اليقين بالله

حسني البشبيشي

ـ اليقين بالله والآخرة موجود عند جميع الناس، ولكن بعض الناس تغافلوا عن الله والآخرة فأصبح يقينا كاذبا، فاليقين عند البعض كاذب وعند البعض الآخر حقيقي.

ـ اليقين بالله والآخرة موجود عند جميع الناس، ولكن بعض الناس تغافلوا عن الله والآخرة فأصبح يقينا كاذبا، فاليقين عند البعض كاذب وعند البعض الآخر حقيقي.

ـ كل الناس لديهم يقين تام بضعفهم وخضوعهم لله وبأن الدنيا وما بها من مال وشهوات إلى زوال، لكنه يقين كاذب عند البعض.

ـ كل إنسان يعرف الحق والمطلوب أن يتصور ما يعرفه فلا يتناساه.

ـ والأدلة على ذلك كالتالي:

1ـ كل من بلغته دعوة الرسل هو يؤمن بصدق الرسل وبالتالي يوقن بوجود الله والآخرة وإن قال غير ذلك: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ}، {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ}، {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إلا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}، {فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ} ، ولقد كان أبو طالب يقول: لقد علموا أن ابننا لا مكذب لدينا، ولا يعني بقول الأباطيل.

2ـ اليقين بتوحيد الله موجود عند جميع الناس ومقتنعين به في داخلهم، ففي التفسير المنير: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ}  فالمراد من الآية أن اللّه تعالى جعل الفطرة التي فطروا عليها من الإقرار بالتوحيد حجة مستقلة عليهم، ولهذا قال: "أَنْ تَقُولُوا" أي لئلا تقولوا يوم القيامة: إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا أي التوحيد غافِلِينَ أي لم ننبه إليه، وهذا اليقين النظري كان موجودا عندهم في حياة الذر (أي قبل الخلق) ولا يزال موجودا عندهم في الدنيا إذ لو لم يكن موجودا عندهم في الدنيا لكان حجة لهم يوم القيامة لأن غياب هذا الأمر عنهم لا دخل لهم فيه، فاليقين النظري موجود عندهم لكنهم تغافلوا عنه وتناسوه وأعرضوا عنه عنادا.

ـ وفي تفسير السمعاني: {فَأَما الَّذين اسودت وُجُوههم أكفرتم بعد إيمَانكُمْ} أَي: يُقَال لَهُم: أكفرتم بعد إيمَانكُمْ؟!، فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ كفرُوا بعد الْإِيمَان وَلم يَكُونُوا مُؤمنين قطّ؟، قيل أَرَادَ بِهِ إِيمَان يَوْم الْمِيثَاق، وَكَفرُوا بعده.

فكل مولود يولد على هذا الإيمان ثم بعد ذلك يضيع الإيمان ولا يبقى منه غير اليقين النظري، ففي الحديث: «كل مولود يولد على الفطرة حتى يعرب عنه لسانه فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه»، فيتناسى التوحيد بعدما عقله وتنتقل مشاعره للدنيا، أي بعد أن كان لديه رصيد كامل من الخوف من الله وحبه ورجاءه، يظل ينقص هذا الرصيد كلما أحب الدنيا وكلما خاف غير الله حتى تنتقل مشاعره للدنيا ويخضع لها.

3ـ الإنسان الضال يعلم الحق ويوقن بالحق ورغم ذلك يختار الباطل، ففي تفسير البحر المحيط:  {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً}: "وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ": أي من اللّه تعالى سابق، أو  على علم من هذا الضال بأن الحق هو الدين، ويعرض عنه عنادا، فيكون كقوله: {وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ}، وفي تفسير التسهيل لعلوم التنزيل: {اتخذ إلهه هَوَاهُ} أي أطاعه حتى صار له كالإله  {وَأَضَلَّهُ الله على عِلْمٍ} أي علم من الله سابق، وقيل: على علم من هذا الضال بأنه على ضلال، ولكنه يتبع الضلال معاندة.

وفي التفسير الوسيط للقرآن الكريم: وقوله: {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ} .... والحال أن هذا الشقي عالم بطريق الإيمان، ولكنه استحب الغي على الرشد.

4ـ اليقين الكاذب بالآخرة موجود عند الكفار لأن الله يصف الكفار بأنهم "نسوا الآخرة": {فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا}، والذي ينسى شيئا أو يتناساه لابد أنه كان يعلمه مسبقا، فالكفار كانوا يوقنون بصدق دعوة الرسل وبصدق ما كانت تقوله الرسل من وجود الآخرة، كما أن آيات الكون تدل على أنه لابد من حياة أخرى يكون فيها الثواب والعقاب، فلا يمكن أن يترك الله الإنسان الذي لم يخضع لله يموت بغير عقاب ولن يترك الذي خضع له يموت بغير ثواب، فلابد من إحياءه مرة أخرى للحساب، فالكفار يتناسون الآخرة لذلك فهم لا يخافون منها رغم علمهم بها: {كَلَّا بَلْ لَا يَخَافُونَ الآخرة} والذي لا يخاف من شيء مخيف لابد أنه يعلمه لكن لا يتصور خطورته لأنه يتناساه.

وفي تفسير الهداية إلى بلوغ النهاية:  {إِنَّهُمْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ حِسَاباً }  أي: لا يخافون محاسبة الله لهم على أعمالهم في الآخرة، قال قتادة: كانوا في الدنيا لا يخافون محاسبة، إذن هم يوقنون بها ولكنه يقين كاذب، وحقيقة أمرهم أنهم لا يوقنون بالآخرة يقينا حقيقيا لأنهم يتناسوها ولا يخافون منها ولا يترقبونها ولا يعقلون خطورتها وينفرون منها.

5ـ في تفسير ابن كثير: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} لِلْفَرِيقَيْنِ جَمِيعًا مِنَ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ، أَيْ: وَحِّدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ، وَبِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}  أَيْ: لَا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ غَيْرَهُ مِنَ الْأَنْدَادِ الَّتِي لَا تَنْفَعُ وَلَا تَضُرُّ، وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَا رَبَّ لَكُمْ يَرْزَقُكُمْ غَيْرُهُ وَقَدْ عَلِمْتُمْ أن الذي يدعوكم إليه الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ تَوْحِيدِهِ هُوَ الْحَقُّ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ. وَهَكَذَا قَالَ قَتَادَةُ.

6ـ قال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى}، {الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخرة}، {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخرة}، والذي يؤثر ويفضل شيء على شيء آخر هو يوقن بوجود الشيئين.

 

اليهود والنصارى يعلمون ويوقنون بأن النبي مرسل من عند الله وبأن ما جاء به حق ومع ذلك يتغافلون عن كونه رسول الله ويتغافلون عن ما جاء به من توحيد الله تعالى، ويكذبون بألسنتهم مع اليقين بقلوبهم: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ}، وفي تفسير الهداية الى بلوغ النهاية: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}.

وعن قتادة أيضاً: {يَعْرِفُونَهُ} أي: يعرفون محمداً  صلى الله عليه وسلم  أنه نبي كما يعرفون أبناءهم. وهو قول الزجاج... وقال قتادة وغيره: " يكتمون أمر محمد  صلى الله عليه وسلم  وهم يعلمون أنه حق يجدونه في التوراة والإنجيل.

8ـ كل الناس يوقنون بالله والآخرة من خلال التفكر ولكنهم يتناسون ذلك، فالناس يعلمون أن أي ملك من ملوك الدنيا يريد من الناس أن يعظموه ويخضعوا له ويطيعوه، فهو بذلك يكون ملكا عليهم، فإذا لم يعظموه ويخضعوا له ويهابونه ويخافونه ويطيعوه هم بذلك لم يجعلونه ملكا عليهم، فكل الناس يعلمون ما الذي يريده الله منهم وهو أن يعظموه ويخضعوا له ويهابونه ويخافونه ويطيعوه.

ـ ومن الناس من يعظم الله ويخضع له ويهابه ويخافه ويطيعه فهو بذلك يجعله ملكا عليه، ومن الناس من يرفض الخضوع لأن الخضوع فيه ألم وذل وترك للشهوات، ويرفض أن يطيعه لأن ذلك يقيده ويخالف هواه رغم علمه ويقينه النظري التام بأن الله هو الملك عليه وأنه يجب عليه أن يخضع له ويخافه ويطيعه ولكنه يستكبر.

ـ وكل الناس يعلمون أنه لا يمكن أن يترك الله من يخضع له ومن لا يخضع سواء، فلابد أن يعاقب الذي لم يخضع ويثيب من خضع، وحيث أن الناس تموت ولا ترى عقابا أو ثوابا لأحد فلابد من بعث الناس مرة أخرى من أجل ثوابهم وعقابهم.

ـ كما أن كل الناس على يقين تام بأن الله يقدر على كل شيء، ويقدر على إحياء الميت بعد موته:

{قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأمر فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ}، فهم يوقنون بأن الله يحي الموتى فيخرج النبات الحي من البذرة الميتة التي لا روح فيها ويخرج الطفل الحي من النطفة الميتة وبالتالي فهم يوقنون بأن الله يقدر على أن يحي الإنسان بعد موته، ولكن هذا اليقين كاذب عند البعض، كما أنهم يوقنون بأن كل إنسان يقوم بعد نومه، أي يستعيد أهم صفات الحياة بعد أن فقدها، فأصبح يرى ويبصر ويفكر ويتحرك بعد أن فقد هذه الصفات التي هي أهم الصفات التي تميز الحي من الميت، فالله يظهر قدرته على سلب قوى الإنسان حتى لا يتكبر ويغتر بقوته ويعقل حقيقة نفسه ويعقل مدى قدرة الله عليه ثم يعيد إليه قوته وحركته حتى يعقل قدرة الله على إحياء الموتى، ولكن لا يفقه ذلك إلا أصحاب العقول والبصائر.

9ـ كفر الكافرين هو بطريقة التغافل استكبارا وعنادا وليس لعدم الاقتناع، والتغافل معناه أنه يعلم الحق ولكن يتغافل عنه، والفصل السادس به أكثر من تسعين دليلا على ذلك.