(6) المسلم لا يترك الدعوة إلى الله تعالى

إن المسلم الذي تغلغلت الدعوة في شغاف قلبه لا يفتر لحظة واحدة عن دعوة الناس إلى دين الله تعالى، مهما كانت الظروف قاسية والأحوال مضطربة، والأمن مفقود، بل ينتهز كل فرصة مناسبة لتبليغ دعوة الله تعالى..

  • التصنيفات: قضايا إسلامية -

المسلم لا يترك الدعوة إلى الله تعالى حتى في أحلك الظروف، ولقد ضرب لنا النبي صلى الله عليه وسلم أروع الأمثلة في ذلك، فانظر إليه صلى الله عليه وسلم - بأبي هو وأمي - وهو مطارد قد أحل المشركون دمه، والكل يبحث عنه، لكن ذلك كله لم ينسه الدعوة إلى الله تعالى .

إن المسلم الذي تغلغلت الدعوة في شغاف قلبه لا يفتر لحظة واحدة عن دعوة الناس إلى دين الله تعالى، مهما كانت الظروف قاسية والأحوال مضطربة، والأمن مفقود، بل ينتهز كل فرصة مناسبة لتبليغ دعوة الله تعالى، هذا نبي الله تعالى يوسف عليه السلام حينما زج به في السجن ظلماً، واجتمع بالسجناء في السجن، فلم يندب حظه، ولم تشغله هذه الحياة المظلمة عن دعوة التوحيد وتبليغها للناس ومحاربة الشرك وعبادة غير الله والخضوع لأي مخلوق قال تعالى : {قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُم كَافِرُونَ . وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ . يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ . مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [يوسف:37-40] .

وسورة يوسف عليه السلام مكية، وقد أمر الله تعالى رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم أن يقتدي بالأنبياء والمرسلين في دعوته إلى الله ولذلك نجده صلى الله عليه وسلم في هجرته من مكة إلى المدينة وقد كان مطارداً من المشركين قد أهدروا دمه وأغروا المجرمين منهم بالأموال الوفيرة ليأتوا برأسه حياً أو ميتاً، ومع هذا فلم ينس مهمته ورسالته .

أ ـ وهو في الطريق دعا بريدة الأسلمي رضي الله عنه في ركب من قومه فدعاهم إلى الإسلام فآمنوا وأسلموا.

وذكر ابن حجر العسقلاني رحمه الله: أن النبي صلى الله عليه وسلم في طريق هجرته إلى المدينة لقي بريدة بن الحصيب بن عبدالله بن الحارث الأسلمي، فدعاه إلى الإسلام، وقد غزا مع الرسول صلى الله عليه وسلم ست عشرة غزوة وأصبح بريدة بعد ذلك من الدعاة إلى الإسلام وفتح الله لقومه أسلم على يديه أبواب الهداية، واندفعوا إلى الإسلام وفازوا بالوسام النبوي الذي نتعلم منه منهجاً فريداً في فقه النفوس. (انظر: الإصابة، (1/146)).

ب ـ وفي طريق الهجرة أسلم لصَّان على يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم: كان في طريقه صلى الله عليه وسلم بالقرب من المدينة لصان من أسلم يقال لهما المهانان، فقصدهم صلى الله عليه وسلم وعرض عليهما الإسلام فأسلما ثم سألهما عن أسمائهما فقالا نحن المهانان، فقال: «بل المكرمان» ، وأمرهما أن يقدما عليه المدينة. (الفتح الرباني للساعتي (20/289)).

وفي هذا الخبر يظهر اهتمامه صلى الله عليه وسلم بالدعوة إلى الله حيث اغتنم فرصة في طريقه ودعا اللصين إلى الإسلام، فأسلما، وفي إسلام هذين اللصين مع ما ألفاه من حياة البطش والسلب والنهب دليل على سرعة إقبال النفوس على إتباع الحق إذا وجد من يمثله بصدق وإخلاص، وتجردت نفس السامع من الهوى المنحرف، وفي اهتمام الرسول صلى الله عليه وسلم بتغيير اسمي هذين اللصين من المهانين إلى المكرمين دليل على اهتمامه صلى الله عليه وسلم بسمعة المسلمين ومراعاته مشاعرهم إكراماً لهم ورفعاً لمعنوياتهم.

وإن في رفع معنوية الإنسان تقوية لشخصيته ودفعاً له إلى الأمام ليبذل كل طاقته في سبيل الخير والفلاح.

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا فَقَالَ: «عُرِضَتْ عَلَىَّ الأُمَمُ فَجَعَلَ يَمُرُّ النَّبِىُّ مَعَهُ الرَّجُلُ وَالنَّبِىُّ مَعَهُ الرَّجُلاَنِ، وَالنَّبِىُّ مَعَهُ الرَّهْطُ، وَالنَّبِىُّ لَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ، وَرَأَيْتُ سَوَادًا كَثِيرًا سَدَّ الأُفُقَ فَرَجَوْتُ أَنْ يَكُونَ أُمَّتِى، فَقِيلَ هَذَا مُوسَى وَقَوْمُهُ. ثُمَّ قِيلَ لِى انْظُرْ. فَرَأَيْتُ سَوَادًا كَثِيرًا سَدَّ الأُفُقَ فَقِيلَ لي انْظُرْ هَكَذَا وَهَكَذَا. فَرَأَيْتُ سَوَادًا كَثِيرًا سَدَّ الأُفُقَ فَقِيلَ هَؤُلاَءِ أُمَّتُكَ، وَمَعَ هَؤُلاَءِ سَبْعُونَ أَلْفًا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ» فَتَفَرَّقَ النَّاسُ وَلَمْ يُبَيَّنْ لَهُمْ، فَتَذَاكَرَ أَصْحَابُ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا أَمَّا نَحْنُ فَوُلِدْنَا في الشِّرْكِ، وَلَكِنَّا آمَنَّا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَلَكِنْ هَؤُلاَءِ هُمْ أَبْنَاؤُنَا، فَبَلَغَ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم: «فَقَالَ هُمُ الَّذِينَ لاَ يَتَطَيَّرُونَ، وَلاَ يَسْتَرْقُونَ، وَلاَ يَكْتَوُونَ، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ» فَقَامَ عُكَّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ فَقَالَ: أَمِنْهُمْ أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: «نَعَمْ». فَقَامَ آخَرُ فَقَالَ: أَمِنْهُمْ أَنَا فَقَالَ: «سَبَقَكَ بِهَا عُكَّاشَةُ» . (خرجه ا"لبخاري" 1/163(5705) و"أحمد" 1/271(2448) و"مسلم" 1/137(447) و"التِّرْمِذِيّ" 2446 و"النَّسائي" في (الكبرى) 7560) .

فلقد ذكر لنا النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الشريف أن النبي من الأنبياء سوف يأتي يوم القيامة ومعه رجل واحد من قومه قد آمن به وبدعوته ورسالته، ونبي آخر معه رجلان وثالث معه الرهيط هُوَ بِضَمِّ الرَّاء تَصْغِير الرَّهْط، وَهِيَ الْجَمَاعَة دُون الْعَشَرَة ورابع ليس معه أحد، ومع هذا لم يثبت أن أحداً منهم لم يترك الدعوة إلى الله، ولم يتخل عن الرسالة التي أمره الله بتبليغها.

لان المسلم لا يخل عن أداء رسالته في الحياة مهما كانت الصعاب والمصاحب، فاليأس لا يتسلل إلى قلبه أبدا .

فهو يعرف أن اليأس كفر وضياع قال تعالى: {إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّـهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف من الآية:87]، وعَنْ خَبَّابِ بْنِ الأَرَتِّ، قَالَ: شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ، فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ، فَقُلْنَا: أَلاَ تَسْتَنْصِرُ لَنَا، أَلاَ تَدْعُو لَنَا، فَقَالَ: «قَدْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ يُؤْخَذُ الرَّجُلُ، فَيُحْفَرُ لَهُ فِي الأَرْضِ، فَيُجْعَلُ فِيهَا، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ، فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ، فَيُجْعَلُ نِصْفَيْنِ، وَيُمَشَّطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ، مَا دُونَ لَحْمِهِ وَعَظْمِهِ، فَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَاللهِ، لَيَتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرُ، حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ، لاَ يَخَافُ إِلاَّ اللهَ، وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ» (خرجه "أحمد" 5/109(21371) و"البُخَارِي" 4/244(3612) و"أبو داود" 2649 و"النَّسائي" 8/204) .

عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الأَمْرُ مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، وَلاَ يَتْرُكُ اللهُ بَيْتَ مَدَرٍ وَلاَ وَبَرٍ، إِلاَّ أَدْخَلَهُ اللهُ هَذَا الدِّينَ، بِعِزِّ عَزِيزٍ، أَوْ بِذُلِّ ذَلِيلٍ، عِزًّا يُعِزُّ اللهُ بِهِ الإِسْلاَمَ، وَذُلاًّ يُذِلُّ اللهُ بِهِ الْكُفْرَ». وَكَانَ تَمِيمٌ الدَّارِيُّ يَقُولُ: قَدْ عَرَفْتُ ذَلِكَ فِي أَهْلِ بَيْتِي، لَقَدْ أَصَابَ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمُ الْخَيْرُ، وَالشَّرَفُ، وَالْعِزُّ، وَلَقَدْ أَصَابَ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ كَافِرًا، الذُّلُّ، وَالصَّغَارُ، وَالْجِزْيَةُ. (أخرجه أحمد 4/103(17082)).

فعلى كل داعية ومرب أن يعرف أن الأمل والتفاؤل قوّة، وأن اليأس والتشاؤم ضعف، وأن الأمل والتفاؤل حياة، وأن اليأس والتشاؤم موت.

