الحلقة السابعة
أيمن الشعبان
يتجدد اللقاء معكم في واحة القرآن، وعلى مائدة سورة السجدة، التي تدور أبرز مواضيعها على أهمية الخضوع لله سبحانه، من خلال اليقين بأن هذا القرآن حق منزل من عند الله، وأن الله خالق السماوات والأرض المستحق للعبادة، القائم بشؤون العباد يدبر الأمر ويعلم السر وأخفى، ينذر الكافرين بعذاب الله، ويبشر المؤمنين بالنعيم المقيم.
- التصنيفات: التفسير - ترجمة معاني القرآن الكريم -
الحمد لله منزلَ الكتاب، ومجريَ السحاب، ومعلمَ العلوم والآداب، خالقَ الناس من تراب، ناصر المؤمنين العزيزِ الوهاب، والصلاة والسلام على خير من صلى وتاب، وجميع الآل والأصحاب ومن تبعهم إلى يوم المئاب، وبعد:
يتجدد اللقاء معكم في واحة القرآن، وعلى مائدة سورة السجدة، التي تدور أبرز مواضيعها على أهمية الخضوع لله سبحانه، من خلال اليقين بأن هذا القرآن حق منزل من عند الله، وأن الله خالق السماوات والأرض المستحق للعبادة، القائم بشؤون العباد يدبر الأمر ويعلم السر وأخفى، ينذر الكافرين بعذاب الله، ويبشر المؤمنين بالنعيم المقيم.
لما ذكر الله خلق السماوات والأرض شرع في ذكر خلق الإنسان فقال: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} [السجدة من الآية:7] أي أتقن وأحكم وحسَّن كل المخلوقات وهذا عام، {وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ} [السجدة من الآية:7] بخلق آدم عليه السلام.
ما من شيء خلقه إلا وهو مرتب على ما اقتضته الحكمة، {وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ} يعني آدم {مِنْ طِينٍ}، {ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ} أي ذريته {مِنْ سُلالَةٍ} أي من نطفة {مِنْ ماءٍ مَهِينٍ} أي ضعيف ممتهن. والسلالة الخلاصة.
في الآية ارْتِقَاءٌ فِي الِاسْتِدْلَالِ مَشُوبٌ بِامْتِنَانٍ عَلَى النَّاسِ، أَنْ أَحْسَنَ خَلْقَهُمْ فِي جُمْلَةِ إِحْسَانِ خَلْقِ كُلِّ شَيْءٍ وَبِتَخْصِيصِ خَلْقِ الْإِنْسَانِ بِالذِّكْرِ.
وَالْإِحْسَانُ: جَعْلُ الشَّيْءِ حَسَنًا، أَيْ مَحْمُودًا غَيْرَ مَعِيبٍ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ وَافِيًا بِالْمَقْصُودِ مِنْهُ فَإِنَّكَ إِذَا تَأَمَّلْتَ الْأَشْيَاءَ رَأَيْتَهَا مَصْنُوعَةً عَلَى مَا يَنْبَغِي فَصَلَابَةُ الْأَرْضِ مَثَلًا لِلسَّيْرِ عَلَيْهَا، وَرِقَّةُ الْهَوَاءِ لِيَسْهُلَ انْتِشَاقُهُ لِلتَّنَفُّسِ، وَتَوَجُّهُ لَهِيبِ النَّارِ إِلَى فَوْقُ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مِثْلَ الْمَاءِ تَلْتَهِبُ يَمِينًا وَشِمَالًا لَكَثُرَتِ الْحَرَائِقُ فَأَمَّا الْهَوَاءُ فَلَا يَقْبَلُ الِاحْتِرَاقَ.
ولما كان الحيوان أشرف الأجناس، وكان الإنسان أشرفه، خصه بالذكر ليقوم دليل الوحدانية بالأنفس كما قام قبل بالآفاق، فقال دالاً على البعث: {وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ} أي الذي هو المقصود بالخطاب بهذا القرآن {مِنْ طِينٍ} أي مما ليس له أصل في الحياة بخلق آدم عليه السلام منه.
الإحسان إلى الخلق وإتقان صنعهم من صفات الخالق كما قال سبحانه: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل من الآية:88].
في الآية نِعَم عظيمة جليلة، منها أن خلقنا الله من العدم، وفضلنا على كثير ممن خلق تفضيلاً، وأتقن كل شيء خلقه، بحكم متناهية ودقة عجيبة، وسخر لنا الأرض وما فيها وذلّلها لنا، لتستقيم حياتنا وتصلح شؤوننا ومعاشنا.
الله سبحانه وتعالى خلق كل شيء ونوَّعَه بطريقة وهيئة تليق به، فلا يوجد شيء قبيح مطلقًا، فما يضر من جهة ينفع من جهات عديدة، فلولا وجود القبيح ما علم الإنسان الجميل! ولولا وجود المرض ما عرفنا قيمة الصحة، ولولا السواد ما عرفنا قيمة البياض! لذلك يقال: وبضدها تتميز الأشياء.
وجود الحشرات في الظاهر نراه شرًا، لكن لو تأملنا لعرفنا أن العديد من الحشرات تعمل توازن في البيئة، فيستفيد من ذلك الإنسان!
وترتيب محكم، وما يعقل هذا إلا العالمون، وإنك قد ترى نباتاً أو حيواناً أو شيئاً في هذا الكون وتخفى عليك حكمته، ويعمى عنك سر وجوده، تكشف لك الأيام عن أسرار وحكم لا يجليها لوقتها إلا خالقها العليم بها البصير بكنهها.
فسوى كل شيء خلقه جعله سويًا مستويًا، وهذا الاستواء يعطي لمحة حسن وبصمة جمال وصورة رائعة لمن ينظر ويرى.
وهكذا كل شيء خلقه الله لحكمة وفائدة ومنفعة ومقصد جليل، علمها من علمها وجهلها من جهلها، حتى لو كانت في الظاهر لنا شيئًا قبيحًا أو عبثيًا أو لا فائدة منه! ينبغي أن نستيقن بأن الله قد أحكم وأتقن وأحسن كل شيء، شكلاً ومضمونًا وهيئة وصورة.
عندما سأل الولد أباه: لماذا لا يترك الحداد عيدان الحديد على استقامتها؟! ولا يستخدمها إلا وهي معوجة! أجابه: أن هذه العيدان لا تؤدي مهمتها إلا باعوجاجها! كذلك أضلاع القفص الصدري كيف تحمي الرئتين والقلب بهذا الاعوجاج!
وَمَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّهُ أَتْقَنَ وَأَحْكَمَ خَلْقَ مَخْلُوقَاتِهِ، فَبَعْضُ الْمَخْلُوقَاتِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ حَسَنَةً فِي نَفْسِهَا، فَهِيَ مُتْقَنَةٌ مَحْكَمَةٌ، فَتَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ مَعْنَاهَا مَعْنَى: أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ أَيْ: لَمْ يَخْلُقِ الْإِنْسَانَ عَلَى خَلْقِ الْبَهِيمَةِ، وَلَا خَلَقَ الْبَهِيمَةَ عَلَى خَلْقِ الْإِنْسَانِ، وَقِيلَ: هُوَ عُمُومٌ فِي اللَّفْظِ خُصُوصٌ فِي الْمَعْنَى، أَيْ: أَحْسَنَ خَلْقَ كُلَّ شَيْءٍ حَسَنٍ.
ومن هداية الآية ودلالاتها وفوائدها:
كما أنعم الله على خلقه بإحسان كل شيء وإتقانه، ينبغي أن نخضع لله بإحسان العبادة له، التي هي أعلى المراتب « ».
أن لا نتعالى على أحد ولا نتكبر، ولا نزدري أي مخلوق مهما كان، لأن الله وزع المواهب وأحسن كل شيء خلقه.
إتقان الإعمال من صفات الكمال، لذلك ينبغي لكل عامل إتقان عمله في الوظيفة دون تقصير متعمد أو هدر للوقت.
من معاني الإحسان شكر النعم لا كفرها، كما حصل من كفر قارون الطاغية المتكبر، إذ قال له المؤمنون من أهل العلم {وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّـهُ إِلَيْكَ} [القصص من الآية:77].
أمرنا الله بالإحسان في التعامل إلى الخلق؛ إلى الوالدين.. إلى الزوجة .. إلى الأبناء.. إلى الجار.. بل حتى إلى الحيوانات، كما قال عليه الصلاة والسلام: « ».
اللهم انفعنا بالقرآن، وارفعنا بالقرآن، واجعله شفيعنا يوم نلقاك.
7- رمضان-1435هـ