فصبر جميل
محمد علي يوسف
أبى الله إلا أن يمد في عمر يعقوب، حتى يرد إليه بصره، ليملي عينيه برؤية الحبيب الغائب، وما هي إلا أيام حتى دخلوا عليه، دخل أبناؤه العشرة ولحم وجوههم يكاد يتساقط خجلاً، هذه المرة لا توجد مبررات، لا توجد كلمات استباقية، لا توجد مزاعم ولا ادعاءات، فقط الندم الممزوج بالخجل والحياء، قد انكشف كل شيء، وظهر الحق وحصحص، يوسف حي..
- التصنيفات: قصص الأنبياء - محاسن الأخلاق -
بدأت سنابك الخيل، وخفاف النوق، تنهب الأرض نهباً، حاملة تلك العائلة التي فرقها نزغ الشيطان عقودًا، وعلى بعد مئات الأميال مكث الشيخ الكبير، صابرًا محتسبًا، يغالب حزنه الفطري على ضياع فلذتي كبده، وأبر أبنائه به، سال دمع تلك الفطرة المحبة، وترقرق من عين جانبها النوم القرير ردحًا طويلاً من الزمان، حتى اجتمع البكاء مع السهد، فذهب نور البصر، ليبقى ضياء البصيرة، وكفى به ضياء.
فجأة ودون سابق نذير؛ انتبه الشيخ الكبير؛ مهيب الطلعة، وقور السمت، رغم حزنه وهرمه، وإذا به يعتدل، ويفاجئ من حوله بعبارة ما أعجبها؛ جعلت أولئك الصحب والآل يظنون أن الهرم والحزن قد أثرا به؛ لقد فاجأهم بقوله: {...إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ} [يوسف:94]، قالها الشيخ الكبير بصوت مطمئن واثق، يكاد الفرح والبشر يقطر من حرفه!
يوسف؟! ماذا تقول؟!
أين يوسف الآن وقد مرت عشرات الأعوام على غيابه؟ ألا زلت تذكره؟
ألن تنفك عن هذا الأمل الذي لا ينقطع عن قلبك؟
أيرضيك الحال الذي وصلت إليه بسبب كثرة ذكرك ليوسف؟
ألم نقل لك من قبل إنك تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضًا أو تكون من الهالكين؟
{...تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ} [يوسف:95].
وبينما هم في تساؤلاتهم واستعجابهم من كلمات نبي الله يعقوب عليه السلام، والتي فوجئوا بكم الجزم واليقين اللذين خرجت بهما، إذ دلف إلى المنزل النبوي العامر، بشير الابن الغائب يحمل قميصًا يعبق بالريح الزكية، التي وجدها نبي الله يعقوب عبر رياح الصحراء المختلطة برمالها!
إنه لقميص يوسف! يوسف حي! يوسف حي! لم يمت كما زعموا، لم يأكله الذئب كما سولت لهم أنفسهم أن يدعوا، يوسف حي، وهذا قميصه، وتلك ريحه التي سبقت نفحاتها، {...أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [يوسف:96]. بلى والله قد قلت، وصدقت ولم نصدق، بلى والله قد فضلت علينا بنور النبوة، ويقين الصدق الذي رزقت به..
بادر البشير فألقى بالقميص على وجه قد حفر الحزن والألم معالمه عليه، وما بين طرفة عين وانتباهتها، فوجىء الجمع بنور البصر يعود ليجاور نور البصيرة، ويزين الوجه الصبوح، الذي طالما بللته العبرات الحزينة، لقد صدق حدس المحب، حين شحذ الشوق حواسه، وحفز الحنين مشاعره، وكذلك شوق المحبين حين يبلغ بمحب مبلغه، فيعبر حدود الزمان والمكان، ليشعر ويشم ويحس بقرب حبيب منتظر.
أبى الله إلا أن يمد في عمر يعقوب، حتى يرد إليه بصره، ليملي عينيه برؤية الحبيب الغائب، وما هي إلا أيام حتى دخلوا عليه، دخل أبناؤه العشرة ولحم وجوههم يكاد يتساقط خجلاً، هذه المرة لا توجد مبررات، لا توجد كلمات استباقية، لا توجد مزاعم ولا ادعاءات، فقط الندم الممزوج بالخجل والحياء، قد انكشف كل شيء، وظهر الحق وحصحص، يوسف حي، لا ذئب ولا غيره، لا معاذير ولا حجج، إنما هو الاعتراف بالذنب لا غير.. {..يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ} [يوسف:97].
خرج الطلب من بين شفاههم هذه المرة يقطر بالصدق، يبدو أنهم قد تابوا فعلاً، وأنابوا إلى ربهم،
ما أحوجهم الآن إلى استغفار أبيهم، ذلك الرجل الصالح الذي تحمل لعقود ما لم يتحمله أحد، أتراه يستغفر لهم؟! أتراه يفعل كما فعل يوسف، حين أكرمهم وهو الكريم ابن الأكرمين قائلاً: {لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِين} [يوسف:92].
بلا شك.. وهل من أخلاق الأنبياء وسمتهم غير ذلك الصفح الجميل؟!
{سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّيَ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [يوسف:98]، ما أسعدهم بتلك العبارة التي انبعثت من بين شفتين قد أذابهما الذكر، ونحلهما التسبيح، قد بلغ صاحبهما من الكبر عتيًا مستغرقًا في العبادة والتعظيم لله رب العالمين، لكن شباب النبوة ورونقها، لم يزل متوهجًا في نفسه، باعثًا القوة في كل أرجاء كيانه.
هنيئًا لهم استغفار النبيين يوسف وأبيه، لكأني بهم يتنفسون الصعداء؛ قد اطمأنوا إلى عفو أبيهم قد سبقه عفو أخيهم، وبقي العفو الأهم؛ عفو ربهم الذي هم إليه راغبون، المهم الآن قبل أي شيء أن يلتقي الشتيتان، وأن يلتئم الشمل، فالقلب عانى من الفرقة عقودًا، وآن له أن يستريح، هلموا إلى يوسف وأخيه، فلكم تاقت عين الأب الحزين إلى أن تقر برؤيته، وتسعد بالنظر إليه وإلى أخيه..
{...يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا...} [يوسف:100].
قالها يوسف عليه السلام وهو يعين أبويه على النهوض إلى جواره على العرش، ها قد جمع الله الشتيتين بعد أعوام من الحزن والفراق، وها قد تحققت الرؤيا، ورؤيا الأنبياء حق {...وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ...} [يوسف:100].
ما أصبرك يا يوسف وما أقيمك!
أبعد كل ما لاقيت من جفوة الإخوة، وظلمة الجب، وألم الفراق، وربقة الأسر، ومرارة الرق، ووحشة الغربة، وفتنة المراودة، وضراوة السجن، وعلقم الظلم، أبعد كل ذلك لم يشهد قلبك إلا الإحسان؟! لم تقل وقد فتنني ربي وقد ابتلاني ليختبر صبري وجلدي ولو قلت لصدقت لكنك لم تر إلا الإحسان في ختام قصتك الحافلة بالمحن والآلام؟ أى قلب هذا؟!
ليس بغريب عليك يا من قلت من قبل بينما كنت في أصفاد السجن: {ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ} [يوسف:38]، لقد رأيت الفضل والنعمة وأنت حبيس جدران السجن الرطبة، فكيف لا تراه ها هنا؟!
لكأني أرى جدك إبراهيم عليه السلام في خضم البلاء، وهو يترك امرأته ومعها فلذة كبده في صحراء قاحلة، امتثالاً لأمر مولاه، فلا يترك الحمد، ولا ينسى النعم، قائلاً في هذا المقام الحزين: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ...} [إبراهيم:39].
وكيف أسمع لكلماتك تلك ولا يقفز إلى ذهني مشهد أخيك أيوب عليه السلام، وهو يتجرع مرارات الابتلاء أعوامًا مديدة، ما بين فقد أهل ومال، وآلام سقم، وأنات مرض، ورغم ذلك لا يعبر عن كل ما رأى من بأس إلا بنفثة يكللها الثناء: {...أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء:83]، إنه لدأب الشاكرين المحبين، وأنت منهم أيها الصديق الكريم، لا يرون إلا الفضل، ولا يتذكرون إلا الإنعام، وكل ما دون ذلك عندهم هين..
{...وَجَاءَ بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن...} [يوسف:100]، من بعد ماذا؟ ألم تقل أيها الصديق إنه لا تثريب عليهم؟! ألم تقرر أنه لا لوم ولا عتاب؟ بلى قد قال، هذا هو جواب عن السؤال، وهل يظن بالكريم ابن الأكرمين إلا ذلك؟! لن يعاتبهم ولن يذكرهم بما فعلوه به صغيرًا، بل سيقول عبارة هي من أعاجيب أدب الأنبياء في الصفح؛ لسوف يقول: {...وَجَاءَ بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي} [يوسف:100].
يا الله! نزغ الشيطان؟! سبحان من أدبك يا نبي الله! قد وعدت فأوفيت، لم تثرب ولم تعتب عليهم وقد تابوا وأنابوا، فنسبت كل ما فعلوه لنزغ الشيطان، {...إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاء إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [يوسف:100]، حقًا إنه اللطيف الذي يسوق عبده إلى مصالح دينه ودنياه، ويوصلها إليه بطرق خفية، ربما لا يشعر بها العبد ولا يتوقعها، فيوصله من خلالها إلى السعادة الأبدية، والفلاح السرمدي، من حيث لا يحتسب، إنه لطف الله بأوليائه، بتيسيرهم لليسرى، وتجنيبهم العسرى..
هل كان من أحد يتصور أن تكون هذه النهاية وذاك الفتح، هما مآل الإلقاء في الجب والأسر والسجن، وسائر حلقات سلسلة الابتلاء التي مر بها يوسف، والتي لو فقدت إحداها فربما لم تكن تلك نهايتها، إنه الله اللطيف العليم الحكيم سبحانه،ةبعد كل هذا الإنعام والفضل الذي لا يحصى، ها هو يوسف عليه السلام يرفع يديه ليتوج قصته بأبدع نهاية، وليدعو بدعاء ما أرقه وما أعذبه..
يلخص به رحلته الحافلة في الدنيا، ويبتهل إلى حبيبه ومولاه، طالبًا أن يمتد الفضل للآخرة فيلقاه:
{رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف:101].
من كتابي: (العودة إلى الروح).