العفو والفرح له

صالح بن عبد العزيز آل الشيخ

الحق السابع:

من حقوق الأخوة العفو عن الزَّلات، وهذا باب واسع، باب عظيم؛ لأن ما من متعاشرَين، ما من متصاحبين، ما من متآخين، أو ما من متآخين، إلا ولابد أن يكون بينهم زلات، لابد أن يطلع هذا من هذا على زلة، على هفوة، لابد أن يكون منه كلمة، لأن الناس بشر، والبشر خطّاء، «كلُّ بني آدمَ خطَّاءٌ، و خيرُ الخطائين التوابونَ» (صحيح الجامع 4515) فمن حق الأخوة أن تعفو عن الزلات.

الزلاّت قسمان: زلات في الدين وزلات في حقك، يعني زلات في حق الله وزلات في حقك أنت:

أما ما كان في الدين؛ إذا زلّ في الدين بمعنى فرّط في واجب؛ عمل معصية، فإن العفو عن هذه الزلة أن لا تشهرها عنه، وأن تسعى في إصلاحه، لأن محبتك له إنما كانت لله، وإذا كانت لله فأن تقيمه على الشريعة، وأن تقيمه على العبودية، هذا مقتضى المحبة، فإذا كانت في الدين تسعى فيها بما يجب؛ بما يصلحها، إذا كانت تصلحها النصيحة فانصح، إذا كان يُصلحها الهجر فتهجر، والهجر كما ذكرنا لكم في درس سالف الهجر نوعان: هناك هجر تأديب وهناك هجر عقوبة. هناك هجر لحضك، وهناك هجر لحض المهجور، إذا كان هو عمل زلة، فما كان لحضه هو إذا كان ينفع فيه الهجر فتهجره، إذا كان بين اثنين من الأخوة والصحبة والصداقة ما لا يمكن أن يستغني أحدهما عن الآخر فرأى أحدهما من أخيه زلة عظيمة، رأى منه هفوة بحق الله جل وعلا، فيعلم أنه إذا تركه ولم يجبه، إذا لقيه بوجه ليس كالمعتاد، فإنه يقع في نفسه أنه عصى، ويستعظم تلك المعصية، لأن هذا لا يستغني عن ذاك، فهذا يُبذل في حقه الهجر، لأن الهجر في هذه الحال مصلح، أما من لا ينفع فيه الهجر، فالهجر نوع تأديب وهو للإصلاح، ولهذا اختلف حال النبي صلوات الله وسلامه عليه مع المخالفين؛ مع من عصى، فهجر بعضاً، ولم يهجر بعضاً، قال العلماء: "مقام الهجر فيمن ينفعه الهجر فيمن يصلحه الهجر ومقام ترك الهجر فيمن لا يصلحه ذلك".

أمّا ما كان من الزلات في حقك، فحق الأخوّة أولا أن لا تعظِّم تلك الزلة, يأتي الشيطان فينفخ في القلب، ويبدأ يكرر عليه هذه الكلمة، يكرر عليه هذا الفعل حتى يعظمها، يعظمها وتنقطع أواصل المحبة والأخوة، ويكون الأمر بعد المحبة وبعد التواصل، يكون هجراناً وقطيعة للدنيا، وليس لله جل جلاله، سبيل ذلك أن تنظر إلى حسناته؛ تقول أصابني منه هذه الزلة، غلط علي هذه المرة، تناولني بكلام، في حضرتك أو في غيبتك، لكن تنظر إلى حسناته، تنظر إلى معاشرته، تنظر إلى صدقه معك في سنين مضت، أو في أحوال مضت، فتعظم الحسنات، وتصغر السيئات، حتى يقوم عقد الأخوة بينك وبينه، حتى لا تنفصل تلك المحبة.

 

الحق الثامن:

من حقوق الأخوة الفرح بما آتاه الله جل وعلا، فرح الأخ لأخيه بما آتاه الله جل وعلا، الله سبحانه قسم بين الناس أخلاقهم كما قسم بينهم أرزاقهم، فضَّل بعضهم على بعض، فحق الأخ لأخيه، وحق الأخ على أخيه أنه إذا آتى اللهُ جل وعلا واحداً من إخوانك فضلاً ونعمة فتفرح بذلك، وكأن الله جل وعلا خصك بذلك، وهذا من مقتضيات عقد الأخوّة، وهذا طارد للحسد، ومن لم يكن فرحاً بما آتى اللهُ جل وعلا إخوانه فإنه قد يكون غير فرح مجردًا، وقد يكون غير فرح وحاسد أيضاً، وهذا من آفات الأخوة فإنك تنظر أحياناً فترى أن هذا إذا رأى على أخيه نعمة، أو رأى أن أخاه قد جاءه خيرٌ وفضل من الله جل وعلا، وأسدى الله جل وعلا عليه نعم خاصة، بها تميز عمن حوله، أو تميز عن أصحابه، فإنه يأتي ويعترف بنفسه لهذا، لما أوتي هذا الشيء؟ أو ينظر في نفسه أن هذا لا يستحق هذا الشيء، أو نحو ذلك، وهذا من مفسدات عقد الأخوة، بل الواجب أن تتخلص من الحسد، وينبغي لك أن تفرح لأخيك، وأن تحب له كما تحب لنفسك، وقد قال عليه الصلاة والسلام: «لا يُؤمِنُ أحدُكم حتى يُحِبَّ لأخيه ما يُحِبُّ لنَفْسِه» (صحيح البخاري رقم 13). قال أهل العلم «لا يُؤْمِنُ» يعني الإيمان الكامل، «لا يُؤْمِنُ أَحدُكُمْ» الإيمان الكامل، «حتى يُحِبّ لأِخِيه ما يُحِبّ لِنَفْسِهِ»؛ تحب لنفسك أن تكون ذا مال، فكذلك أحب لأخيك أن يكون ذا مال، تحب لنفسك أن تكون ذا علم، أحب لأخيك أن يكون ذا علم، تحب لنفسك أن يُثنى عليك، كذلك أحب لأخيك أن يثنى عليه، وهكذا في أمور شتى وكثيرة، فطارد الحسد أن تفرح بما من الله جل وعلا به على إخوانك، وكأن الله جل جلاله حباك بهذا، فإن المؤمن ينبغي له، ويُستحب، بل ويتأكد بحقه أن يحب لإخوانه ما يحب لنفسه، وقول النبي عليه الصلاة والسلام لهذا الحديث يغني من الخير كما جاء ذلك مقيداً في رواية أخرى، فأمور الخير بعامّة، أحب لأخيك ما تحب لنفسك، ولا تحسد أحداً على شيء من فضل الله ساقه إليه.

