حرب غزة قراءة في مشهدين
خالد سعد النجار
إن المستقبل العربي يعاد صياغته من جديد على يد أبناء لم تستسغ أجسامهم رضاعة ألبان الخيانة والعمالة، ورفضت عقولهم النيرة فكرة أمريكا القائد الأوحد في العالم، الذي ينبغي على الجميع الدوران في فلكها، فالمعول الآن على التيار الشعبي العربي الواعي الذي صار أكبر من الكل، والذي على يديه ستتحقق إنجازات -بإذن الله تعالى- تبهر القريب والبعيد..
- التصنيفات: الواقع المعاصر - أحداث عالمية وقضايا سياسية -
في خضم الأحداث الدموية التي تمر بها غزة هذه الأيام، تتباين المواقف من داخل غزة نفسها ومن خارجها في آن واحد، فبينما بدت الفصائل الفلسطينية المجاهدة واضحة الرؤية في مواقفها البطولي، نجد على الجانب الآخر رؤية صادمة للموقف الرسمي المصري وآلة إعلامه الجبارة، وبالرغم من مشاركة آخرين لهذه الرؤية المصرية المشينة إلا أننا رأينا أن نركز على الموقف الفلسطيني الأبي من قلب غزة والموقف المصري المغاير باعتباره محوري في القضية الفلسطينية بحكم ثقل مصر التاريخي والعربي وتماسها الحدودي مع قطاع غزة.
تمر الأحداث سراعًا، وتسطر المقاومة الفلسطينية ملحمة بطولية وتكنولوجية في سابقة فريدة لم يعرفها النضال العربي الرسمي طيلة قيادته لملف القضية الفلسطينية، ولأول مرة تحلق طائرات حمساوية بدون طيار فوق مبنى وزارة الدفاع الصهيونية (الكرياة) بتل أبيب التي يقود منها الصهاينة العدوان على قطاع غزة، على الرغم من الغطاء الجوي ومنظومات الاعتراض المتطورة للاحتلال، كما أطلقت كتائب القسام عدة صواريخ على مدينة تل أبيب، بالتزامن مع جلسة المجلس الوزاري الإسرائيلي المصغر (الكابينيت).
وحدث بكل فخر عن إسقاط المقاومون الفلسطينيون لأربع طائرات إسرائيل بدون طيار كانت تحلق فوق أجواء قطاع غزة. وإعلان الجيش الإسرائيلي رسميًا عن مقتل أول إسرائيلي متأثرًا بجراح أصيب بها جراء شظايا صاروخ عند معبر بيت حانون. كما أرسلت كتائب القسام رسائل نصية هاتفية إلى نصف مليون إسرائيلي في إطار الحرب النفسية حيث حذرتهم من أن حكومتهم تقودهم إلى الهلاك.
وفي خضم حالة التخبط التي تعيشها القيادة الصهيونية أقال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو نائب وزير الدفاع الإسرائيلي (داني دانون) على خلفية مهاجمته لقيادة الدولة.
وأخيرًا خلص المحلل العسكري لصحيفة (هآرتس) الصهيونية إلى إن الحرب التي يشنها جيش الاحتلال على قطاع غزة قد استنفذت، وأن الجيش لن يحقق إنجازًا حاسمًا، وأن الجيش لا يمكنه تحقيق أهداف الحملة معتبرا أنه استنتاج كئيب لكنها الحقيقة المرة، فبعد بعد ستة أيام من انطلاق الحملة العسكرية حقق الجيش بعض النجاحات لكن ليس بمقدوره تحقيق إنجاز هجومي.
وسخر ممن يدعون إلى إطلاق يد الجيش لتحقيق الانتصار، وقال: "إنهم لا يدركون أين يعيشون"، مشيرًا إلى أنه: "لا يوجد إمكانية عملية لمنح الجيش ما يتطلب لاستنفاذ ذاته -غطاء سياسي وقضائي- لهذا لا معنى لقدرته على تحقيق ما كان في فترات سابقة وبظروف مختلفة يعتبر انتصارًا".
وقال: "إذا أصرت إسرائيل على شروط أفضل فإن من شأن ذلك إطالة شد الأعصاب، وزيادة ومعاناة السكان في قطاع غزة دون أي أنجاز حقيقي". واختتم المحلل الصهيوني مقالته بالقول: "سيتطلب من نتنياهو أن يحاول تسويق تنازلات إسرائيل لحماس أو للوسيط الدولي على أنها إنجازات، ولن يشكل ذلك تحديًا لنتنياهو، فالجمهور الإسرائيلي يتقبل كل شيء إذا تملقته وحدثته كم هو شعب موحد واستثنائي".
وإن تعجب فعجب من الإعلام المصري الذي تغلي مراجله حقدًا من هذه الإنجازات الغزاوية، وتسارع القيادة المصرية كعادتها لتبني مبادرة -بمباركة أمريكية- تخدم الصهاينة سرًا وتظهر للإعلام العربي بدور المشفق على أنهار الدماء الفلسطينية التي تسيل، والتي ترى أن مجرد وقف جريانها إنجازًا رغم الشروط الخفية المجحفة لإخواننا في النضال، فضلا عن زيادة ساعات فتح معبر رفح لكن بشكل لا يجهض الغرض من الحصار.
فلقد قال المحلل السياسي الإسرائيلي (إيهود يعاري): إن المبادرة المصرية لوقف إطلاق النار في غزة ضبابية وأن النظام المصري يهدف من ورائها إلى تحجيم حركة حماس، وأوضح (يعاري) أن النظام المصري يهدف من وراء المبادرة إلى منع حماس من تحقيق انتصار في العملية العسكرية الإسرائيلية على غزة المشتعلة منذ ثمانية أيام.
ومن جهته، قال المحلل العسكري (عاموس هرئيل) في مقال نشرته صحيفة هآرتس، أن القاهرة تحاول الآن أن تضمن مكاسب للسلطة الفلسطينية في التسوية وتشترط إعطاء حماس تسهيلات في معبر رفح بضمان تمثيل السلطة الفلسطينية في المعبر.
ويرى مراقبون أن المبادرة بمثابة غطاء لتجديد الشرعية الدولية للعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة من خلال إظهار حماس على أنها ترفض وقف إطلاق النار، وتواصل إطلاق الصواريخ على الإسرائيليين، بسبب عدم تعاطي المبادرة مع شروط المقاومة الفلسطينية القاضية بوقف جرائم الاحتلال وكسر الحصار المفروض على القطاع.
وحدد مسئولون إسرائيليون ثلاثة أسباب دفعت تل أبيب لقبول المبادرة المصرية لوقف إطلاق النار في غزة، أولها أن المبادرة لا تستجيب لمطالب حماس وخاصة الإفراج عن أسرى، وثانيها أنها تتحدث عن وقف غير مشروط لإطلاق النار، وثالثها أنها ترى أن قبول المبادرة بعد الضربات التي وجهت لإسرائيل يترك حماس في موقف ضعيف.
لكن حماس المقاتلة لا تقل عن حماس السياسية المناورة حيث رفضت المبادرة المصرية المقدمة لوقف إطلاق النار، مؤكدة أن المعركة مع العدو الصهيوني ستستمر وبشكل أشد ضراوة، ووصفت هذه المبادرة بأنها مبادرة ركوعٍ وخنوع، وأنها لا تساوي الحبر الذي كتبت به.
ومن المواقف المشرفة للدكتور حسام بدران المتحدث الإعلامي باسم حركة حماس، نفيه في تصريحات صحفية أن يكون قد وجه الشكر للقيادة المصرية، وتساءل: علاما نشكرها؟! وكانت تصريحات منسوبة للدكتور بدران تم نشرها علي صحيفة (اليوم السابع) المصرية تحت عنوان: "المتحدث باسم حماس: نشكر القيادة المصرية على دعمها، وننتظر المزيد"، وأشار بدران أنه بالفعل أدلى بتصريحات لمحرر (اليوم السابع) حول الوضع في غزة، لكنه لم يتطرق لتوجيه الشكر للقيادة المصرية، موضحاً أن القيادة المصرية تغلق معبر رفح، وترفض دخول أي شيء لغزة، وأنها منعت وفداً طبياً من أوربا دخول غزة، فكيف يشكرها، وما هو الذي قدمته هذه القيادة حتى يطالبها بالمزيد؟!
ويرى المحللون أن مصر خسرت أحد أهم مواقعها التي كانت تعطيها أفضيلة لدى صانع القرار الدولي، سواء الأممي أو الأمريكي، فالنفوذ المصري في الملف الفلسطيني كان يعادل نصف قيمة الدبلوماسية المصرية في العالم كله، للحساسية العالية للملف الفلسطيني الإسرائيلي في جميع عواصم العالم الكبرى، ومعلوم أن أول اتصال بين قادة العالم وأي رئيس مصري جديد يكون أول جملة فيه بعد التهنئة بالمنصب هو السؤال عن الموقف من القضية الفلسطينية وإسرائيل، فأن تخسر مصر مكانها وموقعها هنا يعني أنها خسرت -بضربة واحدة- نصف ثقلها الدبلوماسي، وهي خسارة تترجم بعد ذلك في تقلصات للدعم السياسي والاقتصادي والأمني والعسكري وخلافه، لأن العالم لا (يتصدق) عليك إلا وفق القيمة التي يمكن أن يجنيها من ورائك، أو الدور الذي يمكنك القيام به.
ولقد وصل الارتباك بالقيادة الصهيونية إلى إعلانها وقف إطلاق النار من جانب واحد، وهذا ما رفضته المقاومة الفلسطينية بشكل عملي حيث أعلنت كتائب القسام مسؤوليتها عن قصف مدن إسرائيلية، وأطلقت 32 صاروخًا وقذيفة بعد ساعات على إعلان إسرائيل وقف إطلاق النار من جانب واحد.
إن المستقبل العربي يعاد صياغته من جديد على يد أبناء لم تستسغ أجسامهم رضاعة ألبان الخيانة والعمالة، ورفضت عقولهم النيرة فكرة أمريكا القائد الأوحد في العالم، الذي ينبغي على الجميع الدوران في فلكها، فالمعول الآن على التيار الشعبي العربي الواعي الذي صار أكبر من الكل، والذي على يديه ستتحقق إنجازات -بإذن الله تعالى- تبهر القريب والبعيد، ولعل هذه القراءة هي تجلية لباب الأمل الذي ظلت الشعوب العربية تبحث عنه طيلة عقود وعقود، والحمد لله أننا أدركنا زمانًا مرغت فيه أنف الصهيونية في التراب، وقبل الغدارون وقف إطلاق النار من جانب واحد، وهم يرقبون بكل رعب ماذا سيرد المجاهدون الأوفياء عليهم، فكان الرد مدويًا، وقريبًا سيكون النصر الحاسم بإذن الله العزيز الجبار.