في وداع أستاذي الدكتور محمد يحيى
قبل أيام فاجأني بعض الأصدقاء بأن الدكتور محمد يحيى توفاه الله، ورحل عن عالمنا، كانت صدمة ومفاجأة لم يسبقها أي أخبار عن تراجع حالته الصحية، كما أن أياً من مؤسسات الدولة الثقافية لم تنعه ولم تشر لرحيله، رغم أن بعض التافهين تسود لهم صفحات طوال وتعقد لهم احتفاليات ضخمة في وزارة الثقافة
- التصنيفات: تراجم العلماء -
في مطلع الثمانينات من القرن الميلادي الماضي كنت شابًا يتحسس خطواته نحو الصحافة وعالم الفكر والإبداع، حائر بين القصة والشعر والدراسات الدينية في علوم الحديث وأصول الفقه بشكل خاص، وفي دراسة التاريخ والكتابة فيه، وكانت المرحلة ثرية بالصحف والمجلات، غير أن مجلة واحدة كانت تشدني بقوة، ربما لقربها من عالمي الإسلامي الذي أنتمي إليه، وربما لروحها الشبابية وحيويتها وحداثتها التي كانت تتصف بها من بين المجلات الأخرى حتى الإسلامية، تلك هي مجلة المختار الإسلامي، وكان هناك كاتب من كتابها يبهرني ويجعلني أتأمل حالة الوهج الفكري المستمر لديه، وتدفق الأفكار وسلاستها، وسهولة الكتابة، واللغة البسيطة والمقنعة التي يستخدمها، كنت لا أترك له مقالاً ولا سطرًا إلا قرأته بتأمل وتمعن وإعجاب كبير، وأتمنى أن يأتي اليوم الذي أستطيع فيه أن أكتب كما يكتب أو أن أقدم أفكاري بتلك البساطة التي يمتلكها هذا العبقري، كان هذا الكاتب الذي ألهمني حب الكتابة ووضعني دون أن أراه على أولى خطواتها، هو المفكر الكبير الدكتور محمد يحيى، أستاذ الأدب الإنجليزي في جامعة القاهرة.
كثيرون ممن يقرؤون اسمه الآن، حتى من الشباب الإسلامي، ربما لا يعرفونه حق المعرفة، ربما سمعوا عنه من بعيد، وأما الآخرون من التيارات الفكرية والثقافية الأخرى فبالتأكيد لا يسمعون به، من فرط حالة التعتيم التي كانت تفرض على أي نابغة في الفكر الإسلامي أو الحالة الإسلامية وفرض الحصار الإعلامي عليه، ومنع إتاحة أي فرصة أمامه للحضور الثقافي أو الجماهيري، ناهيك عن أن هذا الصنف من الكتاب والمثقفين والمبدعين منفيون دائماً من المؤسسة الثقافية الرسمية، وزارة الثقافة، بكل أذرعها، لأنهم عادة لا يقبلون أن يدخلوا (الحظيرة) التي تحدث عنها وزير ثقافة مبارك فاروق حسني، والذي خلفه في الوزارة الحالية ذراعه الأيمن على مدار عشرين عامًا، الدكتور جابر عصفور، هذا على الرغم من أن محمد يحيى كان الملجأ والملاذ لجابر عصفور كلما استعصى عليه سرعة إنجاز ترجمة كتاب مهم وكبير من الإنجليزية، ويكون حريص على أن يتم في منتهى الدقة والوعي، فكان يلجأ إلى محمد يحيى، بعيداً عن الضوء طبعًا، ولا يعرف كثيرون أن جابر عصفور يدين بالفضل إلى هذا الكاتب (المنسي) في كثير من أهم إنجازاته الثقافية في وزارة الثقافة، فقد كان الدكتور محمد يحيى واسع الاطلاع على الأدب الإنجليزي قديمه وحديثه، كما كانت لغته مشهودًا لها، والحقيقة أنه لم يكن يتقن الإنجليزية وحدها، وهي مجال تخصصه الأكاديمي، بل كان يتقن اللغة الفرنسية والإيطالية والأسبانية والألمانية معاً، ويترجم عنها، وكثيرًا ما كان يحدثني عن حبه للسهر والتجول بين إذاعات تلك الدول حيث يخرج بحصاد فكري وسياسي وديني وإنساني خصيب.
عندما قررت أن أغادر قريتي وأقتحم عالم القاهرة الغامض والمثير بالنسبة لي، كان أول طموحاتي أمران: أن أزور الأماكن والأحياء التي كتب عنها نجيب محفوظ في الثلاثية وبداية ونهاية وغيرها من رواياته التي قرأتها بنهم شديد وأنا شاب صغير، والطموح الثاني أن أقابل صاحب هذا القلم المبدع والرائع، محمد يحيى، وبعد البحث والتقصي عرفت أنه يقيم في شقة صغيرة بحي السيدة زينب، كانت لا تتجاوز الخمسين متراً على ما أذكر، في بناية قديمة، يقيم فيها هو ووالدته، كان هذا العبقري قعيدًا، مصاباً بضمور في العضلات كافة، القدمين واليدين، لا يمشي ولا يتحرك ولا يقوم ولا يقعد، إلا أن يحمله آخر، وكان يقوم بهذا الدور والدته الفاضلة رحمها الله، وإذا حاولت السلام عليه لا بد أن تصل يدك إلى مستوى جسده لكي تلامس كف يده، لأنه لا يستطيع أن يرفعه، لكن إرادة الله أن يتحرك من جسده كف يده، ليمسك القلم، ويبدع كل هذه المقالات والكتب الرائعة التي صنعت أفكار جيل كامل من الإسلاميين، ودرجت على تلك الزيارة كل فترة، خاصة بعد أن عملت في المختار الإسلامي سنوات عدة، وأشهد أني تعلمت منه الكثير، وأعتبره أحد أهم أساتذتي الذين أدين لهم بالفضل، وكنت ألجأ إليه كثيرا عندما أبحث عن جلاء فكرة ما أو أبعاد شخصية ما، ثم انتقل بعد ذلك إلى مسكن آخر أفضل حالاً بالجيزة.
محمد يحيى أستاذ للأدب الانجليزي، ومع ذلك كانت كل كتاباته تنزع للدفاع عن العروبة والإسلام والحضارة والتاريخ الإسلامي وكل ما يمثل أصالة هذه الأمة، بينما كان زملاؤه من أساتذة الأدب العربي مثل جابر عصفور ينزعون إلى التغريب والاحتقار للفكر الإسلامي والتمرد على كل ما يشير للأصالة في حضارة الإسلام، وتلك مفارقة غريبة ومتكررة، تحتاج إلى تأمل وربما دراسة، وهكذا كان الراحل الكبير الدكتور عبد العزيز حمودة رحمه الله أستاذ الأدب الإنجليزي، صاحب المرايا المحدبة، كان مدافعاً صلباً عن أصالة الأدب العربي والفكر الإسلامي وحضارة الإسلام ومناهج النقد العربية الأصيلة، بينما صلاح فضل مبشر بالثقافة الغربية ومدارسها النقدية، ربما هي عقدة النقص التي تعمقت عند بعض أساتذة الأدب العربي بينما ذابت وتلاشت بعمق الدراسة والتأمل عند أساتذة الأدب الإنجليزي، ورغم كل ما قدمه محمد يحيى للثقافة المصرية ولوزارة الثقافة نفسها فضلاً عن عطائه الأكاديمي تدريساً وإشرافاً على رسائل للماجستير والدكتوراة، إلا أنه لم يمنح أي جائزة من آلاف الجوائز التي أغدقها جابر عصفور على حوارييه، حتى أولئك الذين اشتروا شهادات علمية مزورة مثل صاحبه سيد القمني فمنحه جائزة الدولة التقديرية.
قبل أيام فاجأني بعض الأصدقاء بأن الدكتور محمد يحيى توفاه الله، ورحل عن عالمنا، كانت صدمة ومفاجأة لم يسبقها أي أخبار عن تراجع حالته الصحية، كما أن أياً من مؤسسات الدولة الثقافية لم تنعه ولم تشر لرحيله، رغم أن بعض التافهين تسود لهم صفحات طوال وتعقد لهم احتفاليات ضخمة في وزارة الثقافة، لأنهم (على الهوى الرسمي)، نسي جابر عصفور صديقه الذي يدين له بالفضل في أعمال كثيرة يعرفها جيدًا ويعرفها آخرون بوزارة الثقافة، وقد قررنا أن نوفيه بعض حقه في صحيفة المصريون الأسبوع المقبل بإذن الله، فأمثال هؤلاء العظماء لا ينبغي أن يرحلوا في صمت. رحمك الله أستاذي العظيم، خسارتنا فيك فادحة، فمثلك لا يتكرر بسهولة، وأشهد أنك أديت أمانتك بإخلاص وصمت، أحببت هذا الوطن حتى الثمالة، رغم أنك لم تر منه إلا الجفاء والتجاهل والإهمال، وصنعت عالماً فكرياً من الاستنارة الحقيقية وليست المزيفة، ألهمت كثيرين، وعلمت كثيرين، ودافعت عن هذه الأمة وحضارتها وتاريخها ودينها، وكشفت الكثير من زيف الحضارة الغربية، بإنصاف واعتدال وعمق، رحمك الله.
جمال سلطان