ورقات في الإفتاء والوفاق والخلاف والترخص
عمرو بسيوني
- التصنيفات: دعوة المسلمين -
تلك ورقات وضعتها في شيء من أدب الفتوى ، سيما ما يتعلق بالوفاق والخلاف في الفقه ، وموقف المفتي منه ، في ألفاظ قليلة ، من غير طول عرض ومناقشة واستدلال – وإن حرصت فيها على نقل زُبد من نقول كبار أهل العلم المحققين المجتهدين ؛ للدلالة عليها ، ولتكون قواعد جامعة مختصرة محفوظة متداولة - ؛ لينتفع بها طلاب العلم ، والمتصدرون لهذا الشأن ، فتتدارس وتناقش وتشرح وتحفظ معاقدها .
*فضل العلم من آكد الأفضال في الكتاب والسنة ، ومنزلة العلماء استفاضت بها النصوص الشرعية ، وعن سلف الأمة وخلفها ، ومما يتفرع على تلك المنزلة : مقام الفتوى ، وهو مقام جليل عظيم ، وتوقيع للأحكام عن الله ورسوله ، قال تعالى : {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [الأنبياء: 7] ، وقال عز وجل : {الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا } [الفرقان: 59] ، وقال عز من قائل : {إِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83]، وقال جل جلاله : {لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ} [التوبة: 122] .
*والمسائل الشرعية لا تخلو أن تكون مسائل متفقا عليها ، أو مختلفا فيها .
*فالمجمع عليه إجماعا صحيحا لا خلاف فيه في عصر الصحابة ؛ حجة ، لا يجوز القول بخلافه .
*وإذا اتفق الصحابة على حكم ، ثم حدث خلاف بين المتأخرين فيه = فلا شك أن هذا الخلاف غير سائغ ، وغير صحيح ، لأنه يفضي لاتفاق السلف على الباطل .
قال شيخ الإسلام : « وإذا ذكروا نزاع المتأخرين لم يكن بمجرد ذلك أن يجعل هذه من مسائل الاجتهاد التي يكون كل قول من تلك الأقوال سائغا لم يخالف إجماعا؛ لأن كثيرا من أصول المتأخرين محدث مبتدع في الإسلام مسبوق بإجماع السلف على خلافه والنزاع الحادث بعد إجماع السلف خطأ قطعا «، ووفقا لما سبق فإن : «علماء المسلمين إذا تنازعوا في مسألة على قولين لم يكن لمن بعدهم إحداث قول ثالث ، بل القول الثالث يكون مخالفا لإجماعهم » .
فعلم من ذلك وجوب القول بمسائل الإجماع ، وعدم الخروج عن إجماع السلف عموما في الوفاق والخلاف .
*ومع كونه مجمعا عليه إلا أنه لا يخلو من نص استندت إليه الأمة في ذلك الإجماع ، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية :«ولا يوجد مسألة يتفق الإجماع عليها إلا وفيها نص » ، وقال : « ما من حكم اجتمعت الأمة عليه إلا وقد دل عليه النص فالإجماع دليل على نص موجود معلوم عند الأئمة ليس مما درس علمه» .
*وإن اختلف الصحابة ، فمن بعدهم ، على قولين ، واستقرَّ = لم يُلْغِ اتفاقُ مَن بعدهم وجودَ الخلاف القديم .
*والإجماع : قطعي وظني ، وكله إما استقرائي ، أو إقراري (سكوتي) ، فمتى قطع المجتهد بعدم المخالف – كما في المعلوم الضروري وكثير من معاقد الاتفاق وقواعد الدين - ؛ كان قطعيا ، لم يجز له مخالفته ، ومتى لم يقطع ؛ كان ظنيا .
*والإجماع الظني حجة ، لا يخالفها بمجرد الاحتمال ، بل ينبغي للمجتهد كي يخالفه أن يخالفه بدليل ظني أقوى منه ، فيتعارض الظنان عنده ، ويرجح بينهما أقواهما ، وإلا توقف .
*والخلاف بعد علماء الصحابة قد استشرى واتسع ، وكثر علماء الأمة في كل البلاد والأصقاع ، من علمنا منهم ومن لم نعلم ، لذا فأصح الإجماعات هو إجماع الصحابة لأنه هو الذي يكثر ضبطه ويمكن ، قال شيخ الإسلام : «الْإِجْمَاعُ الَّذِي يَنْضَبِطُ: هُوَ مَا كَانَ عَلَيْهِ «السَّلَفُ الصَّالِحُ» ؛ إِذْ بَعْدَهُمْ كَثُرَ الِاخْتِلَافُ، وَانْتَشَرَتِ الْأُمَّة » ، وقال : « بِخِلَافِ السَّلَفِ فَإِنَّهُ يُمْكِنُ الْعِلْمُ بِإِجْمَاعِهِمْ كَثِيرًا « .
*ثم الخلاف الذي يكون في مسائل الأحكام نوعان ، خلاف سائغ ، وخلاف غير سائغ .
*فالخلاف السائغ هو الخلاف الذي لا يخالف نصا - لا احتمال معتبرا فيه ، ولا معارض له - أو إجماعا قديما صحيحا .
*والخلاف غير السائغ ما كان مخالفا للنص ، أو الإجماع القديم .
وهو محرم ، قال الشافعي : «الاختلاف من وجهين : أحدهما محرم ،ولا أقول ذلك في الآخر». .
*هل للمفتي المخالف لقول مفت آخر ، وهو قول سائغ ، أن يرد عليه ، أو ينكر عليه ؟
قال شيخ الإسلام : « وقولهم مسائل الخلاف لا إنكار فيها ؛ ليس بصحيح ، فإن الإنكار إما أن يتوجه إلى القول بالحكم أو العمل. أمّا الأول فإذا كان القول يخالف سنة أو إجماعاً قديماً ؛ وجب إنكاره وفاقاً.
وإن لم يكن كذلك ؛ فإنه يُنكر بمعنى بيان ضعفه عند من يقول المصيب واحد وهم عامة السلف والفقهاء.
وأما العمل فإذا كان على خلاف سنة أو إجماع وجب إنكاره أيضاً بحسب درجات الإنكار.
أما إذا لم يكن في المسألة سنة ولا إجماع وللاجتهاد فيها مساغ لم ينكر على من عمل بها مجتهداً أو مقلدا » .
*ولكن لا يلزم من ذلك تأثيمهم ، ولا تفسيقهم ، - وذلك مطرد حتى في الخلاف غير السائغ إن كان صاحبه مجتهدا بعلم وعدل باستدلال سائغ - قال الإمام الشاطبي : « كما أنه لا ينبغي أن ينسب صاحبها إلى التقصير ولا أن يشنع عليه بها ولا ينتقص من أجلها أو يعتقد فيه الإقدام على المخالفة بحتا فإن هذا كله خلاف ما تقتضي رتبته في الدين » .
وأفتى الشيخ العثيمين في مسألة خلافية ، أفتى السائلَ فيها مفت بخلاف ما يراه الشيخ ، فقال في ختامها : «ما دمت مستنداً إلى فتوى عالم ليس بعامي من هؤلاء العوام فلا إثم عليك، لكن لتعلم أن هذه الفتوى غلط، فما أخذته بناءً على الفتوى فهو حلال، لكن في المستقبل من الآن انقطع، قدم استقالة».
*أما المفتي فإنه إذا أفتى في المسائل الخلافية السائغة فإنه لا يسعه إلا أن يخبر بما يعتقد هو صحته عند الله ، لا مجرد أن يسرد الخلاف ، دون توجيه وترجيح .
قال الإمام ابن الصلاح : « إذا اقتصر في جوابه على حكاية الخلاف بأن قال: فيها قولان أو وجهان، أو نحو ذلك من غير أن يبين الأرجح، فحاصل أمره أنه لم يفت بشيء » .
وقال ابن القيم : « فإذا عرض العامي نازلته على المفتي ، فهو قائل له : أخرجني عن هواي ودلني على اتباع الحق ، فلا يمكن والحال هذه أن يقول له : في مسألتك قولان فاختر لشهوتك أيهما شئت» .
وقال : « الإمام أبو بكر القفال المروزي - وهو من أئمة الشافعية الكبار من أصحاب الوجوه - : لو اجتهدت فأدى اجتهادي إلى مذهب أبي حنيفة، فأقول: مذهب الشافعي كذا وكذا، ولكني أقول بمذهب أبي حنيفة، لأنه جاء ليستفتي على مذهب الشافعي، فلا بد من أن أعرفه بأني أفتي بغيره » .
*ولا يكفي أن يفتي بالفتوى لمجرد أنها محفوظة لشيخ أو إمام ، دون نظر منه واجتهاد - إلا إن عجز أو ضاق الوقت - ، بل لابد من نظر منه للمسألة وأدلتها ، يفضي إلى قطع ، أو غلبة ظن .
