوارا
ندعوا جهارًا لا إله سوى الذي *** خلق الوجود وقدَّر الأقدارا

إن كثرة التقلُّب والتنقل وعدم وضوح الهدف المنشود والنظرة الضيقة في الأمور وتقديم الماديات على الشرع والدين، يضعف حصانة النفس من الفتن، ويجعلها أكثر عرضة للإنهزام حتى تصبح سِمة غالبة عليه، لذلك يبرز في مثل هذه الظروف والملابسات الانتهازيين وهم أشد فتكًا وتضييعًا وتمييعًا للدين من غيرهم، وهذا من أشراط الساعة فمن حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: «والذي نفس محمد بيده! لا تقوم الساعة حتى يظهر الفُحش والبخل، ويُخوَّن الأمين، ويُؤتمَن الخائن، ويهلك الوعول، وتظهر التحوت». قالوا: يا رسول الله! وما الوعول وما التحوت؟ قال: «الوعول: وجوه الناس وأشرافهم، والتحوت: الذين كانوا تحت أقدام الناس لا يعلم بهم» (السلسلة الصحيحة، رقم: [3211]).

أُعلِّمه الرماية كل يوم *** فلمَّا اشتد ساعده رماني
وكم علَّمته نظم القوافي *** فلما قال قافية هجاني

إن من أخطر الانتكاسات والمضار التي تقع على الدين، تتجلّى في كثرة التهاوي والسقوط والتعثُّر والانهزامية من الداخل لأدنى شيء، لا سيما من قبل من يفترض أن يحملوا همّ هذا الدين وأن يذودوا عنه بكل ما أوتوا من قوة ومال ووقت وجهد، بعد أن كانوا على خير وصلاح وهدى، وهنا يكمُن الخطر لأن الثبات عزيز ونعمة عظيمة لا يعطى لأي إنسان ولا يكون مبتذلًا، والشجاعة صبر ساعة، لذلك هذا الطريق فيه مصاعب ومشاق وغير معبد بالورود لذلك عندما سُئل الإمام الشافعي رحمه الله: أيُمَكّن للمرء أو يبتلى قبل، فأجاب: "لا يُمكّن له حتى يبتلى".

قد يفتر المسلم نتيجة ما يمرّ به من ظروف صعبة وفتن متلاطمة لكن ليس من هدي نبينا وسلفنا الصالح الانتكاس والانهزام من الداخل مهما تغيَّرت الأحوال، وتبدَّلت وتقلَّبت الظروف، فلا ينبغي أن نتجاهل الواقع المؤلم ونضع رؤوسنا في التراب مثل النعامة، وكل إنسان يقول لا دخل لي في هذه الأمور، ويجب الابتعاد والجلوس في البيت {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا} [التوبة من الآية:49]، بينما إذا تعلَّق الأمر بمنصبٍ أو جاهٍ أو تجارةٍ أو وجاهةٍ تسابق وهرول وتصدَّر، يقول حذيفة رضي الله عنه طبيب الفتن: "إيَّاكم ومواقف الفتن، قيل: وما هي؟ قال: أبواب الأمراء يدخل أحدكم على الأمير فيصدقه بالكذب ويقول فيه ما ليس فيه" (شعب الإيمان للبيهقي، ص: [8795]).

المسلمون هذه الأيام بأمس الحاجة وأشد ما يكون للنصرة والوقوف بجانبهم ودعمهم بكل الوسائل، وعدم التخلي عنهم بسبب ما يتعرَّض له الإسلام وأهله من هجمات شرسة ومؤامرات، وعلينا ألا نكون سلبيين وانهزامين ومُنعزلين عن هذا الواقع المؤلم ونكتفي بالعويل والولولة والبكاء والصراخ، كلَّا والله.. فقد أخبر عليه الصلاة والسلام: «ما من امرئ يخذل امرءًا مسلمًا في موطنٍ ينتقص فيه من عِرضه، ويُنتهك فيه من حُرمته، إلا خذله الله تعالى في موطنٍ يحب فيه نُصرته، وما من أحد ينصر مسلمًا في موطنٍ يُنتقص فيه من عِرضه، ويُنتهك فيه من حرمته، إلا نصره الله في موطن يحب فيه نصرته» (صحيح الجامع، رقم: [5690]).

فإذا مضيت إلى أناسٍ لا يحملون دينًا ولا همًّا ولا خُلقًا لكن الذي يُحرِّكهم المناصب الذي يؤثر فيهم الدرهم والدينار، مما لا شك فيه أنك ستنطلِق من تلك الهمم العالية إلى هِممٍ دونية تؤدي الى انتكاسة وسقوط وتنازل عن هِممٍ سابقة وهذا ما يحصل.

ولو رأينا كثرة أهل الباطل في هذا الزمان وانتشارهم وتوسعهم ومجاهرتهم ببطالهم وطعنهم بثوابت الدين، وبالمقابل قلة ممن يتصدون لهم وينافحون عن دين الله عز وجل، مع فرق شاسع وبون كبير وعدم تكافؤ بين الفريقين، من حيث الإعلام وبذل المال وتفريغ الأوقات ومضاعفة الجهود، وقد لعب الانهزام الداخلي لكثير من النفوس دورًا كبيرًا في ذلك، حتى غلب الخوف والقلق من مصير مادي أو وجاهة أو مكانة في المجتمع ما جعله يقف مُتفرِّجًا بل في بعض الأحيان ذامًا لمن يقوم بهذا الواجب ويتصدّى لأهل الباطل ويجازف ويضحي بحياته.

قال شيخ الإسلام بن تيمية: "ويجب عقوبة كل من انتسب إليهم، أو ذب عنهم، أو أثنى عليهم، أو عظم كتبهم، أو عرف بمساعدتهم ومعاونتهم، أو كره الكلام فيهم، أو أخذ يعتذر لهم بأن هذا الكلام لا يدري ما هو؟ أو قال: إنه صنف هذا الكتاب؟ وأمثال هذه المعاذير، التي لا يقولها  إلا جاهل، أو منافق، بل تجب عقوبة كل من عرف حالهم، ولم يعاون على القيام عليهم، فإن القيام على هؤلاء من أعظم الواجبات، لأنهم أفسدوا العقول والأديان على خلق من المشايخ والعلماء، والملوك والأمراء، وهم يسعون في الأرض فسادًا، ويصدون عن سبيل الله" (مجموع الفتاوى، ص: [2/132]).

يقول بكر أبو زيد -مُعلِّقًا-: " فرحم الله شيخ الإسلام ابن تيمية وسقاه من سلسبيل الجنة -اّمين-، فإن هذا الكلام في غاية من الدقة والأهمية، وهو وإن كان في خصوص مظاهرة الاتحادية لكنه ينتظم جميع المبتدعة، فكل من ظاهر مبتدعًا، فعظمه، أو عظم كتبه، ونشرها بين المسلمين، ونفخ به وبها، وأشاع ما فيها من بدع وضلال، ولم يكشفه فيما لديه من زيغ واختلال في الاعتقاد، إن من فعل ذلك فهو مفرِّط في أمره، واجب قطع شره، لئلا يتعدّى على المسلمين، وقد ابتلينا بهذا الزمان بأقوامٍ على هذا المنوال، يعظمون المبتدعة، وينشرون مقالاتهم، ولا يُحذِّرون من سقطاتهم، وما هو عليه من الضلال، فاحذروا أبا الجهل المبتدع هذا، نعوذ بالله من الشقاء وأهله".

قال الشاطبي رحمه الله: "فإن فرقة النجاة -وهم أهل السنة- مأمورون بعداوة أهل البدع، والتشريد بهم، والتنكيل بمن انحاش إلى جهتهم بالقتل فما دونه، وقد حذَّر العلماء من مصاحبتهم ومجالستهم، وذلك مظنة إلقاء العداوة والبغضاء، لكن الدرك فيها على من تسبَّب في الخروج عن الجماعة بما أحدثه من اتباع غير سبيل المؤمنين، لا على التعادي مطلقًا، كيف ونحن مأمورون بمعاداتهم، وهم مأمورون بموالاتنا والرجوع إلى الجماعة".

فطريق الحق والثبات والاستقامة أبلج، وطريق الانهزامية والتلون والتخاذل لجلج، فمن أي الفريقين أنت؟ ومع أي الصنفين ستكون؟ أم أنك رضيت بالدون عياذًا بالله! وانعدم الهم والحس وتحمل المشاق والمسؤولية من قلبك، فالدنيا زائلة والقافلة تسير فهلَّا موقفًا بطوليًا يبيض صحائفك {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران من الآية:106].

وأخيرًا فإن دين الله عز وجل ظاهر ولو بعد حين {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [يوسف من الآية:21]، وإن تخاذل المتخاذلين وانهزام المنهزمين، فإن الله سيأتي بأقوامٍ يحبهم ويحبونه أعزِّة على الكافرين أذلة على المؤمنين {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد من الآية:38].

نسأل الله عز وجل الصدق في القول والإخلاص في العمل والاستقامة على الإيمان والثبات في المُلمَّات، اللهم يا مُقلِّب القلوب ثبِّت قلوبنا على دينك، اللهم انصر كتابك ودينك وسنة نبيك وعبادك الصالحين، وصلِّ اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1]- [الأحزاب من الآية:23].

[2]- [النساء من الآية:84].

[3]- [الحج من الآية:25].

[4]- [المجادلة من الآية:18].

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام