تأملات تربوية

عبد الرحمن ضاحي

الكيانات التربوية على ثغر عظيم لا سيما في ظل عَلمَنة الحياة من حولنا، والغزو الفكري الشديد لديار المسلمين، وأعداء الدين يبذلون أقصى ما في وسعهم لهدم شباب الإسلام وإفسادهم، فلا يصح أن نقابل ذلك الإفساد والتشويه المنظم بإصلاح عشوائي فوضوي..

  • التصنيفات: تربية الأبناء في الإسلام -

ما أشبه العملية التربوية بعملية الإنتاج التي تتم في المصانع والشركات؛ فكما أن عملية التصنيع خطواتها توفير المواد الخام وتصنيعها وتعديلها لتصبح منتجًا نهائيًا صالحًا للاستخدام عن طريق الآلات، فكذلك العملية التربوية؛ فالمتربين هم المواد الخام المستخدمة في التصنيع، والمربين هم الآلات، وما ينتج عن العملية التربوية هي المخرجات أو المنتج النهائي المحدد حسب هدف ومخطط كل مصنع.

وفي هذا المقال، سنناقش أهم القضايا المتعلقة بالكيانات التربوية الإسلامية، وقد كان منطلق تناولي لهذا الأمر هو أهمية العملية التربوية داخل الصف الإسلامي، حيث أنه (المنبع) بالنسبة لباقي (الأودية)، كما أنها الآلة التي يمر عليها كل المنتجات (المتربين) في المصنع بلا استثناء، فلو أن هناك عيبًا في الآلة لظهر في المنتجات إلا من رحم ربي!

ومن القضايا التي يجب التنبيه عليها هي (المؤسسية)، وليس القصد هنا العمل الجماعي، ولكن القصد بالمؤسسية هي اللوائح والقوانين والقيم التنظيمية المحددة للعمل الجماعي، فهي الروح بالنسبة للعمل، وللأسف بعض الكيانات تفتقد المؤسسية بشكل كلي أو جزئي؛ فلا إدارة ولا محاسبة ولا مكافأة ولا مراقبة للخطط والأهداف.

وقد عرف العلماء المؤسسية: "التجمع المنظم بلوائح يوزع العمل فيه على إدارات متخصصة، ولجان وفرق عمل، بحيث تكون مرجعية القرارات فيه لمجلس الإدارة، أو الإدارات في دائرة اختصاصها؛ أي أنها تنبثق من مبدأ الشورى، الذي هو أهم مبدأ في العمل المؤسسي" (محمد ناجي عطية: البناء المؤسسي في المنظمات الخيري، متوفر على الإنترنت، موقع الإسلام اليوم).

فمن غير المعقول أن يجلب صاحب المصنع العمال والآلات والمواد الخام، وكل عامل يعمل بما يحلو له بدون شروط أو قيود تحكمه، أو بغير أهداف المصنع المتفق عليها، فلا بد يكون للعمل إطار محكم تدور فيه كل عناصره وأعضائه، والوقت الحالي الذي نعيشه لا مكان فيه للفوضوية والعشوائية، فكما قال صاحب الظلال: "الجاهلية المنظمة لا يهزمها سوى إسلام منظم".

من الفوائد الناتجة عن اتباع المؤسسية هي التحرر من العشوائية، وسير العمل وفق الأهداف والخطط الموضوعة، كما أنها تحرر الكيان من مشكلة تعلق المؤسسة بشخص معين، حيث أن للكيان إستراتيجية بعيدة المدى لا يتم تغييرها إلا من منطلق جماعي، وأقرب مثال على ذلك جماعة الإخوان المسلمين؛ فعلى الرغم من تعاقب المرشدين والقائمين عليها فنظامها ولوائحها ثابتة.

ومن القضايا التي يجب التنويه عليها هي (فقدان الهدف)؛ فأغلب الكيانات التي تعمل للأسف بأهداف فضفاضة أو أهداف مطاطة غير محددة مثل: (تعبيد الناس لله، أو نشر الثقافة الإسلامية) دون تحديد أهداف محددة للكيان، مع عظم تلك الأهداف وحفظ قدرها، لكن ما ننشده هو تحديد هدف حتى ولو غير معلن يبنى عليه أساس للمنهج، والإستراتيجية الذي سيتربى عليه المتربين.

وكل كيان له ظروف تحيط به تكون من ضمن المعطيات التي تحدد المخرجات المطلوبة أو الهدف المحدد؛ فالكيان الناشئ في دولة تحت احتلال، غير الكيان الذي نشأ في دولة تكثر فيها الشركيات والبدع، يختلف عن الكيان الذي ظهر في دولة تحت حكم استبدادي طاغوتي.. فالظروف المحيطة هي التي تحدد مسار الهدف للكيان.

تحديد الهدف يسهل عملية وضع منهجية وخطة دقيقة لضبط مخرجات الكيان من المتربين، ويبعد المربين عن الارتجال والعشوائية في عملية التربية، كما أنه يمنح الكيان تطوير ذاته حيث أنه كل مدة زمنية معينة تخرج كوادر قادرة على الاستمرارية لإكمال الطريق نحو الهدف المحدد.

تحديد الهدف له مزية أيضًا، ألا وهي إخراج الكفاءات، احترام ميول الأفراد، والبعد عن التنميط أو (القولبة)، حيث أنه يساعد على تحديد المخرجات المطلوبة من الكيان، وتحديد التخصصات، وتوجيه كل متربي في مكانه الصحيح الذي يقدر من خلاله على البذل.

ثالث قضية معنا هي: (المنهج)؛ وما أقصده هنا هو المنهج الموضوع للمتربين كي يسيروا عليه داخل الكيان، وللأسف قد وجدت كيانات تربوية عدة تعمل بلا منهجية محددة، فالأمر متروك لكل مربي حسب اختياره وتحضيره.

وإهمال ذلك العنصر دليل واضح على فوضوية أي كيان، ومؤشر على قصر عمره، كما يقلل الفائدة المحصلة لدى المتربي، ويصير كل حصيلته هي ثقافة عامة إسلامية وحسب، كالذي قطف من كل بستان زهرة! ويؤدي فقدان المنهج إلى إنهاك المربي في التحضير للمتربين حيث أنه في كل مرة يجتهد ويعصف ذهنه للإتيان بجديد، وقد تصل به في النهاية إلى مرحلة الإفلاس، لأنه في النهاية فرد له قدرات محدودة، وليس كيان!

ويتحدد المنهج على أساس هدف المؤسسة؛ فطريقة تصنيع منتجات المصنع لا تتم إلا بتحديد نوع المنتج المراد إتمامه من العمال، فلا يصح تحديد هدف للمصنع وترك كل عامل يخترع طريقة تصنيع للمنتج حسب هواه.

فيجب على أي كيان تربوي وضع خريطة منهجية يسير عليها المربين مع المتربين، على أن تكون مساحات الاجتهاد الفردي محدودة وموجودة داخل الإطار المنهجي الموضوع، كما يحبذ تفريغ أشخاص ليقوموا على وضع المنهج، وتطوير آلياته حسب الظروف المحيطة بالبيئة التربوية.

من القضايا المهمة التي تتعلق بموضوعنا هي: (المربي المؤهل) فمن الأخطاء أن يصدر الكيان أشخاصًا غير مؤهلين لعملية التربية، وهذا للأسف خطأ منتشر، وللأسف أثره شنيع على الكيان وعلى المربي والمتربي! فلا يصلح أن نسمح في المصنع بتعيين عمال غير مؤهلين، أو لا يتوفر فيهم عنصر الكفاءة.

فالخطأ الطبي يعالج، والخطأ الهندسي يعالج، أما الخطأ التربوي فعلاجه صعب، فوجب على الكيانات تأهيل متصدريها، وعدم الفرح بكثرة المتصدرين، أو تصدير بعض الأشخاص لسد عجز في مرحلة عمرية معينة، فمربي واحد كفؤ خير من مائة غير أكفاء.

وأخيرًا وليس آخرًا: فالكيانات التربوية على ثغر عظيم لا سيما في ظل عَلمَنة الحياة من حولنا، والغزو الفكري الشديد لديار المسلمين، وأعداء الدين يبذلون أقصى ما في وسعهم لهدم شباب الإسلام وإفسادهم، فلا يصح أن نقابل ذلك الإفساد والتشويه المنظم بإصلاح عشوائي فوضوي.. والله المستعان وعليه التكلان. 

 

عبد الرحمن ضاحي

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام