الأخلاق بين التحلي والتعري
فما يحويه القلب والعقل يظهر في خلق الإنسان وسلوكه من خلال تعامله مع الآخرين، «فكل إناء بما فيه ينضح»
- التصنيفات: تزكية النفس -
الإنسان في سعيه على طريق الله عليه أن يطرق كل أبواب الخير، فلا يعقل أن إنسانا يبيت لربه ساجدا قائما ثم يصبح يتكبر على غيره، أو أن يرد السفاهة بالسفاهة، أو أن يؤذي غيره، أو أن يكذب أو...
كثيرون من أبناء المجتمع الإسلامي يفرقون بين العبادات (الصلاة، الزكاة، الصوم، الحج...)، والسلوك (التواضع، بشاشة الوجه، الصدق في التعامل، إفشاء السلام...). فالعبادات بدورها هي اصطفاء للإنسان وتجلية قلبه وعقله من عفن وشوائب الأخلاق السيئة؛ كي يصبح قادرا على ترجمة هذه العبادات -بعد أن يتصل بربه- إلى أسلوب حياة ومنهج متبع في تعاملاته.
فما يحويه القلب والعقل يظهر في خلق الإنسان وسلوكه من خلال تعامله مع الآخرين، «فكل إناء بما فيه ينضح». ولما كان الإنسان كائنا اجتماعيا لا يستطيع العيش وحيدا منعزلا عن غيره، وجب عليه أن يحسن كي يحسن إليه.
هذا الإحسان الذي يحسنه الإنسان، والذي يترجمه في سلوكه، إنما هو تطبيق فعلي عملي لما أملته عليه العبادات.
هذه الترجمة في مجموعها تشكل ما يسمى بـ «أخلاق الإنسان»، فإن قدم الإنسان سلوكا مقبولا مرغوبا فيه من أفراد مجتمعه، أصبح هذا الإنسان ذا أخلاق كريمة، وإن قدم الإنسان سلوكا مرفوضا مرغوبا عنه من أفراد مجتمعه، أصبح هذا الإنسان ذا أخلاق ذميمة.
فالأخلاق من أهم جوانب بنيان الإنسان؛ لأنها هي الأساس في بناء الفرد بناء شاملا، وإصلاح المجتمع إصلاحا متكاملا.
فسلامة المجتمع وقوة بنيانه وسمو مكانته وعزة أبنائه وصحة أفكاره ورصانة آرائه تكمن في تمسكه بالأخلاق الحميدة.
فالأخلاق العالية هي روح الإسلام ولبه، وأساسه وغايته، لأن الدين ليس في كثرة العبادات فقط، بل إن الدين هو المعاملة، فالمعاملة الحسنة للناس قد يفوق ثوابها كثيرا من العبادات المعروفة، ويوضح الرسول صلى الله عليه وسلم حينما سئل عن أكثر ما يدخل الناس الجنة قال: «تقوى الله وحسن الخلق» (أخرجه الترمذي، في سننه، كتاب أبواب البر والصلة، باب: ما جاء في حسن الخلق، ج4، ص363، رقم الحديث 2004)، وأيضا حينما قال له رجل: يا رسول الله، إن فلانة يذكر من كثرة صلاتها وصيامها وصدقتها غير أنها تؤذي جيرانها بلسانها، قال: «هي في النار». قال يا رسول الله، فإن فلانة يذكر من قلة صيامها وصدقتها وصلاتها، وإنها تصدق بالأثوار من الأقط ولا تؤذي جيرانها بلسانها. قال: «هي في الجنة» (أخرجه أحمد، في مسنده، ج15، ص422، رقم الحديث 9676).
والتربية هي علم سلوكي يرتكز إلى شتى صور وألوان السلوك الإنساني، ويسعى إلى محاولة التعرف على العوامل والأسباب التي تؤثر فيه داخل بيئة الإنسان التي يعيش فيها.
ومن أهم مجالات ذلك العلم (التربية)، مجال التربية الأخلاقية، والذي يستهدف في المقام الأول تربية النشء على الخلال الحميدة والشيم المرضية والصفات الكريمة، مثل: الجود، الحلم، الصبر، الوقار، التواضع، الصدق، الأمانة، العفة، طلاقة الوجه والتنزه عن دنيء الأمور. هذه الصفات وغيرها من شأنها أن تعلي من شأن الإنسان وصولا إلى مرتبة الإيمان، فالنظرة الكلية لمجموع هذه الصفات أولى وأوجب من النظرة الجزئية.
فـ«التربية الأخلاقية» هي: «تنشئة الطفل وتكوينه إنسانا متكاملا من الناحية الأخلاقية بحيث يصبح في حياته مفتاحا للخير ومغلاقا للشر في كل الظروف والأحوال، ويسارع إلى الخيرات ويتسابق فيها كما يسارع إلى إزالة الشرور» (مقداد يالجن، جوانب التربية الإسلامية الأساسية، لبنان، بيروت، دار الريحاني، 1406هـ، ص 301).
وأيضا هي: «مجموعة من المبادئ الخلقية، والفضائل السلوكية والوجدانية التي يجب أن يتلقنها الطفل ويكتسبها ويعتاد عليها منذ تميزه وتعقله إلى أن يصبح مكلفا إلى أن يتدرج شابا إلى أن يخوض خضم الحياة» (عبد الله ناصح علوان، تربية الأولاد في الإسلام، ط3، سوريا، دمشق، دار السلام، 1401هـ، ص 177).
وبشكل مجمل هي: «تعويد الناشئ على الأخلاق الفاضلة والشيم الحميدة حتى تصير له ملكات راسخة وصفات ثابتة يسعد بها في الدنيا والآخرة، وتخليصه من الأخلاق السيئة» (حسن بن علي الحجاجي، الفكر التربوي عند ابن القيم، السعودية، الرياض، دار الهدى للنشر والتوزيع، 1408هـ، ص 214).
وتتمثل أهمية التربية الأخلاقية فيما يلي:
1- أنها امتثال لأمر الله عز وجل، وطاعة للرسول صلى الله عليه وسلم، قال الله عز وجل: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199] ، فلقد جمع الله سبحانه وتعالى مكارم الأخلاق في هذه الآية، وأمر بالأخذ بها، والتحلي بما ورد فيها. وكذلك فإن التحلي بالأخلاق الكريمة طاعة للرسول صلى الله عليه وسلم، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: « » (أخرجه الترمذي، في سننه، كتاب البر والصلة، باب ما جاء في معاشرة الناس، ج4، ص355، رقم الحديث 1987).
2- حسن الخلق عبادة، بل إن ثواب بعضه قد يفوق كثيرا من العبادات المعروفة، فمثلا التبسم في وجه المسلم عبادة، والكلمة الطيبة عبادة، وزيارة الأخ في الله عبادة، وعيادة المريض عبادة، ومصافحة المسلم عبادة، وصلة الرحم عبادة، وقضاء حوائج الناس عبادة، وكف الأذى عن الغير عبادة.
3- أخلاق العبد السيئة وسلوكياته الشائنة تأكل خيراته، وتهدم حسناته، وتجعله مفلسا من الصالحات، وتحمله من الأوزار والسيئات، وتقذف به في الدركات، ولو قام وصام وعمل الصالحات، سأل النبي صلى الله عليه وسلم يوما أصحابه فقال: « » قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: « » (أخرجه مسلم، في صحيحه، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم، ج4، ص1997، رقم الحديث 2581).
4- كسب القلوب، فحُسن الخلق من أعظم الأسباب الداعية لكسب القلوب، فهو يحبب صاحبه للبعيد والقريب، فالناس على اختلاف مشاربهم يحبون ويقدرون محاسن الأخلاق، ويألفون أهلها، ويرغبون في مجالستهم، ويبغضون مساوئ الأخلاق، وينفرون من أهلها، ويرغبون عن مجالستهم ومخالطتهم، قال الله عز وجل: {بِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران:159] .
ولعل ما دفعني إلى كتابة هذه الكلمات ما تلمسته من استضعاف لأولئك الذين ينتهجون منهج الله في تعاملهم مع غيرهم، راجين في ذلك ثواب الله، فالإساءة كل الإساءة عندما نرى أناسا لا يتخلقون بالأخلاق الحميدة الكريمة، ليس هذا فحسب، بل ينكرون على غيرهم التخلق بها.
أحمد عقل محمود
كاتب صحفي