إياكم والمراء
صالح بن عبد العزيز آل الشيخ
فإذن النقاش لا يعني المراء، إذا بدأت المسألة تدخل في المِراء فانسحب سواء كنت محقاً أو ترى من نفسك أن الصواب مع أخيك وليس معك، فترك المراء محمود، وهو من حق الأخ على أخيه ألا يستدرجه في أن يماريه
الحق الخامس:
من حقوق الأخوّة أن تتجنّب مع إخوانك المراء والممارات، فإن المراء مُذْهِبٌ للمحبة، ومُذْهِبٌ للصداقة، مُفسد للصداقة القديمة، ومُحلّ للبغضاء والتشاحن والقطيعة بين الناس.
ما معنى المراء؟ يعني أن يكون ثَم مناقشة، ثَم بحث؛ يبحث رجل مع رجل، تبحث امرأة مع امرأة إلى آخره، كبير مع صغير، صغير مع كبير، فإذا أتى البحث، هذا يتعصب لرأيه، وهذا يتعصب لرأيه، فيماريه فهذا يشتدّ وذاك يشتدّ، هذه حقيقة الممارات؛ أن ينتصر كل منهما لرأي رآه، فيأتي بالأدلة فيرفع صوته، ثُم بعد ذلك يحصل في النفوس ما يحصل، وقد كان بعض ذلك بين الصحابة، فقد قال أبو بكر مرة لعمر: ما أردتَّ إلا مخالفتي. وهم الصحابة رضوان الله عليهم، فيجب أن يكون المسلم مع أخيه، ومع صحبته، ومع خاصته مُتنزهًا عن الممارات، لأن وجهات النظر في المسائل تختلف، كلما توسع نظر المرء، وتوسع عقله وإدراكه، علم أن النظر في بعض المسائل متسع، لا يكون على جهة واحدة، تناقش مسألة من المسائل فتنظر إليها من جهة، وينظر إليها الآخر من جهة أخرى، فتختلف أنت وهو، فإذا اختلفتما فكل منكما له وجهة نظره، فإذا ماريت واستدللت لقولك وتعصبت ثم رفعت صوتك والآخر كذلك حتى حصلت الشحناء؛ حصلت مفسدة ولم تحصل مصلحة.
والعاقل ينظر إلى أن الأمور التي يتناقش فيها الناس عادة في أمورهم تختلف وُجهاتها، لها وجهات كثيرة، ولها أسباب كثيرة، قد يأتي ثالث ورابع فيخرج كل واحد برأي جديد، يُخرِج كل واحد ممن أتى رأياً جديداً، وجهة نظر جديدة في المسألة المطروحة، فإذن النقاش لا يعني المراء، إذا بدأت المسألة تدخل في المِراء فانسحب سواء كنت محقاً أو ترى من نفسك أن الصواب مع أخيك وليس معك، فترك المراء محمود، وهو من حق الأخ على أخيه ألا يستدرجه في أن يماريه، لا يستدرجه في أن يجادله، أن لا يستدرجه في أن يكون هذا يرفع الصوت على هذا، حتى تنقطع الأخوّة وحتى يعدو هذا على هذا بالكلام، وإن لم يعدُ بالكلام، فقد يعدو بقلبه، ويظن أن هذا قصد كذا، وخالفه، ويرى كذا، وهذا لا يقدر هذا إلى آخر ذلك من مساوئ الشيطان.
المراء له أسباب؛ أسباب نفسية لابد أن يعالجها المرء في نفسه:
من أسبابه أن يُظهر أنه لم يستسلم لوجهة النظر، يقول رأياً خطئاً، فيأتي الثاني فيقول أنت أخطأت ليست كذا هي كذا، فيستعظم أن يخطأ، وإذا أخطأ فالحمد لله، العلماء أخطأوا في مسائل في الدماء ورجعوا عنها، أخطأ بعضهم في مسائل في الفروج ورجعوا عنها؛ في مسائل اجتهادية، الرجوع عن الخطأ مَحْمَدَة وليس بعيب، فكل من رجع عن خطأ أخطأ فهو تاج على رأسه، فهو يدل على أنه روَّض نفسه في طاعة الله، وجعل العبودية فوق الهوى، من أسباب المراء هذا الذي ذكرت.
ومن أسبابه الرغبة في الانتصار، هذا يرغب في أن يكون أحسن عقلاً، في أن يكون أحسن إدراكاً من الآخر، فيبدي وجهات نظر متنوعة، والآخر يبدي وجهات نظر من جهة أخرى، يريد أن يكون فائقاً عليه، فيماريه بأن يقول هذا الذي ذكرت، هذه النقطة خطأ بل الأصح أنها كذا، فيدخل في مراء بأسلوب يوقع الشحناء ويوقع البغضاء في القلوب.
من أسباب المراء أيضا عدم رعاية آفات اللسان، واللسان فيما ينطق، وفيما يتحرك به محاسب عليه، ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد وقد قال جل وعلا {خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء:114]، « » (سنن الترمذي 2616) -وأشار إلى لسانه- فقال معاذ: يا رسول الله أو إنا محاسبون على ما نقول، قال « » (سنن الترمذي 2616) فمن أسباب الممارات عدم رعاية إصلاح اللسان، الاستخفاف باللسان، واللسان كما قيل صغير الجِرم لكنه كبير الجُرم؛ يعني أن ما يحصل من الآفات عن طريق اللسان هذه عظيمة، فبها يتفرق الأحباب، بها تحصل الشحناء، بها تحصل العداوة، بها يدخل العدو، بها يدخل من يريد أن يوقع بينك وبين أحبابك، يدخل الكثير من جراء اللسان، فمن لم يحفظ لسانه من جرّاء الممارات في المسائل المختلف فيها التي تكون في المجالس عادة، فإنه يقع ولا بد ويكون بينه وبين إخوانه ما لا يحمد.
أخيراً في الممارات وفي المراء، المراء مضاد لحسن الخُلق، فإن الناظر إذا تأمل ما يجب عليه من حسن الخُلق، فإنه لا يماري، لأن الممارات فيها انتصار، وفيها استعلاء على الآخر، وهذا مضاد لحسن الخلق، بل تُبدي ما عندك بهدوء ولين، فإن قُبل منك فالحمد لله، وإلا تكون ذكرت وجهة نظرك، بعض الناس في المجالس يؤدي به المراء أن يكرر نفس الفكرة عشر مرات، عشرين مرة وهي، هي، يعيدها بصيغة أخرى، هذا ما يحمله على ذلك؟ يحمله الانتصار للنفس، أو أسباب أخرى الله أعلم بها، أو غفلة عما يجب عليه، إذا أوردتها مرة فُهمت عنك فلا تماري في ذلك؛ لأن حقيقة المراء أنه مضاد لحسن الخلق، والمسلم مأمور بأن يحسّن خلقه، والنبي أمرنا بذلك في أحاديث كثيرة.