الوطنية وإحياء الآثار الجاهلية

عبد الرحمن بن صالح المحمود

فقد عمّ العالم العربي وغيره من بلاد الإسلام، دعوا ت إلى القومية العربية، والهندية، والتركية وغيرها، وقامت هذه الدعوات مدعومة من الاستعمار، وكان للنصارى العرب الدور الكبير في الدعوة إلى القومية العربية، فحملوا لوائها، وصاحب هذه الدعوات القومية، دعوات وطنية خاصة بكل دولة، عمادها بعث التاريخ السابق على الإسلام...

  • التصنيفات: قضايا إسلامية معاصرة -

سؤالٌ يطرحه المسلم في هذه الأيام على أمته؟ يحتاج إلى جواب عملي، ونظري، خلاصته: هل فعلاً أن أمتنا الإسلامية، في عصرها الحاضر، لم تعرف بعد ولم تدرك موقعها بين الأمم؟ ومن ثم فهي تتخبط يميناً وشمالاً، مشرفاً ومغرباً، وكأنها بقايا أمةٍ منقرضة لا عقيدة عندها ولا شريعة، ولا تاريخ ولا حضارة؟

وإلا فما الذي يفسّر مسيرتها في هذا القرن الحادي والعشرين الميلادي؟ حيث يقود زمامها العلمانيون تارة، والقوميون تارة أخرى، وتلامذة الفكر الغربي تارات وتارات.

 لقد مرّ بعالمنا الإسلامي - في أثناء الاستعمار- محن تخللتها تيارات فكرية متنوعة، تستهدف العقيدة والأخلاق، وقد دعمها الأعداء، وأوحى بها الفكر الغربي والحضارة الأوروبية، وهي تقوم على ثلاث محاور:
المحورُ الأول: الدعوة إلى الحرية الشخصية والفكرية.
المحور الثاني: الدعوة إلى العلمانية، وفصل السلطة الدينية عن السلطة المدنية.
المحور الثالث: الدعوة إلى تحرير المرأة.
وفيما بين ذلك، الدعوة إلى تطوير التعليم، وتربية الأمة على المناهج الغربية، وعزلها عن منابعها الأصلية.
  
وها أنا أقدم لكم نماذج  ومنهجها المقتضى، لكونها مفهومة لدى الحاضرين ما أمكن.

فقد عمّ العالم العربي وغيره من بلاد الإسلام، دعوا ت إلى القومية العربية، والهندية، والتركية وغيرها، وقامت هذه الدعوات مدعومة من الاستعمار، وكان للنصارى العرب الدور الكبير في الدعوة إلى القومية العربية، فحملوا لوائها، وصاحب هذه الدعوات القومية، دعوات وطنية خاصة بكل دولة، عمادها بعث التاريخ السابق على الإسلام، أي تاريخ الجاهليات الوثنية، وإحياؤها، وإبراز عظمتها، وكان من أبرز الوسائل لذلك، أمر لا يتنبه البعض لخطورته وأثره العقدي على الأمة الإسلامية، ألا وهو: الاهتمام الشديد بالآثار في بلاد الإسلام، وقد بدأ الاهتمامُ بنشاط قوي، مفاجئ لبعوث الآثار الأجنبية بعد الحرب العالمية الأولى، حيث جاءت هذه الوفود إلى بلاد الإسلام، تنقب عن تلك الآثار القديمة وتكتب عنها، وتعلم شعوب المنطقة أهميتها التاريخية والمالية.

فهل كان هذا الاهتمام الغربي بآثارنا القديمة- وخاصة ما كان قبل الإسلام - عفوياً ونابعاً عن نية سليمة؟  

دعوني أضرب مثالاً:
 لقد أعلن الثري الأمريكي (روكفلر) بعد الحرب العالمية الأولى - أي قبل ما يقارب ثمانين عاماً - أعلن تبرعه بمبلغ عشرة ملايين دولار، لإنشاء متحفٍ للآثار الفرعونية، يلحق به معهدٌ لتخريج المتخصصين في هذا الفنّ، ملايين أ ظنُّها توازي ميزانية دولة من الدول، ينفقها هذا الثري الغربي على إحياء الآثار الفرعونية، في بلاد الإسلام مصر، فما الذي أثمرته مثل هذه الجهود؟

لقد قامت في بلاد الإسلام دعوات متعددة، ولكل إقليم جاهلياته القديمة، مع تربية الأمة عليها من خلال الوسائل المختلفة، وخاصة التعليم والإعلام.

 قد لا تصدقون أن الشاعر أحمد شوقي الذي يحوي ديوانه عدداً من القصائد الإسلامية، قال قصيدة يمجد فيها الفراعنة، وقد أهدى هذه القصيدة إلى المستشرق (مرجو ليوث) أستاذ اللغة العربية، وأستاذ عدد من مفكري مصر في ذلك الوقت، وقال شوقي في مقدمةِ الإهداء له: "نظمتها تغنياً بمحاسن الماضي، وتقييداً لآثار الآباء،  وقضاءً لحق النيل الأسعد الأمجد، ونسبتُها إليك عرفاناً لفضلك على لغة العرب، وما أنففت من شباب وكهولة، في إحياء علومها ونشر آدابها"