قال الإمام ابن الصلاح : «واعلم أن من يكتفي بأن يكون في فتياه أو عمله موافقاً لقول ٍ أو وجه ٍ في المسألة، ويعمل بما يشاء من الأقوال أو الوجوه من غير نظر في الترجيح، ولا تقيد ٍبه فقد جهل وخرق الإجماع » .
وقال شيخ الإسلام : «أجمع العلماء على تحريم الحكم والفتيا بالهوى، وبقول أو وجه من غير نظر في الترجيح » .
قال الامام الشاطبي :«ووقع فيما تقدم وتأخر من الزمان الاعتماد فى جواز الفعل على كونه مختلفا فيه بين أهل العلم، لا بمعنى مراعاة الخلاف؛ فإن له نظرا آخر، بل فى غير ذلك، فربما وقع الإفتاء فى المسألة بالمنع؛ فيقال: لم تمنع والمسألة مختلف فيها، فيجعل الخلاف حجة فى الجواز لمجرد كونها مختلفا فيها، لا لدليل يدل على صحة مذهب الجواز، ولا لتقليد من هو أولى بالتقليد من القائل بالمنع، وهو عين الخطأ على الشريعة حيث جعل ما ليس بمعتمد متعمدا وما ليس بحجة حجة » .
قال الامام ابن القيم رحمه الله : «لا يجوز للمفتي أن يعمل بما شاء من الأقوال والوجوه من غير نظر في الترجيح ولايَعْتَد به، بل يكتفى في العمل بمجرد كون ذلك قولا قاله إمام أو وجها ذهب إليه جماعة فيعمل بما يشاء من الوجوه والأقوال حيث رأي القول وَفْقَ إرادته وغرضه عمل به، فإرادته وغرضه هو المعيار وبها الترجيح، وهذا حرام باتفاق الأمة .
وبالجملــة فــلا يجــوز العمــل والإفتــاء في دين الله بالتّشَهِّي والتخير وموافقة الغرض فيطلب القول الذي يوافق غرضه وغرضَ مَنْ يٌحابيه فيعمل به، ويفتي به، ويحكم به، ويحكم على عدوه ويفتيه بضده، وهذا من أفسق الفسوق وأكبر الكبائر، والله المستعان » .
وفي ذلك يقول الإمام القرافي: «لا ينبغي للمفتي : إذا كان في المسألة قولان : أحدهما فيه تشديد والآخر فيه تخفيف ؛ أن يفتي العامة بالتشديد والخواص من ولاة الأمور بالتخفيف وذلك قريب من الفسوق والخيانة في الدين والتلاعب بالمسلمين ، ودليل على فراغ القلب من تعظيم الله تعالى و إجلاله وتقواه ، وعمارته باللعب وحب الرياسة والتقرب إلى الخلق دون الخالق نعوذ بالله من صفات الغافل » .
*وذلك داخل في تتبع الرخص ، وهو محرم .
قال الإمام أحمد: «لو أن رجلاً عمل بكل رخصه ؛ بقول أهل الكوفة في النبيذ ، وأهل المدينة في السماع ، وأهل مكة في المتعة كان فاسقاً » .
و قال الإمام ابن عبد البر : «لا يجوز للعامي تتبع الرخص إجماعاً« .
ويروى عن إسماعيل القاضي أنه قال : «دخلت على المعتضد فدفع إلي كتاباً فنظرت فيه وقد جمع فيه الرخص من زلل العلماء وما احتج به كل منهم، فقلت : مصنف هذا زنديق ،فقال: لم تصح هذه الأحاديث ؟ قلت: الأحاديث على ما رويت ولكن من أباح المسكر لم يبح المتعة ، ومن أباح المتعة لم يبح المسكر ، وما من عالم إلا وله زلة ، ومن جمع زلل العلماء ، ثم أخذ بها ذهب دينه ، فأمر المعتضد بإحراق ذلك الكتاب » .
ويقول الإمام الزركشي في ذلك : «وفي فتاوى النووي الجزم بأنه لا يجوز تتبع الرخص ، وقال في فتاوٍ له أخرى ؛ وقد سئل عن مقلد مذهب : هل يجوز له أن يقلد غير مذهبه في رخصة لضرورة ونحوها ؟ ، أجاب : يجوز له أن يعمل بفتوى من يصلح للإفتاء إذا سأله اتفاقاً من غير تلقّط الرخص ولا تعمد سؤال من يعلم أن مذهبه الترخيص في ذلك « .
وقال الشيخ العثيمين في كلام له عن المستفتي وما يلزمه : « أن يريد باستفتائه الحق والعمل به لا تتبع الرخص وإفحام المفتي وغير ذلك من المقاصد السيئة » .
عمرو بسيوني