قال الشاعر:

اليأسُ في ديننا كُفْرٌ ومَنْقَصةٌ *** لا أعرٍفُ اليأسَ والإحباطَ في غَمَمِ
يَفيضُ من أملٍ قلبي ومن ثقةٍ *** لا يُنبِتُ اليأسَ قلبُ المؤمنِ الفَهِمِ

فالأمل والرجاء من أخلاق الأنبياء، وهو الذي جعلهم يواصلون دعوة أقوامهم إلى الله دون يأس أو ضيق، برغم ما كانوا يلاقونه من إعراض ونفور وأذى، والأمل هو الذي يدفع الإنسان دائمًا إلى العمل، ولولا الأمل لامتنع الإنسان عن مواصلة الحياة ومجابهة مصائبها وشدائدها، ولولاه لسيطر اليأس على قلبه، وأصبح يحرص على الموت، ولذلك قيل: اليأس سلم القبر، والأمل نور الحياة.

وقد ظل المسجد الأقصى بيد المسلمين منذ الفتح العمري حتى استولى عليه الصليبيون وقتلوا من المسلمين ستين ألفًا، ودخلوا المسجد، واستولوا على الأموال، ونصبوا الصليب على المسجد، ودقوا فيه النواقيس، وأشركوا فيه بالله تعالى، حتى استنقذه الله من أيديهم على يد القائد المظفر صلاح الدين الأيوبي رحمه الله، وكان ملكًا صالحًا صوامًا قوامًا، وكان قلبه يتفطر على المسجد الأقصى، ولم يفتأ يحرض المؤمنين على القتال ويعد العدة حتى انتصر المسلمون بفضل الله في موقعة حطين سنة 583هـ، وكان يومًا مشهودا، طهر فيه المسجد الأقصى، وارتفع منه الأذان والتوحيد، وقتل من الصليبيين عشرات الآلاف، وأسر عشرات الآلاف، حتى رخص ثمن الأسرى، وصار الفلاح من المسلمين يربط بخيمته عشرة من الأسرى وبيع النعل بالأسير، قال تعالى : {إِن تَنصُرُواْ اللَّهَ يَنصُرْكُمْ} [محمد:7].

وقد ظل المسجد الأقصى أسيراً في يد الصليبين من عام 1099 م إلى عام 1187 م أي حوالي 88عاما ً، لكن أهل الإيمان لم ييأسوا، وبمشيئة الله لن ييأسوا.

قال الشاعر:

سيروا كما ساروا لتجنوا ماجنوا *** لا يحصد الحب سوى الزراع
وتيقظوا فالسيل قد بلغ الزبى *** يا أيها النومى على الأمطاع
واسترجعوا ما فات من أمجادكم *** ما دمتم في مهلة استرجاع
يا خاطب العلياء إن صداقها *** صعب المنال على قصير الباع

يُحكى أن قائدًا هُزِمَ في إحدى المعارك، فسيطر اليأس عليه، وذهب عنه الأمل، فترك جنوده وذهب إلى مكان خال في الصحراء، وجلس إلى جوار صخرة كبيرة، وبينما هو على تلك الحال، رأى نملة صغيرة تَجُرُّ حبة قمح، وتحاول أن تصعد بها إلى منزلها في أعلى الصخرة، ولما سارت بالحبة سقطت منها، فعادت النملة إلى حمل الحبة مرة أخري. وفي كل مرة، كانت تقع الحبة فتعود النملة لتلتقطها، وتحاول أن تصعد بها...وهكذا.

فأخذ القائد يراقب النملة باهتمام شديد، ويتابع محاولاتها في حمل الحبة مرات ومرات، حتى نجحت أخيرًا في الصعود بالحبة إلى مسكنها، فتعجب القائد المهزوم من هذا المنظر الغريب، ثم نهض القائد من مكانه وقد ملأه الأمل والعزيمة فجمع رجاله، وأعاد إليهم روح التفاؤل والإقدام، وأخذ يجهزهم لخوض معركة جديدة.. وبالفعل انتصر القائد على أعدائه، وكان سلاحه الأول هو الأمل وعدم اليأس، الذي استمده وتعلمه من تلك النملة الصغيرة.

فالهجرة كانت بداية لوجود المجتمع الإسلامي الصحيح السليم، مجتمع يعيش فيه المسلمون وغير المسلمين، مجتمع تسوده أحكام العدل، وترفرف عليه رايات الإحسان والبر، وتمده شريعة السماء بتوجيهات القرآن وسنة النبي المصطفى، وتحوطه عزائم المؤمنين وتحميه من كل غائلة.

وإن دروس الهجرة النبوية الشريفة لن تنقطع أبد الدهر، وسيظل معينها ثر فياض ولن ينضب أبدا.

بدر عبد الحميد هميسه