تزويج البنات لتسع سنين بين النفي والإثبات
الناظر إلى تاريخ التشريع الإسلامي لا يجد كثير الكلام حول هذه المسألة، وكأن الفقهاء قديماً -على سعة علومهم- اعتبروا ذلك مما تُمليه الفطرة السليمة، ذلك أنه صلى الله عليه وسلم تزوج أمنا عائشة لست سنين، ثم بنى بها لتسع.
- التصنيفات: السيرة النبوية -
شرع الله تعالى الزواج، فجعله مُصانًا بجملة من الأركان والشروط، كما حاطَه بكثير من الآداب والفضائل، وجعل الرسول صلى الله عليه وسلم الأسوة الحسنة التي ينبغي الاقتداء بها، فتزوج عليه السلام البكر والثيِّب، والصغيرة والكبيرة، واختارهن من خيرة النساء خُلُقاً وأفضلهن سيرةً وديناً، حتى يَقتفي خطاه المسلمون في اختيار ذوات الدين والخُلق، وعاشرهن على اختلاف طبائعهن بالحسنى، حتى يُقتدى به فتَسلَمَ الأسَر من ويلات الشقاق، فلم تكن سيرته العطرة مع أزواجه الطاهرات مما اختص به وانفرد.
ولقد كثُر الجدل في وقتنا حول زواجه صلى الله عليه وسلم من أمنا عائشة رضي الله عنها لست سنين، فريق لما بادر بالاجتهاد -لطبيعة الشريعة الإسلامية- رأى في تطبيق ذلك إحياءً للسنة النبوية، وفريق آخر لما تثاقل عن الاجتهاد نظر إلى المسألة على أنها من خصائصه عليه السلام، والناظر إلى تاريخ التشريع الإسلامي لا يجد كثير الكلام حول هذه المسألة، وكأن الفقهاء قديماً -على سعة علومهم- اعتبروا ذلك مما تُمليه الفطرة السليمة، ذلك أنه صلى الله عليه وسلم تزوج أمنا عائشة لست سنين، ثم بنى بها لتسع، لحديثها رضي الله عنها: "تَزَوَّجَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا ابْنَةُ سِتِّ سِنِينَ بِمَكَّةَ مُتَوَفَّى خَدِيجَةَ، وَدَخَلَ بِي وَأَنَا ابْنَةُ تِسْعِ سِنِينَ بِالْمَدِينَةِ" (مسند الإمام أحمد مسند السيدة عائشة رقم الحديث 23722).
وما رواه عنها عروة رضي الله عنه: "تُوُفِّيَتْ خَدِيجَةُ قَبْلَ مَخْرَجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْمَدِينَةِ بِثَلَاثِ سِنِينَ، فَلَبِثَ سَنَتَيْنِ أَوْ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ، وَنَكَحَ عَائِشَةَ وَهِيَ بِنْتُ سِتِّ سِنِينَ، ثُمَّ بَنَى بِهَا وَهِيَ بِنْتُ تِسْعِ سِنِينَ" (صحيح البخاري كتاب المناقب باب تزويج النبي عائشة وقدومها المدينة).
والذي نفهمه من الحديثين أن أمنا عائشة رضي الله عنها عقد عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم لست سنين، ثم دخل بها لتسع، وكثيرة هي النصوص الحديثية التي تؤكد هذا الخبر، وليس من الإسلام نفي ذلك أمام كثرة المرويات التي وصلت حد التواتر.
والعلماء لم يختلفوا في الأخذ بظاهر هذه النصوص، فقالوا بجواز نكاح الصغيرة دون أن يُبيِّن أحدهم العُمرَ المتعين لذلك، فالسرخسي من الحنفية قال: "وبلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه تزوج عائشة رضي الله عنها وهي صغيرة بنت ست سنين، وبنى بها وهي بنت تسع سنين، وكانت عنده تسعاً. ففي الحديث دليل على جواز نكاح الصغيرة.." (المبسوط للسرخسي أبي بكر 4/212 دار المعرفة ـ بيروت/1406هـ).
ومن المالكية ابن عبد البر قال: "وأنكح أبو بكر الصديق ابنته عائشة وهي صغيرة بنت ست أو سبع من رسول الله صلى الله عليه وسلم... وللرجل أن يزوج ابنته الصغيرة بكراً كانت أو ثيباً ما لم تبلغ المحيض بغير إذنها" (الكافي لابن عبد البر النمري ص/231 دار الكتب العلمية ـ بيروت ط. الأولى/1407هـ).
وأيضاً الإمام الشافعي في معرض حديثه عن استئذان الصغيرة بالزواج قال: "زوَّجه إياها أبوها -أبو بكر الصديق- فدل ذلك على أن أبا البكر أحق بإنكاحها من نفسها؛ لأن ابنة سبع سنين وتسع لا أمر لها في نفسها"(الأم للإمام الشافعي 5/167 دار المعرفة. بيروت ط. الثانية/1393هـ).
ومن الحنابلة ابن قدامة قال: "وأما الحرة فإن الأب يملك تزويج ابنته الصغيرة البكر بغير خلاف؛ لأن أبا بكر الصديق زوَّج عائشة للنبي صلى الله عليه وسلم وهي ابنة ست" (الكافي في فقه الإمام أحمد بن حنبل لعبد الله بن قدامة 3/26 تحقيق زهير الشاويش المكتب الإسلامي ـ بيروت. ط. الخامسة/1408هـ).
فهذه النصوص وغيرها أبلغ دلالة على تشريع إنكاح الصغيرة، ومنْ طعن فيها بالتأويل فقد خالف الإجماع، إلا أن العلماء في ذلك جاءت أقوالهم عامة في كل صغيرة، فلم يقل أحد من المعتمدين منهم إن العلة في إنكاح الصغيرة عُمرها ست سنين كما قد يُتوهم من ظاهر الأحاديث المروية عن أمنا عائشة، ولا قال إن العلة حيضُها؛ لأنه تعالى جعل للصغيرة التي لم تحض بعدُ عدة عند طلاقها، مما يعني أن زواجها قبل الحيض مشروع بدليل قوله تعالى: {واللاَّئِي يَئِسْن مِنَ اَلْمَحِيضِ مِن نِّسَائِكُم إِن ارْتَبْتُم فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةَ أَشْهُرٍ وَاَللاَّئِي لَمْ يَحِضْن} [الطلاق:4].
قال السرخسي: "فاللاَّئي لَم يحضن بعدُ هُنَّ الصَّغيرات" (المبسوط للسرخسي 4/212) بل إن علة إنكاح الصغيرة صلاحها للوطءـ وهذا ما سنقيم عليه الدليل.ـ فكان الإجماع منعقداً على هذا الفهم، قال ابن عبد البر في معرض حديثة عن استئذان الصغيرة بالزواج: "أجمع العلماء على أن للأب أن يزوج ابنته الصغيرة ولا يشاورها، لتزويج رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة وهي بنت ست سنين" (التمهيد لابن عبد البر 19/98 تحقيق مصطفى بن أحمد العلوي، ومحمد عبد الكبير البكري وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية ـ المغرب ط/ 1387هـ).
إلا أن عبد الله بن شبرمة (ت: 144هـ) منع ذلك، وزعم أن زواجه صلى الله عليه وسلم من أمنا عائشة وهي بنت ست سنين من خصائصه (نيل الأوطار للإمام الشوكاني 6/252 دار الجيل ـ بيروت ط/1973م).
وهذا بعيد عن فقه الحديث؛ لأن النصوص التي تختص برسول الله صلى الله عليه وسلم عليها دليل، ولم يسبق لأحد من الصحابة ولا من التابعين أن قال إن زواجه عليه السلام من أمنا عائشة من خصائصه، بل حتى الأئمة المعتمدون أنكروا هذا الكلام على ابن شبرمة ولم يلتفتوا إليه (المحلى لابن حزم الظاهري 9/460 دار الآفاق الجديدة ـ بيروت).