ومما قاله في هذه القصيدة - واسمحوا لي في هذا النقل، فإن الغرض من ذلك، نقله على سبيل التحذير والرد، وبيان باطله. يقول:

أين الفراعنة الذين استذري بهم ***عيسى ويوسف والكليم المُصْعقُ
الموردون الناس منهل حكمـة *** أفضى إليهـا الأنـبياء ليستقـوا
الرافعون إلى الضحى آبـاءهم *** فالشمس أصلهم الوضئ المعرق
وكـأنما بين البلى وقبـورهـم *** عهدٌ على أن لا مساس وموثـق
فحجابهم تحت الثرى في هيبة ***    كحجابهم فوق الثرى لا يُخـرق
بلغوا الحقيقة من حياة علمُـها *** حُجب مكثّفة وسـرٌ مُغـلـق
وتبينوا معنى الوجود فلم يروا *** دون الخلود سعادة تتحــقـقُ

ثم يقول:

لا الفرس أوتوا مثله يومـاً ولا *** بغـدادُ فـي ظـل الرشدِ وجلِّق
فرعون فيه من الكتائب مـقبلٌ *** كالسحب قرنُ الشمس منها مـفتق
تعنو لعزته الـوجـوه ووجهـه *** للشمس في الآفاق عانٍ مـطرقٌ
آبت من السفـر البـعيد جنوده *** وأتته بالفتــح السعيــد الفيلقُ
ومشى الملوك مصفدين خدودُهم *** نعلٌ لفرعون العظيـم ونُمـرُقٌ
ممـلوكة أعـناقــهـم ليمينه *** يأبى فيضــرب أو يمـن فيعتق

ويلاحظ كيف جعل الأنبياء عليه الصلاة والسلام يستقون من كلم الفراعنة، بل استذرى بهم عيسى ويوسف وموسى عليهم السلام ثم يجعل حضارتهم أعلى من حضارة المسلمين في بغداد ودمشق.

وفي سنة 1953 م-1373هـ عقد مؤتمر للثقافة الإسلامية برعاية جامعة برنستون ومكتبة الكونجرس بواشنطن، قدمت فيه عدد من البحوث، وشارك فيه عدد من الباحثين من العالم الإسلامي ومن الغربيين، كان منهم عدد من الأمريكان، قسس يحترفون التنصير: كالدكتور (ميلر بروز)  أستاذ الفقه الإنجيلي في جامعة بيل، و(هارولد سميث) أستاذ ونائب رئيس قسم الديانات بكلية ويستر، وكان هذا القسيس قبل ذلك رئيساً لقسم الفلسفة والأخلاق بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، وغيرهم ممن لهم مناصب مريبة.

 وقد ترجمت بحوث هذا المؤتمر إلى اللغة العربية، بعنوان الثقافة الإسلامية والحياة المعاصرة، وفي مقدمته تعريف بالباحثين المشاركين.

ولسنا بصدد مناقشات وأطروحات هذا المؤتمر حول الإسلام، وإنما الذي لفت الانتباه أن باحثين غربيين، كتبوا بحثين عرضوا فيه لقضية الآثار وأهمية إحيائها في البلاد الإسلامية.

 يقول أحدهما (د. كون): "منذ الآن يجب أن يبذل عملاء الآثار الغربيين جهداً مشتركاً لتدريب علماء الآثار المسلمين حتى يستطيعوا القيام بالعمل الذي يقومون به ويجب أن يبذل كل جهد ممكن للتأكد من أن هذه الأبنية والأهرام والتماثيل والنقوش سيحافظ عليها".
 
ويقول الباحث الثاني (د. ولسون): "منذ حوالي قرن مضى -وهذا الكلام سنة 1373هـ- أدت عمليات التنقيب الناجحة التي قام بها بوتا ولا بارد، في العراق وماريت في مصر، وشليمان في تركيا ، إلى تأسيس مصالح للإشراف على التنقيب إلى إنشاء متاحف وطنية".

ثم يقول بعد حديثه عن سقوط الدولة العثمانية: "والذي حدث هو أن عالم الآثار الغربي في كل دولة من تلك الدول، قد ساعد في إعداد قانون خاص بالآثار للبلدان الإسلامي الذي يعمل فيه، وأصبح مستشاراً لموظف وطني عُيّن من حكومته مديراً لمصلحة الآثار".

 ثم يقول مذكراً بما جرى في الغرب من رفضته لمسيحيته وعودته إلى وثنيته الكلاسيكية:
 "لقد كان الغرب من الثقة بقوته الفكرية، وبإيمانه الديني، بحيث اتخذ أساساً له مواد تنتمي إلى عصر سابق على المسيحية، وقد تمكن بالاعتماد على هذا الأساس القديم من أن يدرس نفسه ويختطَّ سبيله للمستقبل، فهل يصدق هذا القياس على الإسلام؟

ما الهدف؟
الهدف واضح؛ تنشئة الأجيال على القيم التي تستند إلى أساليب الحياة والفكر في هذه الجاهلية الوثنية التي عفى عليها الإسلام .

هذا نموذج لهذه الحرب الموجهة التي تريد أن تفصل بين الأمة الإسلامية وعقيدتها وشريعتها وحضارتها الإسلامية، وأن يستبدل بها جاهليات وقوميات في كل بلد إسلامي.

المصدر: موقع الشيخ عبد الرحمن بن صالح المحمود