حفظ العرض
صالح بن عبد العزيز آل الشيخ
الحق الثالث:
من حقوق الأخوّة حفظ العِرض، وهو حق عظيم من الحقوق، بل لا يكاد تُفهم الأخوة الخاصة إلا أن يحفظ الأخ على أخيه عرضه، والأخوّة العامة؛ أخوّة المسلم للمسلم قد أمر النبي فيها بحفظ الأعراض، فقد ثبت في الحديث الصحيح، حديث أبي بكرة في البخاري ومسلم وفي غيرهما، أن النبي قال في خطبته يوم عرفة في خطبته في حجة الوداع يوم عرفة » (صحيح البخاري رقم 1742) إلى آخر الحديث، فعِرض المسلم على المسلم حرام بعامة، فكيف إذا كان بين المسلم والمسلم أخوّة خاصة وعقد خاص من الأخوة، كيف لا يحفظ عرضه، وقد قام بينهم من الأخوة والمحبة الخاصة ما ليس بينه وبين غيره، إذا كان المسلم مأموراً أن يحفظ عرض أخيه الذي هو بعيد عنه، الذي ليس بينه وبينه صلة ولا محبة خاصة، فكيف بالذي بينه وبينه موادّة، وتعاون على البر والتقوى، وسعي في طاعة الله، وفي العبودية لله جل جلاله، واكتساب الخيرات، والبعد عن المآثم.
لحفظ العرض مظاهر؛ لأداء هذا الحق مظاهر، هذا الحق أن تحفظ عرض أخيك الذي بينك وبينه أخوّة خاصة، وكذلك أخوك الذي بينك وبينه أخوّة عامّة لذلك مظاهر؛ من مظاهره:
أولاً: أن تسكت عن ذكر العيوب؛ لأن المصادقة أو الأخوة الخاصة تقتضي أن تطّلع منه على أشياء، يقول كلمة، يتصرف تصرفاً، فعل فعلاً، ما معنى الأخوة الخاصة إلا أن تكون مؤتمناً على ما رأيت، أن تكون مؤتمناً على ما سمعت، وإلا فيكون كل واحد يتحرز ممن يخالطه، فليس ثَم إذن إخوان صدق، ولا إخوان يحفظون المرء في حضوره، وفي غيبته، مما حَدَا ببعض الناس لما رأى الزمن -زمنه- لما رأى زمنه خلا من هذا الصديق، وهذا المحب الذي يحفظ عِرضه، ويكون وفيًّا معه، هداه أن ألف كتاباً وسماه (تفضيل الكلاب على كثير ممن لبس الثياب) لأنه وجد الكلب إذا أحسن إليه من ربَّاه، فإنه يكون وفياً له، حتى يبذل دمه لأجل من أحسن إليه، فقال تفضيل الكلاب على كثير ممن لبس الثياب، لأن كثيرين يخونون؛ يخالط مخالطة خاصة، ويطّلع على أشياء خاصة، ثم ما يلبث أن يبُثَّها، وأن يذكر العيوب التي رأى، وأن يفضحه بأشياء، لو كان ذاك يعلم أنه سيخبر عنه لعدّه عدوا، ولم يعدّه حبيبا موافياً، لهذا من حق أخيك عليك أن تحفظ عرضه بالسكوت عن ذكر عيوبه، سواء بمحضر الناس في حضرته، أو في غيبته من باب أولى، فإن حق المسلم على المسلم أن يحفظ العرض فكيف إذا كان ذلك خاصاً.
من مظاهر حفظ هذا الحق أن لا تدقق معه السؤال، وأن لا تبحث معه في مسائل لم يبدها لك، مثلا تراه في مكان، فتقول ما الذي جاء بك إلى هنا؟ ما الذي حضر بك؟ لماذا ذهبت إلى فلان؟ (وُوشْ عندك وفلان؟) إلى آخره من التدخل فيما لا يعني، إذا أحب أخبرك، وإذا لم يحب فإن الكتمان له فيه مصلحة، والمرء من حُسن إسلامه أن يترك ما لا يعنيه، ما ثبت ذلك على النبي صلوات الله وسلامه عليه بقوله « » (صحيح بن حبان رقم 299) إذا رأيته في حال، إذا رأيته متوجهاً لشيء، فلا تسأله عن حاله، لا تسأله عن الوُجهة التي هو ذاهب إليها؛ لأن عقد الأخوة لا يقتضي أن يخبرك بكل شيء، فإن للناس أسراراً وإن لهم أحوالاً.
