خواطر قرآنية" سورة السجدة" ( 20-30 )

أيمن الشعبان

  • التصنيفات: التفسير -

 

الحمد لله منزلَ الكتاب، ومجريَ السحاب، ومعلمَ العلوم والآداب، خالقَ الناس من تراب، ناصر المؤمنين العزيزِ الوهاب،  والصلاة والسلام على خير من صلى وتاب، وجميع الآل والأصحاب ومن تبعهم إلى يوم المئاب، وبعد:
بعد أن ذكر الله نزل ومقام المؤمنين، أتبعه بيان حال ومآل الكافرين فقال { وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ } .
{وأما الذين فسقوا} أي خرجوا عن دائرة الإيمان الذي هو معدن التواضع وأهل للمصاحبة والملازمة {فمأواهم النار} أي التي لا صلاحية فيها للإيواء بوجهن الوجوه أصلاً.
مقرهم ومحل خلودهم، النار التي جمعت كل عذاب وشقاء، ولا يفتر عنهم العقاب ساعة.
كما قال تعالى واصفا عذاب الكفار المجرمين   {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ . لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} .
الْعَمَلَ الصَّالِحَ لَهُ مَعَ الْإِيمَانِ أَثَرٌ أَمَّا الْكُفْرُ إِذَا جَاءَ فَلَا الْتِفَاتَ إِلَى الْأَعْمَالِ، فَلَمْ يَقُلْ وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا وَعَمِلُوا السَّيِّئَاتِ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ فَسَقُوا كَفَرُوا وَلَوْ جَعَلَ الْعِقَابَ فِي مُقَابَلَةِ الْكُفْرِ وَالْعَمَلِ، لَظُنَّ أَنَّ مُجَرَّدَ الْكُفْرِ لَا عِقَابَ عَلَيْهِ.
قالوا: المأوى المكان الذي ينزل فيه الإنسان على هواه وعلى (كيفه)، أما هؤلاء فينزلون هنا رغماً عنهم، أو أن الكلام هنا على سَبْق التهكم والسخرية، كما قوله تعالى: {فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}.
وَقَوْلُهُ فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِينَ (لَهُمْ) بِلَامِ التَّمْلِيكِ زِيَادَةُ إِكْرَامٍ لِأَنَّ مَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ اسْكُنْ هَذِهِ الدَّارَ يَكُونُ ذَلِكَ مَحْمُولًا عَلَى الْعَارِيَةِ وَلَهُ اسْتِرْدَادُهُ، وَإِذَا قَالَ هَذِهِ الدَّارُ لَكَ يَكُونُ ذَلِكَ مَحْمُولًا عَلَى نِسْبَةِ الْمِلْكِيَّةِ إِلَيْهِ وَلَيْسَ لَهُ اسْتِرْدَادُهُ بِحُكْمِ قَوْلِهِ وَكَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: لَهُمْ جَنَّاتٍ.
لما كان أهل الحق في الدنيا ينصحون أهل الضلال، بأن يخرجوا من باطلهم وكفرهم من الانحطاط الأخلاقي والروحي والديني، والتمسك بشريعة ربهم وخالقهم والترفع والارتقاء بالإيمان، تكبروا فكان جزائهم يوم القيامة، كلما حاولوا الانتقال من أسفل إلى أعلى أعيدوا ونُكِّل بهم، جزاء وفاقا!
يُروى أنَّه يضربُهم لهَبُ النَّارِ فيرتفعونَ إلى طبقاتِها حتَّى إذا قربُوا من بابِها وأرادُوا أنْ يخرجُوا منها يضربُهم اللَّهبُ فيهوون إلى قعرِها وهكذا يُفعل بهم أبداً.
وكلمةُ " فِي " للدِّلالةِ على أنَّهم مستقرُّون فيها وإنَّما الإعادةُ من بعضِ طبقاتِها إلى بعضٍ.
إن أهل النار إذا ألقوا فيها يكادون يبلغون قعرها، يلقاهم لهبها فيردهم إلي أعلاها،
حتى إذا كادوا يخرجون تلقتهم الملائكة بمقامع من حديد فيضربونهم بها.
نحن مع مشهد عظيم مخيف مهول من مشاهد عذاب أهل النار- عياذا بالله-، فالنار سوداء مظلمة قعرها بعيد وحرها شديد وشرابها الحميم والصديد ومقامعها من حديد، وإن الصخرة العظيمة لتلقى فيها فتهوي سبعين سنة حتى تصل إلى قعرها، ولا تزال يلقى فيها حتى تمتلئ، {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} .
  {كلما أرادوا أن يخرجوا منها}  يدل على أنه يزاد في عذابهم بأن يخيل إليهم ما يظنون به القدرة على الخروج منها كما كانوا يخرجون بفسوقهم من محيط الأدلة من دائرة الطاعات إلى بيداء المعاصي والزلات، فيعالجون الخروج فإذا ظنوا أنه تيسر لهم وهم بعد في غمراتها.
كناية عن دوام عذابهم واستمراره.
{وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} أَيْ: يُقَالُ لَهُمْ ذَلِكَ تَقْرِيعًا وَتَوْبِيخًا.
هم في النار يذوقون العذاب فلماذا يقال لهم" ذوقوا "؟! لأن العذاب المعنوي أشد وأنكى من العذاب الحسي المادي، فيقال لهم " ذوقوا" على سبيل الإهانة والشماتة والعار والشنار والخزي والذل الذي هم فيه!
فالإذاقة تعدَّتْ اللسان واستولتْ على كل الأعضاء، فكل ذرة فيه تذوق عذاب النار جزاء ما كانوا يكذبون بها في الدنيا، حيث كذِّبوا بالأصل، وهو الرجوع إلى الله يوم القيامة.
وأظهرت النار مع تقدمها قبل لزيادة التهديد والتخويف وتعظيم الأمر.
يقول عليه الصلاة والسلام: « نارُكم جزءٌ من سبعينَ جزءًا من نارِ جهنَّمَ . قيل : يا رسولَ اللهِ ، إن كانتْ لكافيةً ، قال : فُضِّلَتْ عليهنَّ بتسعةٍ وستينَ جزءًا ، كلُّهنَّ مثلُ حَرِّها» .
ويصف لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أهون أهل النار عذابا فيقول   «إنَّ أهوَنَ أهلِ النَّارِ عذابًا يومَ القيامةِ لرجلٌ ، تُوضَعُ في أخمَصِ قدمَيْه جَمرةٌ ، يَغلي منها دِماغُه» .
وتأملوا رعاكم الله بكاء أهل النار إذ يقول عليه الصلاة والسلام « إنَّ أهلَ النَّارِ ليبكونَ حتَّى لَو أُجْرِيَتِ السُّفُنُ في دُموعِهِم جَرَتْ ، و إنهم ليَبكونَ الدَّمَ» .
وقال تعالى عن حال أهل النار في مشهد تتفطر منه القلوب وتقشعر الأبدان   {وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ . مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ . يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} .
ومن شدة عذاب أهل النار جعل الله عذابهم تنكيلا لمن لا يزال مصرا على الذنوب والمعاصي، في نار عظيمة حامية وعذاب موجع فظيع لا تقوى عليه الجبال الراسيات! قال سبحانه   {إن لدينا أنكالا وجحيما . وطعاما ذا غصة وعذابا أليما} .
هؤلاء الفاسقون المجرمون الذين أكثروا من الذنوب والخطايا والمعاصي مقيدين ومسلسلين ومصفدين بسلاسل من نار في أذل وأشنع صورة، وثيابهم من نار وتحيط بهم من جميع الجهات النار، في مشهد تقشعر له الأبدان قال تعالى { وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ . سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ} .
قَالَ الفُضَيل بْنُ عِيَاضٍ: وَاللَّهِ إِنَّ الْأَيْدِيَ لَمُوثَقَةٌ، وَإِنَّ الْأَرْجُلَ لَمُقَيَّدَةٌ، وَإِنَّ اللَّهَبَ لَيَرْفَعُهُمْ وَالْمَلَائِكَةَ تَقْمَعُهُمْ.
وخلاصة معنى الآية:
وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا وتركوا الايمان بالله وخرجوا عن مقتضيات الأوامر والنواهي الموردة في كتبه سبحانه وعلى ألسنة رسله، فَمَأْواهُمُ مرجعهم ومثواهم في النشأة الاخرى النَّارُ المعدة لأهل الشقاوة الازلية هم فيها خالدون مخلدون مؤبدون لا نجاة لهم منها أصلا، بل كُلَّما أَرادُوا وأملوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها حيث امهلهم الخزنة الموكلون عليهم الى ان يصلوا الى شفيرها، ثم بعد ذلك أُعِيدُوا فِيها زجرا وقهرا تاما مهانين صاغرين، وَقِيلَ لَهُمْ : اى قال لهم الزبانية الموكلون بالهام الله إياهم: ذُوقُوا ايها المنكرون المصرون عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ حين أخبركم به الرسل والكتب وأنذركم به النبيون المنذرون.
الآية ترشدنا إلى شيء خطير؛ أن من كان في العذاب ممكن يتأقلم عليه مع مرور الوقت، لو وضعت يدك في ماء ساخن بداية تشعر بصعوبة وألم لكن شيئا فشيئا تتعود ويخف الألم، ولكن أهل النار لا ينطبق عليهم ذلك، فالعذاب متنوع مختلف مستمر دائم له عدة أشكال   {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ } ،   {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} ،   {كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا} .
يقول ابن القيم مبينا أنواع الفسوق:
وأما الفسوق: فهو في كتاب الله نوعان: مفرد مطلق، ومقرون بالعصيان.
والمفرد نوعان أيضا: فسوق كفر، يخرج عن الإسلام، وفسوق لا يخرج عن الإسلام، فالمقرون كقوله تعالى {ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون} [الحجرات: 7] .
والمفرد الذي هو فسوق كفر كقوله تعالى {يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين الذين ينقضون عهد الله} [البقرة: 26] الآية، وقوله عز وجل {ولقد أنزلنا إليك آيات بينات وما يكفر بها إلا الفاسقون} [البقرة: 99] وقوله: {وأما الذين فسقوا فمأواهم النار كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها} [السجدة: 20] الآية، فهذا كله فسوق كفر.
وأما الفسوق الذي لا يخرج عن الإسلام فكقوله تعالى {وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم} [البقرة: 282] الآية، وقوله: {يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ} [الحجرات: 6] الآية.
أيها المقصر في طاعة الله، المسرف على نفسه بالمعاصي والذنوب، أما تخشى الموت يأتيك على حين غفلة، وأنت مصر على تلك الخطايا؟!! أما في تلك الآية معتبر لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد!
اللهم انفعنا بالقرآن، وارفعنا بالقرآن، واجعله شفيعنا يوم نلقاك.

20- رمضان-1435هـ