سلسلة يوميات مسلم (7): الصف الأول وتحية المسجد

عصام بن هاشم الجفري

إن الناس لو عقلوا فضل الصف الأول لازدحموا عليه ولحصلت بينهم مشاحة ولا يُفصل بينهم إلا بالقرعة فلا يصلي في الصف الأول إلا من خرجت القرعة باسمه، ولكم أن تتأملوا أحبتي كم من بيوت الله اليوم تحصل فيها هذه المشاحة على الصف الأول!

  • التصنيفات: فقه الصلاة -

الحمد لله الواحد الأحد الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، أحمده سبحانه وأشكره، جعل للصف الأول في الصلاة مزية لا يدركها كل أحد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا ند ولا ولد، وأشهد أن نبينا وحبيبنا وقدوتنا محمداً عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وعلينا وعلى جميع المسلمين. أمابعد:

فهذا نداء.. نداء من رب العالمين موجه إليكم معاشر المسلمين يقول الله فيه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً . يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيم} [الأحزاب: 70، 71].

أخي الحبيب في بداية الحلقة السابعة من هذه السلسلة: (يوميات مسلم) أود أن أهنؤك يا من وفقت للحضور والصلاة في جماعة بأنك قد فزت وخسر ذاك الذي صلى وحيداً في بيته، أتدري بما فزت؟ اسمع بشرى الفوز يزفها لك أطهر لسان نطق على وجه الأرض لسان نبيك وحبيبك صلى الله عليه وسلم يوم، أن قال كما في صحيح البخاري: «صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ تَفْضُلُ صَلَاةَ الْفَذِّ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً» (البخاري: 609).

قولوا لي بربكم أحبتي: لو قيل لذاك الذي يصلي في بيته أن هناك تجارة بجوار المسجد الريال فيها يربح سبعة وعشرين ريالاً، أتراه يجلس في البيت، أم أنه يقفز ويخرج مسرعاً وقد يغطي رأسه أو لا يغطيه ويأتي مزاحماً لينال شيئاً من الربح؟ 

وقد رأى المجتمع مثل هذه الحالة كثيراً منها ما يجري عند افتتاح الأسواق والإعلان عن هدايا، أو عند الاكتتاب في أسهم جديدة ونحوها، كيف ولو قيل له أن كل فرد من عائلتك يحضر للصلاة في المسجد تأخذ عليه عشرين ريالاً؟ لقام وساق أهله ولو بالعصي صغيرهم وكبيرهم، ذكورهم وإناثهم للمسجد ليحصل على ذلك المبلغ!
فيا أمة لا إله إلا الله لينظر كل منا لنفسه -وأنا والله أولكم- هل الذي يقودنا هو حب الدنيا أم حب الله والدار ألآخرة؟

لنتنبه أحبتي لتحذير الله العظيم يوم أن قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ . وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [الحشر:18،19].

أخي الحبيب: هل فاتك فرض واحد خلال حياتك لم تصله في المسجد وفاتك أجر الجماعة؟ فهل تسمح لي أن اقترح عليك أن تجعل الصلاة في جماعة أهم لديك من متابعة مباريات كرة القدم بل أهم لديك من أهلك وولدك؟
ألا تحب أن تقتدي بخير الورى نبيك وقدوتك صلى الله عليه وسلم؟ استمع معي إلى حاله مع صلاة الجماعة تنبئك عنه زوجه الحبيبة الصديقة بنت الصديق رضي الله عنه، إذ تقول واصفة حال النبي صلى الله عليه وسلم في بيته كما في صحيح البخاري: "كَانَ يَكُونُ فِي مِهْنَةِ أَهْلِهِ فَإِذَا سَمِعَ الْأَذَانَ خَرَجَ" (البخاري: 4944).

ثم ليكن أخي الحبيب أكبر همك أول ما تدخل المسجد الحرص على مكان في الصف الأول، نعم الصف الأول لأن له شأناً عظيماً عند الله بلغ من ذلك الشأن أن يقول فيه نبيك وحبيبك صلى الله عليه وسلم كما في صحيح البخاري من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الْأَوَّلِ ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلَّا أَنْ يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ لَاسْتَهَمُوا» (البخاري: 580).

معنى ذلك أن الناس لو عقلوا فضل الصف الأول لازدحموا عليه ولحصلت بينهم مشاحة ولا يُفصل بينهم إلا بالقرعة فلا يصلي في الصف الأول إلا من خرجت القرعة باسمه، ولكم أن تتأملوا أحبتي كم من بيوت الله اليوم تحصل فيها هذه المشاحة على الصف الأول!

أخي الحبيب ألا تحب أن يصلي عليك الله وملائكته؟ إذا أحببت ذلك فعليك بالصف الأول أخرج الإمام أحمد عن أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى الصَّفِّ الْأَوَّلِ» قَالُوا: "يَا رَسُولَ اللَّهِ وَعَلَى الثَّانِي؟" قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى الصَّفِّ الْأَوَّلِ»، قَالُوا: "يَا رَسُولَ اللَّهِ وَعَلَى الثَّانِي؟" قَالَ: «وَعَلَى الثَّانِي» (أحمد: 21233). وتأملوا معي أحبتي في نص الحديث فعندما قال: «الثاني» لم يكرر صلوات ربي وسلامه عليه عبارة «إن الله وملائكته يصلون» ولكن قال: «والثاني» فقط فهل بعد هذا يزهد في الصف الأول الزاهدون!

وعند الإمام أحمد أيضاً من حديث الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي عَلَى الصَّفِّ الْأَوَّلِ ثَلَاثًا وَعَلَى الَّذِي يَلِيهِ وَاحِدَةً» (أحمد: مسند الشاميين: 16531). أخي الحبيب: كأني بك وأنت تسمع هذا الفضل للصف الأول تذكرت قول ربك وخالقك حين يقول: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب: 43]. فطار قلبك فرحاً وقلت في نفسك: الله أكبر، في المحافظة على الصف الأول نجاة أكيدة من الظلمات إلى النور.

أخي الحبيب: إن أرجوك، ثم أرجوك، ثم إني أناشدك الله أن لا تكون من الذين يزهدون في الصف الأول ويتأخرون عنه، يأتون للمسجد في يوم الجمعة أو غيره والصفوف الأول فارغة فيجلسون في مؤخرة المسجد لحاجة من حاجات الدنيا كسرعة الخروج من المسجد أو إدراك السوق ونحوها؛ أناشدك الله أن لا تكون منهم لما في ذلك من وعيد يطير له الفؤاد وينخلع له القلب أخبرك به نبيك وحبيبك صلى الله عليه وسلم بقوله: «لَا يَزَالُ قَوْمٌ يَتَأَخَّرُونَ عَنْ الصَّفِّ الْأَوَّلِ حَتَّى يُؤَخِّرَهُمْ اللَّهُ فِي النَّارِ» (أبو داود: 581).

أخي الحبيب هذا سعيد بن المسيِّب أربعين عاماً ما فاتته تكبيرة الإحرام في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وما رأى ظهور القوم أي كانت كلها في الصف الأول، فقل لي بربك كم عاماً لم تفتك تكبيرة الإحرام؟ كم عاماً لم يفتك الصف الأول؟ بل كم شهراً؟ بل كم أسبوعاً؟ بل كم يوماً؟ بل كم صلاة؟

أخي الحبيب: هل لي أن أقترح عليك من اليوم ومن هذه الساعة أن تجعل لنفسك برنامجاً تُعوِّد فيه نفسك على عدم تفويت تكبيرة الإحرام أو الصف الأول؟ ولتبدأ بصلوات يوم واحد، ثم صلوات أسبوع، ثم شهر وهكذا، ولتعاقب نفسك إن قصرت بحرمانها من شيء تحبه وتحرص عليه، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد: 21].

الخطبة الثانية:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له وأشهد أن نبينا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. أما بعد:

فاتقوا الله عباد الله واحرصوا -رحمني الله وإياكم- على تلك التجارة الرابحة؛ فصلاة الجماعة في المسجد لا تأخذ من المرء الكثير من الوقت أو الجهد بل قد نبذل أحياناً جهداً أكبر منها في شأن من شؤون الدنيا؛ قد يمكث أحدنا في إنجاز معاملة له ساعات، بل قد يمكث أحدنا في صف للفول أو التميس أو في أحد المصارف ونحوها أكثر من وقت الصلاة، لكن عدوك إبليس يثقل عليك الخروج للصلاة حتى والعياذ بالله يكون نقل الجبال أهون عليك من الخروج لها.

فإذا وجدت ذلك أخي فتنبه فإنه علامة خطيرة من علامات مرض القلوب، أن تسمع منادي الله ينادي ولا تجيب، ثم إذا دحرت عدوك وقهرته وتحركت للمسجد فإنه يحاول أن يصرفك عن الصف الأول، فيقول لك: "أنت تصلي في الصف الأول حتى يقال عنك كذا وكذا..، إذاً أنت تريد الرياء، فارجع عن الصف الأول حتى لا يحبط عملك" ونحو ذلك.. 

وقصده الخبيث أن يخفف من الأجر الذي تحصل عليه، أو قد يؤذن عليك الآذان وأنت في مكان فيقول لك: "بإمكانك إدراك الصلاة في مسجد الحي أو في مسجد قريب من حاجتك التي تقصدها" ثم يوم أن تصل تجد أن صلاة الجماعة فاتتك أو فاتتك تكبيرة الإحرام أو ركعة أو ركعتان، أو على الأقل فاتك أجر الصف الأول. فهل تسمح لي أن أدعوك للتنبه لتلك المكايد الشيطانية، وأن تنبه عليها أولادك وأقرباءك وأصدقاءك وزملاء العمل وجيران الحي؟