واحات الأمل
محمد علي يوسف
من يمكن أن يقنط، وهو يشهد بعين قلبه ما آل إليه الحال من حسن المآل؟! فقط عليه أن يحقق الشرط، وأن يعي الدرس، يعي أن كل ما فات، وكل ما هو آت من تقدير المضرات والبلاءات، إنما هو رحمة، وحكمة، وذكري، رحمة من الرحمن الرحيم، وحكمة من لدن الملك العليم الحكيم..
- التصنيفات: قصص الأنبياء - الأدب مع الله وكتابه ورسوله -
تعلمُ: "واللهِ لقدْ أذنبَ صاحبك ذنبًا ما أذنبَهُ أحدٌ مِنَ العالمينَ.."!
دوت تلك الجملة في أذن الرجل، بينما يسير في طرقات المدينة مع رفيقه، التفت إليه في دهشة، وصاح فيه مستنكرًا: "وما ذاك؟"، قال ذلك، وعيناه الغاضبتان تتابعان حديثه الزاجر.. "ماذا تقول؟ ألا تعلم عمن تتكلم؟!".
كيف تجرؤ على اتهام ذلك الرجل الذي ما عرفنا أتقى ولا أصلح منه قط؟!
تفكر صاحبه هنيهة، واسترجع سمت الرجل الذي اتهمه منذ قليل، تذكر مواقفه التي طالما انبهر فيها بورعه وزهده وتقواه، تذكر تعظيمه لحرمات ربه، وكيف كان أكثر الناس إعلاءً لكلماته، ورعاية لأيمانه، تذكر صبره، وما أدراك كيف كان مداه! صبر ربما لم تعرف البشرية مثله قط، صبر سيصير بعد ذلك مضربًا للأمثال، حتى إذا ما ذكر الصبر ذكر صاحبهما..
إن له سنوات طويلة وهو ينتقل من ابتلاء إلى آخر، ابتلاءات تجتمع عليه في كل سكنة في حياته، في ماله، وفي عياله، في نفسه، وفي بدنه، في أهله وأحبابه وأصحابه، الكل تخلى عنه إلا زوجه الوفية،
الكل هجره وقلاه، تركوه في ذلك المكان الموحش، بضاحية من ضواحي المدينة، لا قوت له ولا دواء، إلا كسرات خبز، تحملها إليه امرأته الوفية، بعد يوم شاق تستغرقه خدمتها لنساء المدينة..
العجيب أنه لم ينشأ على هذا الحال، ولم يعش عمره في هذا البؤس ليقول قائل إنه معتاد عليه، إنه رجل من شرفاء قومه، كان له من المال والولد والمقام بين الناس ما يتحاكى به الخلق، حتى جاء البلاء، وفقد كل شيء، زال كل شيء..!
ذهب المال، وهلك النسل، وفارقته الصحة، حتى لم يبق في بدنه مغرز إبرة لم يباشره المرض، ولم يوهنه السقم، إلا قلبه الشاكر، ولسانه الذاكر، إلا يقينه بربه، وجميل ظنه، ومع رجل مثل هذا كفى بها نعمًا، لقد صبر أعوامًا ثقيلة، قد تمر على غيره كأنما هي قرون، لم يسخط قط، ولم يشتك لمخلوق أبدًا..
بل العجيب أنه وهو يرزح تحت وطأة ذاك البلاء العظيم، لم يشعر بفداحته كما شعر بها من عاين حاله من الخارج، ربما لأن جنته وبستانه وقرة عينه، ليست هي في متاع حوله، ربما لأنه لا يجد لذته إلا في مناجاة ربه، ربما لأن صدره يضم بين ربوع أضلعه قلبًا ذاكرًا يستضىء بشموس الحمد والثناء، وحسن الظن بمولاه، وتسري أنواره لتضىء جنبات نفسه العليلة، فتخفف عنها وطأة ما تكابده من شدة البلاء، ربما لأن لسانه الشاكر لم ينفك لحظة عن ترجمة تلك المشاعر النورانية إلى نسائم ذكر رطبت حلقه الذي يبسته الأسقام، وعقدت ريقه الأوجاع، وشقق أنسجته المرض..! ربما، ربما كل ذلك..
لكن المهم أنه صبر، وليس أي صبر، إنه صبر أيوب! إنه صبر يعجب له الصبر ذاته!
تذكر الرجل كل ذلك، وهو يقلب في ذهنه فكرته العجيبة، والتي ألقاها منذ قليل..
هل يعقل أن يكون ما قاله صحيحًا، هل مثل هذا العابد يقال عنه ذلك، تردد الرجل وهو يهم بالإجابة على تساؤلات صاحبه، لكنه أكمل طرح فكرته الحمقاء بأحرف مهتزة، وكلمات متثاقلة، تصارع أفكاره، وتنازع لسانه، فيخرج بعضًا ويمسك بعضًا..
- ألا ترى ما هو فيه من البلاء؟
- هل رأيت أحدًا أشد منه بلاء؟!
- لماذا لا يخفف عنه ربه؟
- منذ ثمانِي عشرةَ سنةً لمْ يرحمْهُ اللهُ تَعالى فيكشفَ ما بِهِ!
- لو كان الله علم من أيوب خيراً ما ابتلاه!
- لا أرى إلا أنه أحدث ذنبًا عظيمًا و... و.... و..... و..... وها هو ذا عقاب مولاه، حسبك يا مسكين!
يا لجهلك بسنن ربك! ألا تبًا لسوء ظنك! أما علمت أن الأنبياء أشد الناس بلاءً، ثم الأمثل فالأمثل؟
أما علمت أن البلاء رفعة في الدرجات، إذا ما صبر العبد واحتسب؟ إن من تتكلم عنه هذا إنما هو نبي مكلم، وما يدريك لعل ذلك أن يكون نموذجًا عمليًا للتحمل والصبر وإحسان الظن، يضربه المولى جل وعلا ليتذكره كل مبتلى؟!
حقًا ما أجهلك بربك، هذا نبي الله أيوب سلامٌ عليه، هلم بنا إليه فلنتبين منه، ولننهل من حكمته، ولنسأله عن زعمك المجحف الشنيع، لا أَدري ما تقولُ، "غيرَ أنَّ اللهَ يعلمُ أنِّي كنتُ أمرُّ على الرجلينِ يتنازعانِ فيذكرانِ اللهَ، فأرجعُ إلى بيتِي فأكفرُ عنهُما كراهيةَ أنْ يذكرَ اللهُ إلا في حقٍّ"، بهذه الكلمات البسيطة التي تقطر تواضعًا، أجاب أيوب عليه السلام! يا الله!
أهذا هو ما عددته ذنبًا أو تقصيرًا، أذلك هو ما استطعت تذكره، شيء ما فعلته إلا تعظيمًا وتبجيلاً لمولاك؛ أنك ما احتملت أن يقسم بالله كذبًا، فكفَّرت عن الحالفين، خشية أن يجعلوا الله عرضة ليمين كاذبة من أحدهما، أكرِم بك من عبد، وأعظم بك من ولي!
والله إنا لنحن المبتلون، ولست أنت، نحن الذين إذا طلب منا أن نعد معاصينا لما استطعنا، ربما لكثرتها، وربما لغفلتنا عنها، بينما أنت حين التمست شيئًا مشتبهًا عليك، ما وجدت إلا فضيلة أومنقبة، لله درك من عبد!
قال أيوب تلك الكلمات، لكن شبهة القوم لم تمر عليه مرور الكرام، فكلمات صاحبه الجارحة، وظن السوء الذي ألقاه صاحبه ورحل، ترك في نفسه أثرًا، يا لقسوة تلك الكلمات، أما من رأفة أو رحمة تكفكفهم، وهم يرونه على هذا الحال عن اتهامه في دينه بهذا القال، وإيلامه بهذا المقال؟!
مهلاً أيها المستعجلون، رويدكم أيها المتأولون..
مع أمثال أيوب من حاملي الرسالة ليس الأمر الأشق على النفس هو خوض الخائضين، وتشنيع المبطلين، وظن الظانين، أمثال أيوب ما يعنيهم في المقام الأول إلا رسالتهم، ولا تشغلهم سوى دعوتهم، وهذا الكلام الذي طرق مسامعه الآن، يعني أن هناك خطرًا على أغلى ما يملكه حامل الرسالة، وصاحب الدعوة، هناك خطر على دين الناس، على حسن ظنهم بربهم، على نظرتهم لعاقبة الطائعين..
لقد تحمل الأسقام لثمانيَة عشر عامًا عن طيب خاطر، تجرع الآلام النفسية قبل البدنية، والأولى أقسى ألف مرة، وهل تغادر قلبه لوعة فراق أبنائه، الذين هلكوا جميعًا في يوم واحد؟ هل ينسى مشهد زوجه المسكينة، وقد عانت الأمرين لتتمكن من جلب كسرات الخبز التي يقتات عليها، بعد أن عجز عن الحراك..
هذه المرأة الكريمة العزيزة تتحول لخادمة في بيوتات نساء المدينة، والعين ترقب، واليد عاجزة، لقد تحمل كل تلك الآلام، وما زال على استعداد لأن يتحمل مثل ما فات من الأعوام، لكن أن يسىء الخلق ظنهم بربهم؛ أن يفتنوا عن دينهم، بزور من التأول لحاله وبهتان، فهذا ما لا يحتمله قلبه الذاكر، ولا تطيقه نفسه العابدة الغيور، على جناب حكمة الله الرحيم الودود الرحمن، فمن الآن فإن الوقت قد حان، حان الوقت ليتحرك لسان طالما استحيا أن يشتكي..!
بل طالما استحيا ألا يلهج بالحمد والثناء، وهو الذي يعد الشكر نعمة في ذاتها تستحق الشكر والعرفان،
بعد كل تلك السنين آن لهذا اللسان الصابر المحتسب، أن يتحرك بدعوة خاشعة تبرق من بين ثنايا فمه واللسان، لتشق طريقها إلى كبد السماء، شاكية إلي الرحيم الرحمن، فليضرع لمولاه، وليفزع لسيده، ولينادي ربه: {...أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء:83].
ولكن..! مهلاً مرة أخرى هذا ليس دعاء، أو على الأقل ليست الصيغة الطلبية التي نعهدها في دعاء المسألة؟! همسة مناجاة هي شكوى حبيب لحبيبه، أو هي نفثة مصدور، يكللها أدب، ويتوجها ثناء، سبحان من رباك يا نبي الله، أي أدب هذا الذي ينضح من مناجاتك! أي لطف هذا الذي يقطر من عباراتك مسَّني الضر! أكل ما مر بك تسميه مسَّاً..!
ضياع مالك، وزوال جاهك، واعتلال بدنك، وفقد عيالك، وهوانك على الناس، كل ذلك مجرد مس؟! أي مقام هذا؛ أهو مقام أدبني ربي، أم هو جميل الصبر، أم لعلها بشاشة الرضا، أو هو شهود القلب لأنعم الرب، التي تتضاءل إلى جوارها البلايا، وتتصاغرإلي جنبها النقم والرزايا!
غريب مس ضر الأنبياء والأولياء ممن طهرت نفوسهم من الآثام، وصحائفهم من الخطايا، أني مسني الشيطان بنصب وعذاب، تستمر المناجاة وتتصاعد الشكاية، ليس منك يا رب، وإنما إليك، فالخير بيديك، والشر ليس إليك، لم يقل أيوب: (ابتليتني، أو: اختبرتني)، بل نسب الفعل للشيطان، وكذلك حال المحبين،لا ينسبون الشر أبدًا لمحبوبهم، لكأني بك يا أيوب، تتشبه بأخيك يوسف سلام الله عليه، حين قال: {...مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي...} [يوسف:100].
وكذا من بعدك قال الكليم موسى عليه السلام: {هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ} [القصص:15]، وكذا قال فتاه عليه السلام وما أنسانيه إلا الشيطان، سلام على من علموا الدنيا الأدب مع الله، وسلام عليك يا أيوب، في ذلك الموطن العصيب، وقد قررت أخيرًا أن تضرع إلى سيدك، وترفع إلى مولاك شكايتك، لم تنس الثناء، لم تنسك شكايتك حق ربك من شهود مقام الامتنان بعطاء الربوبية وسابغ النعماء، {وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}.
ألا فليسمع من تشككوا منذ قليل، ألا فليصدع ثناؤك في أرجاء الدنيا، لعله يبلغ من أساءوا بربهم ظنًا، ها هو صاحب البلايا والأسقام والرزايا المريض المسكين، ينادي أرحم الراحمين، يقر له بالرحمة، بل تمام وكمال الرحمة، الرحمة التي شككتم بها، وكدتم أن تنفوها، رغم أنكم لم تذوقوا معشار ما ذاق أيوب، لم يتزعزع حسن ظنه بالله قيد أنملة، ولم يهتز إيمانه ويقينه بربه لحظة: {وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}.
إلي ها هنا، واكتفي، نعم: اكتفي العبد بما قال، لم يزد كلمة في تلك الشكاية المختصرة، رفع حاجته، وأثنى على ربه، وانتهى الأمر، انتهت المعاناة الرهيبة التي تقلب فيها ما يقارب العشرين عامًا، بهذه البساطة! نعم، وماذا يمنع، ولم لا؟!
لقد سمعه القادر المقتدر، الذي إذا أراد شيئًا فإنما يقول له كن فيكون، ولقد أبصر حاله من قبل، فوجده على حال يحبه ويرضاه، فشهد له الحق وقال: {...إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص:44]، فلم إذًا لا يغير نواميس الكون له؟! وما أسراع الجواب!
الأمر لا يقتضي مع قدرته المطلقة الوقت الذي تنطق فيه فاء الترتيب والتعقيب الفوري، والتي تصدرت البشرى التالية لمناجاته السابقة: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ...} [الأنبياء:84]، صدر الأمر، وأعلنت الاستجابة، استجابة لماذا؟ وهل طلب؟ وهل سأل؟ المهم أنه تكلم وناجى واشتكى، فاستجاب المولى الجليل {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} [ص:42].
ضربة بقدمه الواهنة، يتفجر بها ينبوع رائق من ماء مبارك، يطهر بدنه من أدران المرض، ويزيل من وعن جسده سائر الأدواء والأسقام، وعن قلبه البلايا والأحزان، سبحان القريب المجيب الودود المنان! الجلد صار غير الجلد، واعتدل البدن واستقام، وعاد بريق الحيوية إلى عين النبي الصبور، لكأني به عاد إلى ريعان الصبا، ها هي زوجه الوفية قادمة من بعيد، تبحث عن الشيخ العليل، الذي تركته هنيهة لحاجة، وعادت تلتمسه: "أيْ باركَ اللهُ فيكَ هلْ رأيتَ نبيَّ اللهِ؟! هذا المُبتلى، واللهِ على ذلكَ ما رأيتُ أحدًا أشبهَ بِهِ مِنكَ إذ كان صحيحًا".
لم تعرفه المرأة الوفية لأول وهلة، لم تدرك أن هذا الرجل الذي ينضح بالقوة والعنفوان، هو بعلها! لقد شبه لها، وارتأت فيه ملامح زوجها في صحته وشبابه، لكن ليس من المعقول أن يكون هو، مستحيل حتي علي الذهن ملاحظة الطفرة المدهشة وسرعة تبدل الحال..
"أنا هو" قالها أيوب، وفاجأها بمعجزة الرحمن، التي تراها الآن رأي العيان! يا لها من مفاجأة!
بل يا له من سرور وحبور! لقد شفي أيوب، ليس هذا فحسب، إن الاستجابة كاملة، والضر لا بد له أن يزال كله، لن يبقى منه أثر مسَّة، ومن الضر فقد الولد، وفقد المال، ألا فلتصلح الزوج أيضًا، وليعد المال، ولتتم النعمة، وليرزق الصابر، بضِعف ما كان لديه من الولد، {وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ...} [الأنبياء:84].
إنه كرم الذي ليس كمثله شيء، يا له من كرم، كرم الحنان المنان، بل يا له من أمل، يلقى في روع المبتلين! لكأن سيرة أيوب لمن يتدبرها كواحة أمل ويقين، وارفة الظلال، مزهرة الأغصان، تنبت في قلوب رمى الشيطان فيها بذور اليأس التي لا تنبت إلا في تربة السخط وسوء الظنون، ومن ذا يسخط، بعدما رأى ما حل بأيوب..
من يمكن أن يقنط، وهو يشهد بعين قلبه ما آل إليه الحال من حسن المآل؟! فقط عليه أن يحقق الشرط، وأن يعي الدرس، يعي أن كل ما فات، وكل ما هو آت من تقدير المضرات والبلاءات، إنما هو رحمة، وحكمة، وذكري، رحمة من الرحمن الرحيم، وحكمة من لدن الملك العليم الحكيم..
وذكرى للعابدين للشاكرين في السراء، والصابرين في الضراء، والعابدين الثابتين في كل الأحوال لرب الأرض والسماء، أولئك يستحقون تلك الرحمات ويتقلبون هنالك في تلك الواحات التي تنبت في قلب الألم واحات السكينة والصبر الجميل، وظلال الرضا عن الرب الجليل.