لذا ليس لعبد الله بن شبرمة ولا لتابعيه المعاصرين حجة قوية عليها عوَّلوا، فقد يفتحوا المجال على عاتقه للمستهزئين بسيرته العطرة حتى يُقال إن رسول الإسلام كان ميَّالا إلى التزويج بالصغيرة حاشاه، رغم أن العلة الحقيقة في هذا النكاح الشريف لا زالت جارية، فزواجه من أمنا عائشة وهي ابنة ست سنين -وفي رواية سبع سنين- كان عقداً عليها فقط دون إرادة البناء بها، وبعد مُضيِّه إلى المدينة والسُكنى بها دخل بها وعمرها آنذاك تسع سنين، ولا شك أنها كانت عادة العرب أن يعقد الواحد على البنت الصغيرة دون أن يدخل بها، وقد أقرها الرسول صلى الله عليه وسلم، فلو أنه انفرد بذلك دون عامة العرب لوصلنا سؤال الصحابة عنه، لذا فهو عرف كان جاريا وقتها، فمتى بلغت المرأة مبلغاً تكون معه قادرة على الوطء وتوابعه من حمل ووضع جاز الدخول بها، ولقد دخل النبي صلى الله عليه وسلم بأمنا عائشة رضي الله عنها لما بلغت هذا المبلغ، بدليل أنه لمَّا عقد عليها لم يُشترط أن يتم البناء بها لتسع سنين.
ولقد استدل الإمام البخاري على تجويز إنكاح الصغيرة بالكبير بشرط القدرة على الوطء فقال: "لكن لا يمكن منها حتى تصلح للوطء" (نيل الأوطار 6/252)، وبالتالي فإن العلة في إنكاح الصغيرة ليست العُمر كما قد يُتوهم، بل العلة هي حصولها على قدرة النكاح وتوابعه، أو ما يصطلح عليه بصلاحها للوطء، أما الوصف الصحيح لهذه العلة فهو بلوغ البنت الصغيرة الكمال الجسدي، ودليلنا على صحة التعليل بهذا الوصف دون غيره من الأوصاف ما رُوي بالنقل الصحيح عن أم رُومَانَ زوجة أبي بكر الصديق لما تكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ابنتها عائشة وهي بنت ست أو سبع سنين بادرت إلى إطعامها القثَّاء من أجل إسمانها كفاية، حتى تُعجِّل بدخولها على النبي صلى الله عليه وسلم، لحديث أمنا عائشة قالت: "كَانَتْ أُمي تُعَالِجُني، تُريدُ لتُسَمِّنَني بَعْضَ السِّمَنِ، لِتُدْخِلَني عَلى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَمَا اسْتقامَ لَهَا بَعْضُ ذَلِكَ حَتى أَكلتُ التَّمْرَ بِالقثَّاءِ فَسمنْتُ عَلَيْهِ كَأَحْسَنِ مَا يَكُونُ مِنَ السِّمَنِ" (سنن البيهقي الكبرى لأبي بكر البيهقي 7/254 رقم الحديث 14246 تحقيق محمد عبد القادر عطا مكتبة دار الباز مكة المكرمة).
وفي رواية قالت: "ثُمَ أَرَادَتْ أُمي أَنْ تُسمِّنَنِي لِدُخولِي عَلى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالت فَلمْ أَقبَل عَليْها بِشَيءٍ مِما تُريدُ حَتى أَطْعَمَتْنِي القثَّاءَ بِالرَّطب فَسَمنْتُ عَليْه كَأَحْسنِ السِّمَنِ" (سنن البيهقي الكبرى لأبي بكر البيهقي 7/254 رقم الحديث 14247).
من هنا نفهم بأن زواجه عليه السلام من أمنا عائشة جاء بعدما سمنت غاية السِّمَنِ، وليس من عبارة أدق من هذه دالة على أن أمنا عائشة أدركت مبلغ النساء لتسع سنين. والملاحظ أنها كانت تفخر -ومن حقها ذلك- بزواجها من رسول الله في سن مبكر كقولها: "تَزَوَّجَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا بِنْتُ سِتٍّ، وَدَخَلَ عَلَيَّ وَأَنَا بِنْتُ تِسْعِ سِنِينَ، وَكُنْتُ أَلْعَبُ بِالْبَنَاتِ" (سنن الترمذي كتاب النكاح باب البناء بابنة تسع سنين).
وقولها: "تَزَوَّجَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي شَوَّالٍ، وَبَنَى بِي فِي شَوَّالٍ، فَأَيُّ نِسَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ أَحْظَى عِنْدَهُ مِنِّي" (صحيح مسلم كتاب النكاح باب استحباب التزوج والتزويج في شوال). وهي إشارة إلى أنها استوت مبكراً، وإلا عمَّا يكون فخرها.
وبعد طول مطاف يمكن القول إن العلة في تزويج الصغيرة بنية الدخول بها ليست العُمُر، بل الاستطاعة على الوطء وتوابعه، حتى إن الكتب الفقهية على غزارة ما تضمنته من النوازل والأحكام لم يسبق وأن وجدنا فيها بنداً يجعل من العُمُرِ شرطاً للزواج.
ومن استدل بحديث: "إِذاَ أَتى عَلَى اَلْجَاريَّة تِسْعُ سِنينَ فَهِيَ اِمْرَأَةٌ" (التحقيق في أحاديث الخلاف لابن الجوزي عبد الرحمن 2/267 تحقيق مسعد عبد الحميد دار الكتب العلمية ـ بيروت ط. الأولى/1415هـ)، ليجعل العلة في إنكاح الصغيرة العُمر فقد تقوَّل على رسول الله، لأن في إسناد الحديث مجاهيل منهم عبد الملك بن مهران، قال العقيلي في الضعفاء: "عبد الملك بن مهران صاحب مناكير، غلب على حديثه الوهم لا يقيم شيئاً من الحديث" (ضعفاء العقيلي 3/34 رقم الترجمة 989 دار الكتب العلمية)، فكيف بمن قال إذا لم تبلغ الجارية ثمان عشرة سنة فهي غير صالحة للزواج، وكل الروايات التي تخبرنا ببنات تزوجن وحملن لتسع سنين (سنن البيهقي الكبرى لأبي بكر البيهقي 1/ 319 تحقيق محمد عبد القادر عطا مكتبة دار الباز مكة المكرمة ط/1414هـ) يدخلن في كونهن بلغن مبلغاً من الكمال يقدرن معه على النكاح وعلى الوضع، وما عداهن لا يمكن أن نطبق عليهن ذلك لفقدانهن هذه العلة، ومن ادعى بأن العلة هي الحيض فقد خالف قوله: {واللاَّئِي يَئِسْن مِنَ اَلْمَحِيضِ مِن نِّسَائِكُم إِن ارْتَبْتُم فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةَ أَشْهُرٍ وَاَللاَّئِي لَمْ يَحِضْن} [الطلاق:4]؛ دليل على جواز نكاح الصغيرة قبل حيضها، وإلا كيف يجعل الله تعالى لهن عدة الطلاق ثلاثة أشهر، ونكاحها باطل، ومن قال هو مخصوص بالنساء اللاتي بلغن سنا متأخرة ولم يحضن فنطالبه بدليل التخصيص.
قال أبو بكر الجصاص معلقاً على الآية: " فَحَكم الله تعالى بصحة طلاق الصغيرة التي لم تحض، والطلاق لا يقع إلا في نكاح صحيح، فتضمنت الآية جواز تزويج الصغيرة" (أحكام القرآن للجصاص 2/346 تحقيق محمد الصادق قمحاوي دار إحياء التراث العربي ـ بيروت ط/1405هـ).
لذا فإن الحق ما قاله الله تعالى، وما سنَّه رسوله صلى الله عليه وسلم، وما دون ذلك فحق يراد به باطل، فلما قال عبد الله بن شبرمة إن زواجه عليه السلام من أمنا عائشة من خصوصياته فلعله -وهو الفقيه العراقي- أخذ بما يعلمه من العرف السائد في العراق، فلو أنه سمع عن أخبار البنات اللاتي بلغن كمالا في سنَّ مبكرة بالدول الإسكندنافية وجزر الأنتيل وبلاد الأندلس.. لخشي عليهن وأمرهن بالإحصان ولرجع عن قوله، ولعله السبب الذي دفع بإمام الأندلس ابن حزم إلى أن يقول: "الحجة في إجازة إنكاح الأب ابنته الصغيرة البكر، إنكاح أبي بكر رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم من عائشة رضي الله عنها وهي بنت ست سنين، وهذا أمر مشهور غنينا عن إيراد الإسناد فيه، فمن ادعى أنه خصوص لم يلتفت قوله لقول الله عز وجل: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ} [الأحزاب: من الآية 21]، فكل ما فعله عليه الصلاة والسلام فلنا أن نتأسى به فيه، إلا أن يأتي نص بأنه له خصوص" (المحلى لابن حزم الظاهري 9/460).
سليمان القراري