المظهر الثالث من مظاهر حفظ العرض أن تحفظ أسراره. وأسراره هي التي بثها إليك، بثّ إليك نظراً له، بثّ إليك رأياً رآه في مسألة، تكلمتم في فلان، فقال لك رأياً له في فلان، تكلمتم في مسألة فله رأي فيها بثَّه إليك؛ لأنك من خاصته، ولأنك من أصحابه، ربما يخطئ وربما يصيب، فإذا كنت أخاً صادقاً له فإنما بث إليك ذلك لتحفظه لا لأن تشيعه، لأن مقتضى الأخوة الخاصة أن يكون ما بين الأحباب سر، كما جاء في الحديث الذي رواه أبو داوود في سننه « » (سنن الترمذي رقم 1959) هي أمانة، والله جل وعلا أمرنا بحفظ الأمانات، وحفظ الأعراض، لأنّك إذا ذكرت هذا الرأي منه، فإن الناس سيقعون فيه، ترى منه رأياً عجيباً، تقول فلان يرى هذا الرأي، فلان يقول في فلان كذا، ما معنى الأخوَّة؟ هل تُشيع عنه ما يرغب أن يُشاعَ عنه؟ بل أعظم من ذلك أن يأتي أخ بينه وبين أخيه عقد أخوّة خاصة فيستكتمه على حديث فيقول: هذا الحديث خاص بك لا تخبر به أحداً. فيأتي هذا الثاني ويخبر ثالثاً ويقول: هذا خاص بيني وبينك ولا تخبر أحداً. ثم ينتشر في المجتمع والأول غافل عنه، كما قال الشاعر:
وكل سرٍّ جاوز الاثنين فإنه *** بنفس وتكسيرِ الحديثِ قمين
فهذا واقع، فإن المرء إذا اصطفى آخر؛ إذا اصطفى صاحباً له، أخاً له فأخبره بسر، فلا بد من الكتمان، خاصة إذا استأمنه عليه، فإذا لم يستأمنه عليه فكيف إذا استكتمه إياه، ولم يأذن له بذكره، من مظاهر حفظ العرض أن يُحجم المرء عن ذكر المساوئ التي رآها في أخيه، أو في أهله أو في قرابته، أو في ما سمع منه، مثلاً واحد يتّصل بأخيه، فيسمع -وهذا ساكن مثلا مع أهله أو منفرد- فيسمع في بيته ما لا يُرضي، فيذهب ويخبر؛ يقول: سمعت في بيت فلان كذا وكذا، وكذا. أو يراه على حال ليست بمحمودة، فيذهب يخبر بمساوئه، ليس هذا من حفظ العرض، بل هذا من انتهاك العرض، والواجب عليك أن تحفظ عرض أخيك، وإذا سمعت شيئاً عنه، أو رأيته هو على حال، أو تكلم بمقال، أو رأيته على شيء لن يحمد، أو نحو ذلك فحفظ عرضه هو الواجب، لا أن تبذل عرضه، وأن تتكلم فيه؛ لأن العرض مأمور أنت بحفظه، والمسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه. مسألة النصيحة تأتي إن شاء الله بحق خاص فيما يكون بين الإخوان من التناصح.
قد قال عليه الصلاة والسلام «صحيح مسلم رقم 2563) لقد اشتمل على كلمتين، وهو قوله عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث المتفق على صحته « » الفرق بين التحسس والتجسس كما قال طائفة من أهل العلم -وثَم خلاف في ذلك- قالوا: التجسس يكون بالعين، والتحسس يكون بالأخبار، دليل ذلك قوله جل وعلا {يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ} [يوسف:87]، {تَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ} من التحسس، وهو طلب الخبر، أما التجسس فنهى الله جل وعلا عنه في قوله {وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} [يوسف:12]، التجسس بالعين، تبدأ تنظر تتبعه، رأيته يسير في مسير، فتنظر إليه وتتبعه حتى تعرف خبره، لا بل اِحْمَدِ الله جل وعلا أن لم ترَ من أخيك إلا خيراً، كذلك التحسس ما أخبار فلان؟ إيش قال فلان؟ وهو من إخوانك وأصحابك الصادقين الذين بينك وبينهم خُلّة، وبينك وبينهم، وفاء وصحبة، فلا تحسس في أخباره، ولا تجسس عليه، فإن ذلك منهي عنه المسلم مع إخوانه المسلمين بعامة، فكيف بمن له معهم عقد أخوّة خاصة، لا تحسسوا يعني لا تتبع أخبار إخوانك، ولا تتجسسوا يعني لا تذهب بعينك, تنظر ما ذا فعل، وما ذا فعل، فإن هذا من المنهي عنه وهو من المحرمات.
» (