المشهد الأخير

حقًا لقد وقفت بين يدي الملك الجبار الحق المبين، الذي كنت تهرب منه، وكان يدعوك فتصد عنه، ووقفت وبيدك صحيفة لا تغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصتها.. فتقرأها بلسان كليل وقلب كسير، وقد عمك الحياء والخوف من الله، ثم يبدأ مشهد جديد.. المشهد الأخير.. هذا المشهد سأدعه لك يا أخي ويا أختي.. فكل واحد منا يعلم ماذا عمل من خير وشر.

  • التصنيفات: الدار الآخرة -


الحمد لله رب العلمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد:
قال رسول الله صلى الله عيه وسلم: «ما لي وللدنيا؟ ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها» (صححه الألباني).

أخي الحبيب.. تيقن حق اليقين أن ملك الموت كما تعداك إلى غيرك فهو في الطريق إليك..
واعلم أن الحياة مهما امتدت وطالت فإن مصيرها إلى الزوال، وما هي إلا أعوام أو شهورًا وأيام، أو لحظات، فتصبح وحيدًا فريدًا لا أحباب ولا أموال ولا أصحاب، تخيل نفسك وقد نزل بك الموت يجذب روحك من قدميك، وتذكر ظلمة القبر ووحدته وضيقه ووحشته، وتذكر هيئة الملكين وهما يقعدانك ويسألانك، تذكر كيف يكون جسمك بعد الموت؟ تقطعت أوصالك وتفتتت عظامك، وبلي جسدك، وأصبحت قوتًا وطعامًا للديدان.

 

القبر باب وكل الناس داخله *** يا ليت شعري بعد الموت ما الدار
الدار دار نعيم إن عملت *** بما يرضي الإله وإن خالفت فالنار
هما محلان ما للمرء غيرهم *** فانظر لنفسك أي الدار تختار


ثم ينفخ في الصور أنها صيحة العرض على الله، فتسمع الصوت فيطير فؤادك ويشيب شعرك، فتخرج مغبرًا حافيًا عاريًا قد رجت الأرض رجًا، وبست الجبال بسًا، وشخصت الأبصار لتلك الأهوال، وطارت الصحائف وقلق الخائف.

فكم من شيخ يقول واشيبتاه، وكم من كهل يقول واخيبتاه، وكم من شاب يصيح وأشباباه..!
اليوم هو يوم القيامة لا كلام.. الجبال دكت.. الأنهار جفت.. البحار اشتعلت.. الأرض غير الأرض.. السماء غير السماء.. لا مفر من تلبية النداء، وقعت الواقعة، الكل يصمت الكل مشغول بنفسه لا يفكر إلا في مصيبته.

ينزل من السماء ملائكة أشكالهم رهيبة.. يقفون صفًا واحدًا في خشوع وذل..
يفزع الناس يسألونهم.. أفيكم ربنا؟ ترتجف الملائكة، سبحان ربنا، ليس بيننا ولكنه آت..
ويتوالى نزول الملائكة حتى ينزل حملة العرش، ينطلق منهم صوت التسبيح عاليًا في صمت الخلائق، ثم ينزل الله تبارك وتعالى في جلاله وملكه، ويضع كرسيه حيث يشاء في أرضه يقول سبحانه: «يا معشر الجن والإنس إني قد أنصت إليكم منذ أن خلقتكم إلى يومكم هذا، أسمع قولكم وأبصر أعمالكم فأنصتوا إلي، فإنما هي أعمالكم وصحفكم تقرأ عليكم، فمن وجد خيرًا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه» (قال ابن كثير في تفسير القرآن:276/3 غريب جدًا)، الناس أبصارهم زائغة والشمس تدنو من الرؤوس.. أنا وأنت واقفون معهم نبكي دموعًا تنهمر من الفزع والخوف.

الكل ينتظر.. ويطول الانتظار، تقف لا تدري إلى أين تمضي إلى الجنة أو إلى النار؟
الكل ينتظر يطلب الرحمة، البعض يطلب الرحمة ولو بالذهاب إلى النار من هول الموقف وطول الانتظار، ألهذه الدرجة؟ نعم.. ماذا أفعل؟ هل من ملجأ يومئذ من كل هذا؟ نعم. فهناك أصحاب الامتيازات الخاصة الذين يظلهم الله تحت عرشه، منهم شاب نشأ في طاعة الله، ومنهم رجل قلبه معلق بالمساجد، ومنهم من تصدق بيمينه فأخفاها حتى لا تعلم شماله، ومنهم رجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه، ومنهم إمام عادل، ومنهم رجلان تحابا في الله، اجتمعا عليه وتفرقا عليه، فهل أنت من هؤلاء؟

إن لله عبادًا فطنًا *** طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا
نظروا فيها فلما علموا *** أنها ليست لحى وطنا
جعلوها لجة واتخذوا *** صالح الأعمال فيها سفنا


وما حال بقية الناس؟ يجثون على ركبهم خائفين.
أليس هذا آدم أبو البشر؟ الكل يجري إليه.. اشفع لنا عند الله، فيقول: "ان ربي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب مثله من قبل، نفسي نفسي.."، ثم يهرولون إلى موسى فيقول: "نفسي نفسي.."، ثم يسرعون إلى عيسى فيقول: "نفسي نفسي.."، وتتبرأ حينها أنت أيضًا من أخيك وأمك وأبيك وصاحبتك وبنيك.. يوم ينسى المرء كل عزيز وحبيب، فجأة.. الناس يرون محمد صلى الله عليه وسلم فيسارعون إليه فينطلق إلى ربه ويستأذن عليه فيؤذن له ويقال سل تعط واشفع تشفع.. الناس كلهم يرتقبون.. فإذا بنور باهر.. إنه نور عرش الرحمن وتشرق الأرض بنور ربها.

سيبدأ الحساب.. ينادي فلان بن فلان.. إنه اسمك أنت.. تفزع من مكانك يأتي عليك الملائكة يمسكون بك من كتفيك، يمشون بك في وسط الخلائق الراكعة على أرجلها وكلهم ينظرون إليك، صوت جهنم يزأر في أذنيك.. وأيدي الملائكة على كتفيك، تذكر حينئذ ضعفك وشدة خوفك وانهيار أعصابك وخفقان قلبك..

ثم يذهبون بك لتقف أمام الله للسؤال.. حقًا لقد وقفت بين يدي الملك الجبار الحق المبين، الذي كنت تهرب منه، وكان يدعوك فتصد عنه، ووقفت وبيدك صحيفة لا تغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصتها.. فتقرأها بلسان كليل وقلب كسير، وقد عمك الحياء والخوف من الله، ثم يبدأ مشهد جديد.. المشهد الأخير.. هذا المشهد سأدعه لك يا أخي ويا أختي.. فكل واحد منا يعلم ماذا عمل من خير وشر.

هل أطعت الله ورسوله؟
هل قرأت القرآن بأحكامه؟
هل أديت الصلوات الخمس في وقتها؟
هل صمت رمضان إيمانا واحتسابا؟ هل أديت فريضة الحج والعمرة؟
هل تجنبت النفاق أمام الناس بحثًا عن الشهرة؟
هل أديت زكاة مالك؟
هل بررت أمك وأباك؟
هل كنت صادقًا مع نفسك ومع الناس، أم كنت تكذب وتكذب وتكذب؟
هل.. هل.. هل..؟

هناك الحساب.. أما الأن فاعمل لذلك اليوم قبل فوات الأوان، واعلم أن الله كما أنه غفور رحيم هو أيضًا شديد العقاب..

عثمان عطية محسب 

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام