(8) ستفرج في اللحظة المناسبة!

إياد قنيبي

لا زلنا نتكلم عن حكمة الله عز وجل في الابتلاء، واليوم نضيف عنصرًا جديدًا ألا وهو: حكمة الله عز وجل في اختيار مدة البلاء...

  • التصنيفات: أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - العقيدة الإسلامية - التقوى وحب الله - تربية النفس - تزكية النفس - أعمال القلوب -

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

إخواني وأخواتي:

لا زلنا نتكلم عن حكمة الله عز وجل في الابتلاء، واليوم نضيف عنصرًا جديدًا ألا وهو: حكمة الله عز وجل في اختيار مدة البلاء. في تجربة الأسر؛ كان يأتيني أحياناً خاطر وأقول: حتى هذا الحد استفدت كثيرًا من هذه التجربة، لكني أخشى إن طال البلاء أن يصبح المفعول عكسيًا.

ثم قلت لنفسي: وما شأنك أنت؟ أنت عبدٌ؛ دع أمرك لله عز وجل الحكيم الخبير العليم، هو أعلم بمدة البلاء، وشدته، وتوقيته، ونوعه، يختار ما يشاء سبحانه وتعالى، وهو الحكيم في اختياره.

حتى نفهم هذا المعنى؛ أود أن ألفت نظركم إلى آية في سورة الأحزاب، دعونا نـتأملها، الآية رقم 22:

قوله تعالى: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا}.

في هذه الآية تشعر أن المؤمنين كان عندهم صبر ويقين عندما رأوا جيش الأحزاب.

اِرجع قبلها بآيات، الآية 10:

قال تعالى: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا}.

إذاً هنا يظهر الخوف عند المؤمنين، التزلزل، ظنُّ الظنونِ بوعد الله عز وجل.

ألا يظن القارئ أن هناك تعارضا بين الآيتين؟

قد يظن هناك التعارض، ولكن لا تعارض في كتاب الله عز وجل.

إذاً؛ كيف نوفق بين الآيتين:

الآية التي تدل على أن المؤمنين صبروا وثبتوا وأيقنوا بنصر الله والآية التي تدل على أن المؤمنين تزلزلوا وخافوا وظنوا الظنون؟

الآيتان تتكلمان عن الغزوة ذاتها وعن جماعة المؤمنين أنفسهم. يمكن الجمع -والله أعلم- بأن نقول:

إن المؤمنين لما رأوا الأحزاب ثبتوا وصبروا، نجاهم الله عز وجل بإيمانهم فأنطقهم بكلام حَفِظَ عليهم دينهم، إنما الصبر عند الصدمة الأولى، وهذا المطلوب منهم: أن يصبروا عندما رأوا جيش الأحزاب. لكن يظهر والله أعلم أن المؤمنين ظنوا أن النصر سوف يتنزل سريعًا، أسرع مما كان، تأتي ريح، تنشق الأرض وتبتلع المشركين، تأتي الملائكة من عند الله عز وجل، تُحسم المعركة سريعًا.

لكن البلاء طال واشتد، الحصار دام شهرًا، في هذا الشهر:

جوع، برد، خوف...

المشركون حاولوا الإغارة على المسلمين من نقاط ضعف في الخندق.

وبلغت الأمور ذروتها عندما علم المسلمون أن يهود بني قريظة نقضوا العهد وتحالفوا مع المشركين، والآن في أية لحظة يمكن ليهود بني قريظة أن يفتحوا بواباتهم،  فينساحَ المشركون في المدينة ويفسدوا فيها، ويعيثوا فيها قتلاً وتعذيبًا وانتهاكًا للأعراض.

في هذه اللحظة ظن المؤمنون الظنون:

أين وعد الله؟ ألم يعدنا الله بالنصر؟ ألم يعدنا الله بالتمكين؟

خافوا وبلغت القلوب الحناجر.

في هذه اللحظة نجّا الله المؤمنين، وأرسل الله الريح فاقتلعت خيام المشركين، وكفأت قدورهم، وشردت جموعهم، وانسحبوا مهزومين. اُنظر -سبحان الله العظيم- إلى هذا التوقيت المناسب.

تعالوا الآن نتصور:

ماذا كان سيحصل لو تأخر النصر عن هذا الحد؟

وماذا كان سيحصل لو جاء النصر قبل هذا الحد؟

لو تأخر النصر -أكثر فأكثر- يُخشى أن بعض المؤمنين كان سينطق كلامًا أو يفعل أفعالاً كما صدر من المنافقين.

المنافقون كانوا يقولون: "إن محمداً يعدنا كنوز كسرى وقيصر وأحدنا لا يستطيع أن يذهب لقضاء حاجته". من شدة الخوف والعياذ بالله.

لو تأخر النصر لربما اعتمل الشك في صدور المؤمنين ونطقوا بكلام يَهدم ماضيهم، يُذهب حسناتهم، يهدد إيمانهم. لكن الله عز وجل -بحكمته ورحمته- حفظ عليهم دينهم؛ فلم يتأخر النصر أكثر من ذلك الحد؛ لأن الله يبتلي المؤمن على قدر دينه.

طيب، السؤال الآخر:

لماذا لم يأت النصر قبل ذلك؟

لماذا لم تحسم المعركة ولم تأت الريح في اليوم التالي من الحصار، الأسبوع الأول من الحصار، الأسبوع الثاني من الحصار؟

لماذا امتد الحصار شهراً كاملاً؟

لله في ذلك حكم، منها -والله تعالى أعلم بحكمته-:

منها: أن الله عز وجل أراد أن يطيل مدة البلاء حتى يصلب عود المؤمنين، كلما اشتد البلاء كلما صلب عودهم وزاد إيمانهم.

أيضًا هناك نقطة مهمة جدًا:

تصوروا ماذا كان سيحصل لو جاء النصر والمؤمنون في قمة يقينهم وثباتهم واستبشارهم بوعد الله؟

يُخشى عليهم -حينئذ- من أن يُعجبوا بأنفسهم، أن يغتروا بأنفسهم. لو جاء النصر قبل أن تأتي مرحلة الظنون والخوف والشك لربما قال المؤمنون لأولادهم في المستقبل: يا أبناءنا، لقد جاء جيش المشركين ولكننا صبرنا، ثبتنا، صمدنا.

لربما أسندوا الفضل إلى أنفسهم أنهم هم الذين صبروا، هم الذين ثبتوا.

الله عز وجل أراد أن يعرّف المؤمنين: أنكم -بذواتكم- ضعفاء، لولا نصر الله وتثبيته لكم لهلكتم.

أراد الله عز وجل أن يمروا بهذه المرحلة -مرحلة ظن الظنون- حتى تنكسر نفوسهم أمام الله عز وجل ويستحيوا من ربهم، ويقولوا في أنفسهم: يا رب سامحنا، اغفر لنا، يا رب في يوم من الأيام ظننا بك الظنون لكنك يا رب رحيم حكيم أنجزت وعدك الذي وعدت فاغفر لنا يا رب.

يخرجون من هذه التجربة والمحنة قد ذلت نفوسهم وخضعت وانكسرت لله عز وجل، فلا يسندون الفضل إلى أنفسهم، بل يسندون الفضل كاملاً إلى الله عز وجل الذي نجاهم في اللحظة الحرجة.

إذاً؛

لم يتأخر النصر إلى حد يمكن أن تخرج معه كلمات من المؤمنين تهدد إيمانهم.

ولم يأت في مرحلة مبكرة قبل أن يشتد البلاء ويصلب عودهم وتذل نفوسهم لله ويعلموا أنْ ليس لهم إلا الله عز وجل.

فانظروا إلى حكمة الله سبحانه وتعالى في مدة البلاء.

رأيت هذا في تجربة الأسر: أناسا ابتلوا بلاء طويلاً وصبروا وصمدوا وثبتوا.

في مرحلة من المراحل عندما جاءت وعود وهمية بالإفراج واستبشروا بالإفراج، لكن بعد ذلك تبين أن هذه وعود وهمية  انكسرت نفوسهم، خالطت نفوسهم الشكوك والظنون.

في هذه اللحظة انتشلهم الله عز وجل وفرج عنهم حتى لا يضيع إيمانهم.

فسبحان الحكيم الخبير الذي لا يُضيّع عملَ عباده المؤمنين، وفي الوقت ذاته يربيهم ويؤدبهم.

والسلام عليكم ورحمة الله