خواطر قرآنية" سورة السجدة" ( 26-30 )

أيمن الشعبان

  • التصنيفات: التفسير -

 

الحمد لله منزلَ الكتاب، ومجريَ السحاب، ومعلمَ العلوم والآداب، خالقَ الناس من تراب، ناصر المؤمنين العزيزِ الوهاب،  والصلاة والسلام على خير من صلى وتاب، وجميع الآل والأصحاب ومن تبعهم إلى يوم المئاب، وبعد:
بعد أن ذكر الله سبحانه وتعالى الأصول الثلاثة في بداية السورة؛ الرسالة والتوحيد والمعاد، ثم كرر ذكر الرسالة مرة أخرى تقريرا لرسالة محمد عليه الصلاة والسلام كما في قوله { وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ} ، ناسب إعادة ذكر التوحيد فقال سبحانه { أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ} .
ما سيذكره الله أمر متعلق بالسمع، بالتالي يحتاج لمزيد تدبر للانتفاع به، وهذا لا يحصل إلا بإعمال القلب وهدايته، لذلك قال   {أولم يهد لهم} ، وهذا يتناسق ويتناسب مع موضوع السورة الخضوع ومادتها اليقين فتأمل.
أولم يبين لهم إهلاكنا القرون الخالية من قبلهم، سنتنا فيمن سلك سبيلهم من الكفر بآياتنا، فيتعظوا وينزجروا.
ثم أعاد أصل التوحيد مقرونا بالوعيد قائلا أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ وقد مر نظيره في آخر «طه» وإنما قال في آخر الآية إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ على الجمع ليناسب القرون والمساكن. وإنما قال أَفَلا يَسْمَعُونَ لأنه تقدم ذكر الكتاب وهو مسموع، وفيه إشارة إلى أنه لاحظ لهم منه إلا السماع.
أولم يبين لهن كثرة إهلاكنا القرون الماضية من قبلهم يمشون في بلادهموأرضهم، كعاد وثمود.
أو لم يعتبروا بمنازل أقوام كانوا في حبرة فصاروا عبرة، كانوا في سرور فآلوا إلى ثبور فجميع ديارهم ومزارهم صارت لأغيارهم، وصنوف أموالهم عادت إلى أشكالهم، سكنوا فى ظلالهم ولم يعتبروا بمن مضى من أمثالهم.
ويَهْدِ مِنَ الْهِدَايَةِ وَهِيَ الدَّلَالَةُ وَالْإِرْشَادُ، يُقَالُ: هَدَاهُ إِلَى كَذَا.
وَضُمِّنَ فِعْلُ يَهْدِ مَعْنَى يُبَيِّنُ، فَعُدِّيَ بِاللَّامِ فَأَفَادَ هِدَايَةً وَاضِحَةً بَيِّنَةً.
وَاخْتِيرَ فِعْلُ الْهِدَايَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِإِرَادَةِ الدَّلَالَةِ الْجَامِعَةِ لِلْمُشَاهَدَةِ وَلِسَمَاعِ أَخْبَارِ تِلْكَ الْأُمَمِ تَمْهِيدًا لِقَوْلِهِ فِي آخِرِهَا أَفَلا يَسْمَعُونَ، وَلِأَنَّ كَثْرَةَذَلِكَ الْمُسْتَفَادَةَ مِنْ كَمْ الْخَبَرِيَّةِ إِنَّمَا تَحْصُلُ بِتَرْتِيبِ الِاسْتِدْلَالِ فِي تَوَاتُرِ الْأَخْبَارِ وَلَا تَحْصُلُ دُفْعَةً كَمَا تَحْصُلُ دَلَالَةُ الْمُشَاهَدَاتِ.
{أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ } استفهام إنكارى، ينكر على المشركين أنهم لم يروا فيما بين أيديهم من ديار الأقوام الظالمين قبلهم، وما اشتمل عليها من خراب- ما تحدّث به هذه الديار من عبر، وما تنطق به من عظات! وإنهم لو عقلوا لعلموا أنهم مأخوذون بما أخذ به أصحاب هذه الديار، ماداموا سائرين على طريقهم، آخذين مأخذهم.
{ أَفَلا يَسْمَعُونَ} آيَاتِ الله وعظاته فيتعظون.
{أَفَلاَ يَسْمَعُونَ} هذه الآياتِ سماعَ تدبرٍ واتِّعاظٍ.
إِنَّ فِي ذلِكَ الإهلاك وما يتعلق به من الآثار لَآياتٍ حججا ومواعظ لكل مستبصر ومعتبر.
أَوْلَمَ يَهْدِ لِهَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبِينَ بِالرُّسُلِ مَا أَهْلَكَ اللَّهُ قَبْلَهُمْ مِنَ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ، بِتَكْذِيبِهِمُ الرُّسُلَ وَمُخَالَفَتِهِمْ إِيَّاهُمْ فِيمَا جاؤوهم بِهِ مِنْ قَوِيمِ السُّبُلِ، فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ بَاقِيَةٌ وَلَا عَيْنٌ وَلَا أَثَرٌ؟ {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا}.
 فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا ، { فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ} ،   {وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ وباليل أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } .
{ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} .
ومن أعظم أسباب هلاك الأمم الظلم، قال تعالى {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ . إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ} .
وقال تعالى { فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ . أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} .
وقال سبحانه   {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ} .
وقال عز وجل   {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا } .
القرن: الزمن الذي يجمع أمة من الناس فإذا فنيت هذه الامة فقد مضى قرن من القرون، مثل ما نقول: القرن الذي كان فيه عليه الصلاة والسلام، بمعنى الزمن الذي اجتمع فيه مع قوم رأوه وعاشوا معه ثم مات ومات أصحابه حتى مات آخر من رآه فانتهى القرن، ثم قرن يليه وهكذا.
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ} أَيْ: إِنَّ فِي ذَهَابِ أُولَئِكَ الْقَوْمِ ودَمَارهم وَمَا حَلَّ بِهِمْ بِسَبَبِ تَكْذِيبِهِمُ الرُّسُلَ، وَنَجَاةِ مَنْ آمن بهم، لآيات وعبرا وَمَوَاعِظُ وَدَلَائِلُ مُتَظَاهِرَةٌ.
{ إن في ذلك لآيات}  عظيمة ومواعظ بليغة، وحججا قاطعة لكل مستبصر ومعتبر بها، أي: إن في إخلاء مساكن القرون الذين أهلكناهم من أهلها لما كذبوا برسلنا، وجحدوا بآياتنا، وعبدوا غيرنا، لآيات لهم وعظات يتعظون بها، لو كانوا من أولي الحجا.
{أَفَلا يَسْمَعُونَ} آيات الله، فيعونها، فينتفعون بها، فلو كان لهم سمع صحيح، وعقل رجيح، لم يقيموا على حالة يجزم بها، بالهلاك.
يسمعون قصص الغابرين الذين يمشون في مساكنهم، أو يسمعون هذا التحذير، قبل أن يصدق بهم النذير، ويأخذهم النكير!.
أَفَلا يَسْمَعُونَ اسْتِفْهَامًا تَقْرِيرِيًّا مَشُوبًا بِتَوْبِيخٍ لِأَنَّ اجْتِلَابَ الْمُضَارِعِ وَهُوَ يَسْمَعُونَ مُؤْذِنٌ بِأَنَّ اسْتِمَاعَ أَخْبَارِ تِلْكَ الْأُمَمِ مُتَكَرِّرٌ مُتَجَدِّدٌ فَيَكُونُ التَّوْبِيخُ عَلَى الْإِقْرَارِ الْمُسْتَفْهَمِ عَنْهُ أَوْقَعَ بِخِلَافِ مَا بَعْدَهُ مِنْ قَوْلِهِ أَفَلا يُبْصِرُونَ.
ولما كان قرب شيء في الزمان أو المكان أدل، بين قربهم بإدخال الجار فقال: {من قبلهم} أي لأجل معاندة الرسل {من القرون} الماضين من المعرضين عن الآيات، ونجينا من آمن بها، وربما كان قرب المكان منزلاً قرب الزمان لكثرة التذكير بالآثار، والتردد خلال الديار.
ولما كان انهماكهم في الدنيا الزائلة قد شغلهم عن التفكر فيما ينفعهم عن المواعظ بالأفعال والأقوال، أشار إلى ذلك بتصوير اطلاعهم على ما لهم من الأحوال، بقوله: {يمشون} أي أنهم ليسوا بأهل للتفكر إلا حال المشي {في مساكنهم} لشدة ارتباطهم مع المحسوسات، وذلك كمساكن عاد وثمود وقوم لوط ونحوهم. ولما كان في هذا أتم عبرة وأعظم عظة، قال منبهاً عليه مؤكداً تنبيهاً على أن من لم يعتبر منكر لما فيه من العبر: {إن في ذلك} أي الأمر العظيم {لآيات} أي دلالات ظاهرات جداً، مرئيات في الديار وغيرها من الآثار، ومسموعات في الأخبار.
وفي قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ} - إشارة إلى أن السمع طريق من طرق الاهتداء.. سواء كان هذا المسموع من كلمات الله، أو من الأخبار الصحيحة والعظات النافعة.. فالكلمة الطيبة، إذا تلقتها أذن واعية، واستقبلها قلب سليم، أينعت، وأثمرت، كما تينع وتثمر البذرة الطيبة، فى الأرض الطيبة.
أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ اى اهل مكة الى سبيل الرشد ولم يوقظهم عن هجعة الغفلة ورقاد العناد كَمْ أَهْلَكْنا اى كثر إهلاكنا واستيصالنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ اهل الْقُرُونِ الماضية الهالكة المغرورين أمثالهم بالكبر والخيلاء بما عندهم من المال والجاه والثروة مع ان هؤلاء المعاندين يَمْشُونَ ويمرون فِي مَساكِنِهِمْ الخربة ودورهم المندرسة الكربة وقت ترحالهم نحو متاجرهم وما يعتبرون منها إِنَّ فِي ذلِكَ المرور والعبور وفي رؤية تلك المنازل والاطلال المغمورة والبلاد المقهورة لَآياتٍ دلائل واضحات وشواهد لائحات على كمال قدرتنا واختيارنا وشدة انتقامنا وقهرنا أَفَلا يَسْمَعُونَ مقتضيات الآيات ولا يتدبرون حق التدبر والتفكر حتى يتخلصوا عن اودية الضلالات واغوار الجهالات ويتصفوا بأنواع الهدايات والكرامات.
من هداية الآية:
ينبغي على المسلم أن ينظر لمن حوله ويتعظ ممن أهلكهم الله وعاقبهم، بسبب ظلمهم ومخالفتهم أوامر الله، من سفك للدماء وانتهاك للحرمات والأعراض وترك الفرائض وغيرها.
بعض الناس إذا أصيب من لا يحبه ببلاء أو مصيبة يقول هذا عذاب من الله لأنه كذا وكذا!! وإذا أصيب من يحبه يقول: هذا ابتلاء لأنه مؤمن!! فلا ينبغي تقسيم الناس بحسب الأهواء وما تشتهيه الأنفس!!
الظلم من أعظم الأسباب والدوافع لزوال الأمم ونزول النقم!
فيها تذكرة وعبرة بالموت، من خلال إهلاك الأمم والقضاء عليهم وإفنائهم، وأن هذه الدنيا زائلة لا تدوم لمخلوق أبدا.
أهمية الاستفادة من قصص من مضى من الأمم والوقوف على أحوالهم وما صنعوا ومآلهم.
من الضروري عند سماع أخبار السابقين ومصارع الغابرين، تدبرها وتأملها واستخراج الفوائد واستنباط العبر والانتفاع منها في حياتنا عسى أن تكون لنا واعظ ومنزجر.
ينبغي معرفة أحوال الأقوام التي أهلكها الله لتجنب فعالهم والابتعاد عما يوصل إلى غضب الله ومقته.
الإنسان في هذه الدنيا سيرحل، وأفسد معتقد للإنسان أن يظن أن وجوده أصليا دائما في الدنيا، والصحيح هو وماله وذريته وكل ما يملك هو سيزول إذن هو مستخلف في الأرض كما قال تعالى { هو الذي جعلكم خلائف في الأرض} .
من مصلحتنا أن يُبيِّن الله لنا عاقبة المكذبين؛ لأنه ينبهنا إلى الخطر قبل أنْ نقع فيه.
مما يصلح حال الناس أنْ يستمعوا إلى حكايات عن الظالمين وعن نهايتهم، وما ينزل بهم من الانتقام الذي لا ينتظر الآخرة، بل يُعَجِّل لهم في الدنيا.
النظر في ديار الهالكين مما يورث اليقين في القلب والخضوع لله تعالى.
لابد من تعاهد القلب وتذكيره وعظته بأن هذه الدنيا فانية، حتى يبقى رقيقا ولا يغفل عن الله.
كان ابن عمر إذا أراد أن يتعاهد قلبه يأتي الخربة فيقف على بابها فينادي بصوت حزين فيقول: أين أهلك؟ ثم يرجع إلى نفسه فيقول {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} .
ثمود قوم صالح وهود قوم عاد مدن اندثرت وحضارات اندحرت، طواها التراب وما زالت الآثار شاهدة وما زالت سطور مكتوبة تحكي قصة هؤلاء الذين دمر الله عليهم وللكافرين أمثالها .
فكم من قوم كانت آمالهم لا نهاية لها، وأعمالهم وأفكارهم كثيرة، ثم أخذهم الله أخذ عزيز مقتدر.
في كل بلد ومدينة قصة، ومطلوب منا أن نسير في الأرض وأن ننظر ونبحث ونتحرى ونتقصى ونتعلم ونتعرف {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ} .
من دلالات الآية أن الضر والنفع بيد الله، فيهلك ما يشاء من القرى بعد تحقق أسباب ذلك، ويبقي غيرها دون عذاب.
اللهم انفعنا بالقرآن، وارفعنا بالقرآن، واجعله شفيعنا يوم نلقاك.

26- رمضان-1435هـ