 في المال: إذا أنعم الله جل وعلا على أخيك بمال، وصرت أنت معدماً مثلاً، أو قليل المال، وذاك في عزٍّ، وفي مال وفير، تستغرب من تصرفاته، تستغرب من مشترياته، تستغرب من أحواله، تستغرب من كرمه إلى آخر ذلك، فاحمد الله جل وعلا أن جعل أخاك بهذه المثابة، وكأنك أنت بهذه المثابة، ووطِّن نفسك على أن يكون ما أنعم الله جل وعلا به على أخيك كأنه أنعم عليك.

 كذلك في العلم: من الناس من لا يفرح بما آتى الله جل وعلا أخاه من العلم، يسمع أخاه مثلاً حقّق مسألة تحقيقاً جيداً، أو تكلم في مكان بكلام جيد، أو ألقى خطبة جيدة، أو أثر في الناس بتأثير بالعلم، ساق العلم مساقاً حسناً ونحو ذلك، فيظل يعتلج في نفسه ذلك، ولا يفرح أن كان أخوه بهذه المثابة، وعلى هذه الحال، هذا لا يسوغ، بل من حقوق الأخوة أن تفرح لأخيك بالعلم، إذا كنت مثلا لست مثله في العلم، أو كنت متخلّفاً عنه في العلم، وكان هو أحدّ فهماً، أو كان أحدُّ حفظاً، أو نحو ذلك، سبقك في ذلك، فاحمد الله جل جلاله أن سخر من هذه الأمة، وأن جعل من هذه الأمة من يبذل هذا الواجب ويكون متقدما فيه، لا تكن حاسداً لإخوانك على هذا.

والحسد داء قاتل، ومُذهب للحسنات، كما قال عليه الصلاة والسلام «إياكم والتحاسد فإنه يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب» وهذا يكون تارة في العلم، وتارة في المال، وتارة في الجاه، وفي أمور كثيرة, كذلك هذا وهذا متآخين ومتصاحبين يرى أنى أخاه يقدم عليه، أن أخاه له في المجالس كلمة، أن أخاه له جاه، أنه مقدّر، وهو ليس كذلك، فيحمله هذا على أ ن يكون في قلبه شيء على أخيه، وهذا لا ينبغي، بل هذا يدخل في الحسد، والواجب عليه أن يتخلص من الحسد؛ لأن الحسد محرم، والذي ينبغي في حقه أن يحب لأخيه كما يحب لنفسه، وكأنه هو الذي منَّ الله جل وعلا عليه بذلك.

كذلك في الدين والصلاح: من الناس من يُنعم الله عليه، يعني يفتح له باب من أبواب الخير في العبادة، فيكون كثير الصيام، أو كثير الصلاة، وقد سُئل الإمام مالك رحمه الله تعالى، فقيل له أنت الإمام، أنت مالك، وشأنك في الناس بهذه المثابة، ولا نراك كثير التعبد، لا نراك كثير الصلاة، لا نراك كثير الصيام، لا نراك مجاهدا في سبيل الله، فقال الإمام مالك لهذا الذي أورد عليه هذا الإيراد: إن من الناس من يفتح الله عليه باب الصلاة، ومنهم من يفتح الله عليه باب الصيام، ومنهم من يفتح الله عليه باب الصدقة، ومنهم من يفتح الله عليه باب الجهاد في سبيل الله، ومنهم من يفتح الله عليهم باب العلم، وقد فُتح لي باب العلم، ورضيت بما فتح الله لي من ذلك. الناس يختلفون، فإذا رأى أخا يتعبد والناس يثنون عليه بتعبداته، قد يحمله عدم الفرح بهذا الثناء على أخيه، أن يذكر عيبا من عيوبه، أن يذكر مقالة أخطأ فيها، أن يذكر شيئا من الأشياء التي ينقص بها من قدره، وهذا مخالف لما ينبغي في حقه، وأن يكون مع أخيه محبا له، كما يحب لنفسه، وأن يسعى في أن يكون أخوه مثنى عليه، ولو كان هو لا يعرف، ليست المسألة بالمقام بين يدي الناس، بل المسألة بالمقام بين يدي الله جل وعلا، بل المسألة في تخليص القلب، وتخليص النفس من أن يكون فيها غير الله جل جلاله، وقد ثبت في الحديث الصحيح في مسلم أن النبي r قال «إن الله لا ينظر إلى صوركم وأجسامكم وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم» ينظر إلى القلوب، وينظر إلى الأعمال، قد يكون المرء غير معروف خفي، لا أحد يعرفه، لكن هو عند الله جل وعلا بالمقام العظيم، كما جاء في الحديث «إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبرّه».

هناك حقوق أُخر أذكر منها اثنين الحق التاسع والعاشر، وتنظرون فيهما، وتُفرّعون كما ذكرنا: