معركة العصف المأكول
إن النظر في آثار الغابرين الذين غفلوا عن آيات الله الكونية وآياته مع رسله حتى أخذتهم الآية التي لا ينفع بعدها ندم ولا توبة- ليهز القلوب؛ حتى قلوب المتجبرين
- التصنيفات: أحداث عالمية وقضايا سياسية -
إن النظر في آثار الغابرين الذين غفلوا عن آيات الله الكونية وآياته مع رسله حتى أخذتهم الآية التي لا ينفع بعدها ندم ولا توبة- ليهز القلوب؛ حتى قلوب المتجبرين. ولحظات الاسترجاع الخيالي لحركاتهم وسكناتهم وخلجاتهم؛ وتصورهم أحياء يروحون في هذه الأمكنة ويجيؤون، يخافون ويرجون، يطمعون ويتطلعون.. ثم إذا هم ساكنون، لا حسٌ لهم ولا حراك؛ آثارهم خاوية، طواهم الفناء وانطوت معهم مشاعرهم وعوالمهم وأفكارهم وحركاتهم وسكناتهم، ودنياهم الماثلة للعيان والمستكنة في الضمائر والمشاعر.
إن هذه التأملات لتهز القلب البشري هزًا مهما يكن جاسيًا غافلًا قاسيا. ومن ثم يلزمنا أن نقف على بعضٍ من مصارع الغابرين بين الحين والحين لنوقن أن مصير أي طاغية متجبر كمصيرهم؛ وأن سنة الله الواضحة الآثار في آثار الغابرين ستناله؛ وأن عاقبته في هذه الأرض إلى ذهاب... ومن سننه في الغابرين (مصرع أصحاب الفيل).
فهذا أبرهة الحبشي يوجه جيشَه وفيلَه لهدم بيت الله الحرام، وأنساه طغيانُه أن ليس في الكون قوة إلا وهي خاضعة لقوة الله. ولم تنفعه ولا زجرته آية فيله الذي خاف الله فبرك دون مكة لا يدخلها، وجهدوا في حمله على اقتحامها فلم يفلحوا. ثم كان ما أراده الله من إهلاك الجيش وقائده، فأرسل عليهم جماعات من الطير تحصبهم بحجارة من طين وحجر، فتركتهم كأوراق الشجر الجافة الممزقة؛ كما يحكي عنهم القرآن الكريم فأهلكته وأهلكت قومه، قبل أن يدخل مكة.. وأصيب أبرهة في جسده، وخرجوا به معهم يسقط أنملة أنملة، حتى قدموا به صنعاء، فما مات حتى انشق صدره عن قلبه (تفسير ابن كثير).
وهكذا {لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} [يونس:92] -سنةٌ مألوفة في الغابرين- ليدرك من وراءك من الجماهير كيف كان مصيرك ويتعظوا به ويعتبرون، ويرون عاقبة التصدي لقوة الله ووعيده... فنرى أن الله أخذه وأخذ أفراد جيشه واحدًا بعد واحد ولم يَعذرهم بأنهم مقهورون يطيعون أوامر أبرهة -كما يتعذر بها جيوش ظلمة العرب ليظلموا الناس- لا؛ فكل من عتا عن أمر الله فيه -ولو كان هذا في أحوال الأفراد الشخصية- فقد يتعرض لما تعرضت له القرى من سنة الله التي لا تتخلف أبدًا.
وما تسمية كتائب القسام لمعركتهم بـ(معركة العصف المأكول) إلا لما فيها من دلالة على هذه الحقائق الثابتة في خط سير البشرية؛ ولما لها كذلك من أثر في النفس الإنسانية عميق عنيف... فما سيرةُ إسرائيل في غزة إلا استدراج من الله سبحانه ليهلكها بما أهلك به أبرهة وجيشه... {وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا} [الإسراء:51]. فإن كان أبرهة قد قصد بيت الله بالهدم، فإن اليهود قصدوا ما هو أعظم من بيت الله وهي النفس المحرمة.. قصدوها بالقتل دون جرم اجترمته، ولا ذنب اقترفته... فأي ظلم يا يهود أكبر مما حذركم الله منه في كتابكم: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة:32]، وإنما هو {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ} [الأعراف:182] وهذه هي القوة التي لا يحسبون حسابها وهم يشنون هذه المعركة الضارية ضد قطاع غزة وضد العزل المستمسكة بأرضها المتجمعة على آصرته.
هذه هي القوة التي يغفلها المكذبون بآيات الله.. إنهم لا يتصورون أبداً أنه استدراج الله لهم من حيث لا يعلمون، ولا يحسبون أنه إملاء الله لهم إلى حين.. فهم لا يؤمنون بأن كيد الله متين! إنهم يتولى بعضهم بعضًا ويرون قوة أوليائهم من أمريكا والغرب ظاهرة في الأرض فينسون القوة الكبرى؛ إنها سنة الله مع المكذبين.. يرخي لهم العنان، ويملي لهم في العصيان والطغيان، استدراجًا لهم في طريق الهلكة، وإمعانًا في الكيد لهم والتدبير. ومن الذي يكيد؟ إنه الجبار ذو القوة المتين! ولكنهم غافلون! والعاقبة للمتقين؛ الذين يهدون بالحق وبه يعدلون.
فكان هذا أول النصر لمجاهدي القسام بهذه التسمية الفاصلة التي ربطت فعل اليهود بفعل أبرهة -ونحن نستبشر بإيحاء هذه الدلالة- ثم لم يكتفوا بما اكتفى به عبد المطلب في حادثة الفيل إذ أمر قريشًا بالخروج من مكة، والتحرز في شعف الجبال. وقام فأخذ بحلقة باب الكعبة، وقام معه نفر من قريش يدعون الله ويستنصرونه. وروي عنه أنه أنشد:
لا هُمَّ إن العبد يمنع رحله فامنع رحالك
لا يغلبن صليبهم ومحالهم أبدًا محالك
إن كنت تاركهم وقبلتنا فأمرٌ ما بدا لك!
لم يكن لأسود القسام إلا رد واحد: هو سورة الأنفال وبراءة {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ . وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ} [التوبة:14، 15]... فاستجابوا لأمر الله ورسوله طائعين مختارين وإن المعركة على هذا النحو لن تكون متكافئة أبدًا؛ لأن مجاهدي القسام -ومعهم الله تعالى- سيكونون في صف؛ واليهود -وليس معهم إلا ناس من البشرِ من أمثالُهم- سيكونون في الصف الآخر. والمعركة على هذا النحو مقررة المصير!
فبعد أن حمى الله بقدرته البيت الحرام فلم يقدّر لأهل الكتاب (أبرهة وجنوده) أن يحطموا البيت الحرام أو يسيطروا على الأرض المقدسة، إذ به سبحانه يكشف لهم عن قدرته وهو يدير المعركة من ورائهم في أرجاء قطاع غزة وحدودها؛ ويقتل لهم أعداءهم اليهود، ويكشف المنافقين... وعندئذ تعود سورة الفيل من دلالة قصة أبرهة وجيشه لتُستَطردَ في معركة غزة لتصف حال أبرهة في اليهود وتقرن إليها حالهم؛ لتتم الموازنة وتقع العبرة في زماننا هذا كما وقعت لقريش والعرب بأبرهة وجنده... فها هو مكر اليهود يضل فلا يبلغ هدفه وغايته من عدوانه {أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ} [الفيل:2].. وها هي أبابيل القسام تجول وتصول في مستوطنات اليهود وثكنات خنازيرهم وتلتقط صور الكنيسيت {وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ} [الفيل:3].. وها هي حجارة سجيل القسام (صواريخ ج80) ترمى على اليهود في مستوطناتهم وتضيء سماء تل أبيب {تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ} [الفيل:4].. فكبدتهم في اقتصادهم وكبلتهم في حركاتهم ومزقتهم في أبدانهم وأرواحهم {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} [الفيل:5].
كل هذا ليعلم اليهود وإخوانهم المنافقون أن الأمور لا تمضي في الناس جزافًا؛ والحياة لا تجري في الأرض عبثًا؛ فهناك نواميس ثابتة تتحقق، لا تتبدل ولا تتحول. والقرآن يقرر هذه الحقيقة، ويعلمها للناس، كي لا ينظروا الأحداث فرادى، ولا يعيشوا الحياة غافلين عن سننها الأصيلة محصورين في فترة قصيرة من الزمان، وحيز محدود من المكان. ويرفع تصورهم لارتباطات الحياة، وسنن الوجود، فيوجههم دائمًا إلى ثبات السنن واطراد النواميس. ويوجه أنظارهم إلى مصداق هذا فيما وقع للأجيال قبلهم؛ ودلالة ذلك الماضي على ثبات السنن واطراد النواميس.