الأوثان الحيَّة والأصنام العاقلة

أبو محمد بن عبد الله

كون الله- تعالى- يتكلم عنها بموصول العاقل {مَـــن} وليس "مــــا"، فقال:{أفمــــن يهدي}.. {أمَّــــن لا يهدِّي}، ولم يقل:"مـــا يهـدي... مــا لا يهدِّي"، فلا بد إذن من وجود الصنم (العاقل!) الذي يدخل في الخطاب، ويصلح فيه الاسم الموصول {مَن} الذي استعمله الله تعالى في الآية، ولا ينفي دخول الصنم الأصم فيه دخول التابع، فإن مِن أساليب اللغة العربية أسلوبُ التغليب، كما يدخل النساء مثلا في خطاب الرجال إذا اجتمعوا.

  • التصنيفات: العقيدة الإسلامية - قضايا إسلامية معاصرة -

اللطيفة الأولى: الأوثان الحيَّة والأصنام العاقلة

في مقدمتنا للتشديدة: (8) لطائف: يَهَدِّي  كنا قد ذكرنا  فوائد القرائتين لكلمة:{يَهْدِي} و {يَهَدِّي}، بالتشديد والتخفيف. وما زلنا مع فوائدها ولطائفها، وهي وإن كانت هذه اللطائف واللفتات تصلح مقالات مستقلة، إلا أنَّا آثرنا الإشارة إليها؛ لأن ارتباطها بأصلها كموضوع متسلسل أبدع وأنفع.

اللطيفة الأولى: الأوثان الحيَّة والأصنام العاقلة

فما زلنا مع لطائف قوله تعالى: {أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [ يونس:35].

بهذه الآية؛ خاطبَ اللهُ سبحانه العربَ بما كانوا يعبدون مِن أصنام وأوثان من أحجار وأشجار، وهي مما لا يَسمع ولا يُبْصِر ولا يعقل، فهي أوثان جامدة وليست حيَّة، وأصنام غير عاقلة، ولا يُتَصَوَّر من هذا الصنم أن يهدي أو يهتدي، ولا حياة له ولا عقل؛ فكيف قيل: {إلا أن يُهدَى

فهو حتى وإن جاءته الهداية وَحيًا أو أمرًا أو نهيًا؛ فليس مَحلًّا قابلا للخطاب؛ فكيف يَرُدُّ الجواب؟! هذا تساؤل طرحه بعضُ المفسرين، وهو وجيهٌ حقيقٌ بالإثارة!

وإنما طَرحَه بعض المفسرين لأنهم وقفوا في معنى الأوثان والأصنام على تلك الأصنام الساذجة البدائية التي لا حياة لها ولا عقل ولا إرادة؛ من حجر وشجر وتمر، وكان هذا منهم قَصرًا للحقيقة على بعض معانيها أو صورها، أو قل: هذه الأصنام الساذجة فقط، ومن ثمَّ استشكلوا: كيف تُنسب لها الهداية والاهتداء؛ وهي مَوَاتٌ جَوَامِدُ؟!

وقد أجابَنَا بعضُ المفسرين رحهمهم الله بقولهم: معنى الهداية في حق الأصنامِ الانتقالُ، أي : أنها لا تنتقل من مكان إلى مكان إلا أن تُحمل وتُنقل، يتبين به عجز الأصنام. قال: وجواب آخر، وهو: أن ذِكر الهداية على وجه المجاز، وذلك أن المشركين لما اتخذوا الأصنام آلهة وأنزلوها منزلة من يسمع ويعقل عبر عنها بما يعبر عمن يعلم ويعقل، ووصفت بصفة من يعقل(1).

وقال ابن عاشور: وأريدَ بالهدي النقل من موضع إلى موضع أي لا تهتدي إلى مكان إلا إذا نقلها الناس ووضعوها في المكان الذي يريدونه لها، فيكون النقل من مكان إلى آخر شُبِّهَ بالسير؛ فَشُبِّهَ المنقول بالسائر على طريقة المكنية، ورمز إلى ذلك بما هو من لوازم السير وهو الهداية في {لا يهدِّي إلا أن يهدى}. وجوز بعض المفسرين أن يكون فعل {إلا أن يهدى} بمعنى إهداء العروس، أي نقلها من بيت أهلها إلى بيت زوجها، فيقال: هُدِيَتْ إلى زوجها.(3)

قلتُ: وظاهر تفسيرهم صحيح، لكنه ليس تامًّا. أو قل: هذا جزء من المعنى. ولكنّ الأمر أبعد من تلك الأجوبة، بل الأمر أبــلغ من ذلك، وأوسع من ذلك الحصر، وأَطْلَق من ذلك التقييد، مع أن الآيات ذكرت الشركاء ولم تذكر الأصنام ولا الأوثان؛ فتنبَّه!

نعم كانت ظواهر الأصنام كذلك، أي في الأغلب أنها مما لا يَعقل، أو قل: تلك هي أصنامُ الأوضاع الشعبية!

وكون الله- تعالى- يتكلم عنها بموصول العاقل {مَـــن} وليس "مــــا"، فقال:{أفمــــن يهدي}.. {أمَّــــن لا يهدِّي}، ولم يقل:"مـــا يهـدي... مــا لا يهدِّي"، فلا بد إذن من وجود الصنم (العاقل!) الذي يدخل في الخطاب، ويصلح فيه الاسم الموصول {مَن} الذي استعمله الله تعالى في الآية، ولا ينفي دخول الصنم الأصم فيه دخول التابع، فإن مِن أساليب اللغة العربية أسلوبُ التغليب، كما يدخل النساء مثلا في خطاب الرجال إذا اجتمعوا.

نعم كان هناك صنم "الطوطم"، وكانت الأصنام والأوثان من الشجر والحجر والتمر.. يعبدونها، ثم إذا جاعوا أكلوها، تبول عليها الثعالب، فقد كان راشد بن عبد ربه السلمي يعبد صنما فرآه يومًا وثَعلبان يبول عليه فأنشد يقول:

أربٌّ يبول الثعلبان برأسه  **** لقد ذل من بالت عليه الثعالب.

ثم شد عليه فكسره، ثم جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأسلم وقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما اسمك»؟ قال: غاوي بن عبد العزى، فقال: «بل أنت راشد بن عبد ربه»(4). فقد عَلِم هذا أن صنَمَهُ ربٌّ ذليلٌ؛ لا ينفع نفسه، ولا يهتدي لطريقةٍ ينجو بها من بول الثعلبان، فكيف يغني عنه نفعًا أو ضرًّا أو هدايةً؟!

وكمناف صنم عمر بن الجموح رضي الله عنه، وكان سيدًا في قومه، وكان له قصةٌ غريبةٌ؛ إذ كان يعبد صنمًا يسمى "مناف"، وكان يحتفظ به في بيته ويوقره ويعظمه. فكان معاذ بن عمرو بن الجموح بعد إسلامه ومعاذ بن جبل يدخلان ليلاً إلى الدار فيأخذان هذا الصنم ويلقيانه في مكان مخلفاتهم منكساً على رأسه، فلمَّا يصبح عمرو يذهب فيأتي به ويغسله ويعطره، وهو يتوعد من فعل به ذلك، وكلّ ليلة يحدث هذا المشهد. وذات يوم وضع عمرو سيفًا في رقبة صنمه الذي يعبده، وقال له: "لأني لا أعلم من يفعل بك هذا، فإن كنت تستطيع الدفاع عن نفسك فهذا السيف معك فافعل". وبالليل جاء الفَتَيان فأخذا السيف من عنقه ثم أحضرًا كلبًا ميتًا فقرنوه به بحبل وألقَوْه في بئر من الآبار فيها يقضي الناس حاجتهم؛ حيث لم يكن الناس قد اتخذوا مكانا لقضاء الحاجة في بيوتهم. وفي الصباح قام عمرو يبحث عنه فلمَّا نظر إليه نهارًا اغتاظ منه وعلم أنه إلهً زائف، وأنشد يقول:

والله لو كنت إلها لم تكن **** أنت وكلب وسط بئر في قرن
أف لملقـــاك إلهًا مستدن **** الآن فتشنــاك عن سوء الغبن
الحمـــد لله العلي ذي المنن **** الواهـب الرزاق ديان الدِّيَن
هو الذي أنقــذني من قبل أن **** أكـون في ظلمة قبر مرتهن

ثم كسره وأسلم فحسن إسلامه واستشهد يوم أحد رضي الله عنه وأرضاه"(5).

نعم كانت هذه الأصنام غير العاقلة، ومع ذلك ذكرها الله تبارك وتعالى بموصول العاقل {مـن} الخاص بمن يعقل.
لقد رأينا توجيه بعض المفسرين لهذا سابقا، بين الحمل على المجاز، أو أن معنى هداية الأصنام تنَقُّلها من مكان إلى مكان!

وأقول: لقد علم الله سبحانه سلفًا أن أصنامًا وأوثانًا عاقلة، هي التي تحرك الأصنام الحجرية، وتعمل مِن ورائها في الكواليس والدَّهاليز؛ فأصنام قريش لم تكن هي التي تكلمهم، ولا هي التي تكلم لهم الجماهير! وإنما كان يكلمهم مِن ورائها أحد العاقلَين: إما الجن والشيطان، وهو عاقل مكلف، وإمّا كُهانُ الطواغيتِ وسَّدَنتُهم من البشر الذين يدخلون تحت ستائرها وينطقون باسمها، فيأمرون وينهون ويحللون ويحرمون؛ من ورائها، وتُقدَّم للجماهير العُباد على أنها مطالب الآلهة ومراضيها ومراميها!

فيظن البسطاء أن الآلهة هي التي تتكلم، وأن الأصنام (هم) الذين يريدون، وأن المخالف فإنما يخالف عن أمر الصنم والوثن.. الآلهة.

ومن هنا كان الخطاب بموصل العاقل {مـــن}  ليشمل الحجر الأصم، ومن يحركه من العقلاء، والوثن ومن ينطق باسمه، فتَوَجَّه الكلام إلى الفاعل الحقيقي، متجاوزًا (القراقوزات).

هذه واحدة، وبه يتبين أنه لا حاجة بنا إلى أن نقول بالمجاز، وإنما هي الحقيقة، بل البلاغة.

والفائدة من هذا: أنه كما قد ورد عن عمر رضي الله عنه قال: "إنما تُنْقَضُ عُرَى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية" (ابن تيمية؛ مجموع الفتاوى: 10/ 301)، وقال ابن تيمية رحمه الله: بل من لم يعرف إلا الخير فقد يأتيه الشر فلا يعرف أنه شر؛ فإمَّا أن يقع فيه وإمَّا أن لا ينكره كما أنكره الذي عرفه.

يعني أنه تُنقض عرى التوحيد إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الشرك، وتُنقض عُرى الإيمان إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الكفر، ومن خلال لطيفتنا هذه نريد أن نعرف جوهر الشرك حتى لا نقع فيه بمجرد تغيُّر ظواهره وأشكاله، أو الوقوف به عند بعض مدلولاته، وترك البعض الآخر.

فلا بد من أن نُوَسِّع مفهوم الأصنام والشركاء، وأنها ليست فقط تلك الأصنام الحجرية غير العاقلة، وإنما هي أيضًا ممن يعقل من البشر الذين يتربَّبون ويتألَّهون على الناس، في صور مشعوذين أو كهنة أو حُكَّام يُدخلون الناس في دين لم يُنزِله الله تعالى ولم يأذن به، أو مما قد يتجدد عبر العصور في مختلف الأشكال والصور، فيقع الناس فيها ولا ينكرونها، لعدم معرفتهم بأنها أيضًا أصنام أوثان شركاء.
ويتبع إن شاء الله مع لطائف أُخَر

وهذه اللطيفة الأولى تابعة لمقال التشديدة: (8) يَهَدِّي (1)

ويتبع إن شاء الله باللطيفة الثانية : أصنام بلا أجسام!

-------------------------------
1 - البغوي، أبو محمد الحسين بن مسعود بن محمد بن الفراء، (المتوفى : 510هـ)، معالم التنزيل في تفسير القرآن، 2/419. وانظر: انظر تفسير الطبري/ 15/86. والسمعاني، المظفر، منصور بن محمد بن عبد الجبار ابن أحمد المروزى(المتوفى: 489هـ)، تفسير القرآن، 2/382.
2 - ابن عاشور، التحرير والتنوير، 11/163.
3 - انظر قصته مثلا في : ابن كثير، البداية والنهاية، 5 / 107.
4 - انظر قصته في: ابن كثير، البداية والنهاية، 3/ 202.