الحلقة التاسعة
أيمن الشعبان
بعد أن بين الله سبحانه بداية خلق الإنسان، ينقلنا إلى التفصيل ببعض النعم التي وهبها الله لنا
- التصنيفات: التفسير - ترجمة معاني القرآن الكريم -
الحمد لله منزلَ الكتاب، ومجريَ السحاب، ومعلمَ العلوم والآداب، خالقَ الناس من تراب، ناصر المؤمنين العزيزِ الوهاب، والصلاة والسلام على خير من صلى وتاب، وجميع الآل والأصحاب ومن تبعهم إلى يوم المآب، وبعد:
بعد أن بين الله سبحانه بداية خلق الإنسان، ينقلنا إلى التفصيل ببعض النعم التي وهبها الله لنا، فقال سبحانه: {ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} [السجدة:9].
ومن المناسب أن يذكر الحق سبحانه السمع والأبصار والأفئدة بعد الحديث عن مسألة الخَلْق؛ لأن الإنسان يُولَد من بطن أمه لا يعلم شيئاً، وبهذه الأعضاء والحواس يتعلّم ويكتسب المعلومات والخبرات كما قال سبحانه: {والله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل:78].
{ثُمَّ سَوَّاهُ} بلحمه، وأعضائه، وأعصابه، وعروقه، وأحسن خلقته، ووضع كل عضو منه، بالمحل الذي لا يليق به غيره، {وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ} بأن أرسل إليه الملك، فينفخ فيه الروح، فيعود بإذن الله، حيوانًا، بعد أن كان جمادًا.
{ثُمَّ سَوَّاهُ} يعني: آدم، لما خلقه من تراب خلقه سويا مستقيما، {وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ}، يعني: العقول، {قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} أي: بهذه القوى التي رزقكموها الله عز وجل. فالسعيد من استعملها في طاعة ربه عز وجل.
{ثُمَّ سَوَّاهُ} أي عدله لما يراد منه بالتخطيط والتصوير وإبداع المعاني {وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ} الروح ما يمتاز به الحي من الميت، والإضافة للتشريف، فيا له من شرف ما أعلاه إضافته إلى الله.
ولما ألقى السامعون لهذا الحديث أسماعهم، فكانوا جديرين بأن يزيد المحدث لهم إقبالهم وانتفاعهم، لفت إليهم الخطاب قائلاً: {وَجَعَلَ} أي بما ركب في البدن من الأسباب {لَكُمُ السَّمْعَ} أي تدركون به المعاني المصوتة، ووحده لقلة التفاوت فيه إذا كان سالماً {وَالْأَبْصَارَ} تدركون بها المعاني والأعيان القابلة، ولعله قدمها لأنه ينتفع بهما حال الولادة، وقدم السمع لأنه يكون إذ ذاك أمتن من البصر.
وإضافة الروح إلى ضمير الجلالة للتنويه بذلك السر العجيب الذي لا يعلم تكوينه إلا هو تعالى، فالإضافة تفيد أنه من أشد المخلوقات اختصاصًا بالله تعالى وإلا فالمخلوقات كلها لله.
{والأَفْئِدَةَ} سمي القلب فؤاداً لأنه منبع الحرارة الغريزية من المفتأد وهو موضع النار.
لماذا اختص الله هذه الأعضاء من دون البقية، قالوا: لأنه بهذه الأعضاء والحواس يحصل العلم والفهم، وهذا هو المقصود، فلا يمكن للإنسان أن يتعلم من غير سمع أو من غير بصر أو من غير تأمل وتدبر وتعقل في القلب.
جاء في سورة الملك قوله تعالى: {قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} [الملك:23]، وفي سورة المؤمنون {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} [المؤمنون:78]، تكرار هذا الأمر للاهتمام بتلك الحواس، وأنها إذا استثمرت بما أعطانا الله من علل لوجودها ستقودنا إلى مرضاة الله.
هنا التفات في الخطاب، من الغائب إلى المخاطب، من باب التفنن في البيان وتنشيط الأذهان، وأهمية تلك النعم التي سيذكر بها الإنسان!
في معظم الآيات يأتي السمع مفردًا، قيل لأنها مصدر وهو يشمل الجنس فيؤدي القليل والكثير.
وهنالك التفاتة لطيفة لإفراد السمع وجمع الأبصار والأفئدة؛ قالوا: النظر إلى الأشياء بين الناس متفاوت، فلو نظرت أنا إلى شيء قد أنتفع بفائدة ما، تختلف عن نظر غيري وهكذا، فلما تعددت الأنظار جاء البصر هنا بالجمع {الْأَبْصَارَ}.
القلب كذلك، عندما ننظر أو نسمع لشيء لابد أن نتفكر نتدبر، وهذا يختلف من شخص لآخر فالأمر متنوع متعدد، فتأمل، والسمع جاء مفرد لأنه للجميع واحد.
ولماذا قدم السمع على البصر؟!
الجواب: أنك دائما من تسمعه يكون أقرب إليك ممن تبصره، لذلك السمع أهم ومقدم على البصر، والسمع هو شرط من شروط النبوة، لذلك ما بعث الله عز وجل نبيا أصم، لأن الحجة عندها لا تقام!
ولا يمكن لك أن تنتفع بالمعلومة إلا أن تسمعها قبل أن تراها.
ولو تأملنا إلى بديع صنع الله في هذه الحواس لوجدنا أمرًا مذهلاً؛ من الناحية التشريحية فإن مركز السمع يكون في الصدغ الأمامي من الدماغ، ومركز البصر يكون في قفى الدماغ، لذلك قدم السمع على البصر.
من الناحية الوظيفية: السمع يتنشط ويبدأ يتفعل عند الإنسان وهو في بطن أمه بعمر خمسة أشهر، بخلاف جميع الحيوانات.
وحاسة البصر تبدأ عند الجنين العمل بعد الشهر الثالث من الولادة، وعند ستة شهور يبدأ التمييز، وتكتمل عند سن العشر سنين.
القلب وهو مجمع التعقل والتدبر والعاطفة والحفظ والذاكرة، والفؤاد يطلق ويراد به القلب أحيانًا، ويراد به العقل عند العرب، لا يبدأ بالتفعل إلا بعد أن يصل الجنين إلى سنتين من العمر!
{قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} ينبغي علينا شكر هذه النعم، وشكر السمع أن يكون هذا المسموع حقًا ولا نسمع باطلاً، كالغناء والغيبة والنميمة والباطل، ومن شكر السمع أن نستمع لأهل العلم الربانيين الحكماء الفضلاء ما عندهم من الخير، وكذلك من شكر السمع الإصغاء إلى الموعظة.
ومن شكر البصر أن لا تنظر إلى ما حرم الله، والنظر إلى مخلوقات الله والتأمل والتفكر في عظيم صنعه.
ومن شكر القلب كثرة خشية الله والإنابة والخوف ومحبة الله والمؤمنين والصالحين والخضوع له.
ولما لم يدقق الناس أو يستشعروا عظم هذه النعم، وكيفية خلقتها وما فيها من خلايا وأعصاب، ألفوها ولم يكترثوا شكروا أم لم يشكروا! فالأذن الواحدة تحوي 100 ألف خلية سمعية! والعين فيها 130 مليون مستقبلات ضوئية، تكون عند رؤوس الأعصاب ولها وظيفة في عكس الصورة حتى ننظر، {صنع الله الذي أتقن كل شيء} [النمل من الآية:88].
وهذا أسلوب يدل على نفي الشكر، كما تقول {فَقَلِيلًا مَّا يُؤْمِنُونَ} [البقرة من الآية:88] هم ليس لديهم إيمان! كذلك ليس لدى الكفار شكر.
{قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} الشاكرون لله قليل والكافرون كثير، وهذا في كل زمان ومكان.
والعدول عن أن يقال: وجعلكم سامعين مبصرين عالمين إلى جعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لأن ذلك أعرق في الفصاحة، ولما تؤذن به اللام من زيادة المنة في هذا الجعل إذ كان جعلا لفائدتهم ولأجلهم، ولما في تعليق الأجناس من السمع والأبصار والأفئدة بفعل الجعل من الروعة والجلال في تمكن التصرف، ولأن كلمة الأفئدة أجمع من كلمة عاقلين لأن الفؤاد يشمل الحواس الباطنة كلها والعقل بعض منها.
لذلك كانت حاسة السمع هي المصاحبة للإنسان، ولا تنتهي مهمتها حتى في النوم، وبها يتم الاستدعاء، أما العين فلا تعمل أثناء النوم.
وتقديم السمع والأبصار على الأفئدة هنا عكس آية البقرة لأنه روعي هنا ترتيب حصولها في الوجود فإنه يكتسب المسموعات والمبصرات قبل اكتساب التعقل.
في آية السجدة يتكلم عن مدارك العلم، أما في الطمس والختم جاء على أعظم الأشياء وطالما ختم على الأفئدة فلا قيمة للسمع والبصر.
ولم يأْتِ البصر مفرداً -في هذا السياق- إلا في موضع واحد هو قوله تعالى: {إِنَّ السمع والبصر والفؤاد كُلُّ أولئك كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء من الآية:36] ذلك لأن الآية تتكلم عن المسئولية، والمسئولية واحدة ذاتية لا تتعدى، فلا بُدَّ أنْ يكون واحداً.
اللهم انفعنا بالقرآن، وارفعنا بالقرآن، واجعله شفيعنا يوم نلقاك.
9- رمضان-1435هـ