(4) علامات الساعة الصغرى (4/2)

عمر سليمان الأشقر

نماذج من الفتن والتحذير منها، وكيفية الخلاص منها

  • التصنيفات: أشراط الساعة -

تابع العلامات الصغرى التي وقعت، ولا تزال مستمرة، وقد يتكرر وقوعها

الفتن:

- التحذير من الفتن:

إن الفرد المسلم والأمة المسلمة كلهم يبتلى بشتى أنواع البلاء، وقد يثور البلاء من داخل الأمة بسبب الأهواء والفرقة والخصام، وقد يتمثل في عدو حاقد على هذه الأمة يجتاحها ويستذلها، وقد يصل البلاء النابع من الفرقة والخصام إلى حد أن يسل بعضها على بعض السيوف، فتزهق الأرواح، وتسيل الدماء، وتنتهك الحرمات، وتسلب الأموال. وقد أطلع الله رسوله عليه السلام على كثير من البلايا والفتن التي ستبتلى بها الأمة الإسلامية في مقبل الزمان، ولذلك فإن الرسول صلى الله عليه وسلم أطال في تحديث الصحابة عن تلك الفتن، وبيان المخرج منها.

وبعض هذه الفتن شديدة مظلمة ومنها خفيف، ففي حديث حذيفة في صحيح مسلم عن الفتن: «منهن» (أي من الفتن) «ثلاث لا يكدن يذرن شيئًا، ومنهن فتن كرياح الصيف، منها صغار، ومنها كبار». ويبلغ من شدة هذه الفتن أن تُخرج المسلم عن دينه، ففي حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «بادروا بالأعمال فتنًا كقطع الليل المظلم، يصبح المرء مؤمنًا، ويمسي كافرًا، ويمسي مؤمنًا ويصبح كافرًا، يبيع أحدكم دينه بعرض قليل من الدنيا» (رواه أحمد ومسلم والترمذي).

ويبلغ ثقل هذه الفتن وشدتها على المسلم أن يتمنى الموت ويرجوه كي يتخلص من البلاء، فعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل، فيقول: يا ليتني كنت مكانه» (رواه البخاري ومسلم).

وإن من أعظم الأسباب التي توقع في الفتن والبلاء قلة العلم، وكثرة الجهل، وترك الإسلام، وارتكاب الذنوب والمعاصي، وانتهاك الحرمات، فعن عبد الله بن مسعود وأبي موسى الأشعري رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن بين يدي الساعة أيامًا ينزل فيها الجهل، ويرفع العلم، ويكثر الهرج»، والهرج: القتل (أخرجه البخاري ومسلم). وقد كثر في الأحاديث إخبار الرسول صلى الله عليه وسلم بكثرة القتل في آخر الزمان، وليس المراد به قتل المسلمين للكفار، وإنما هو قتل بعض المسلمين لبعض، وفي كثير من الأحيان لا تعرف أسباب ذلك القتل ولا أهدافه.

 

- نماذج من الفتن:

أولاً: مقتل الخليفة الراشد عثمان وافتراق الأمة

من أعظم الفتن التي أخبر بها الرسول صلى الله عليه وسلم تلك الفتنة التي أدت إلى مقتل الخليفة الراشد عثمان بن عفان وفرقة الأمة الإسلامية، ومن ثم جعل بأسها بينها، فقد سل بعضها السيوف على بعض، وسالت الدماء الطاهرة الطيبة من الفريقين المسلمين المتخاصمين، وأصدق وصف لتلك الفتنة أنها كانت تموج كموج البحر. ففي حديث حذيفة أنه كان جالسًا عند عمر بن الخطاب، إذ قال: "أيكم يحفظ قول النبي صلى الله عليه وسلم في الفتنة؟" قال حذيفة: "فتنة الرجل في أهله وماله وولده وجارِهِ يكفرها الصلاة والصدقة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، قال: "ليس عن هذا أسألك، ولكن التي تموج كموج البحر"، فقال: "ليس عليك منها بأس يا أمير المؤمنين، إن بينك وبينها بابًا مغلقًا"، قال عمر: "أيُكسَر أم يُفتح؟" قال: "بل يُكسر"، قال عمر: "إذًا لا يغلق أبدًا"، قلت: أجل. قلنا لحذيفة: أكان عمر يعلم الباب: قال: نعم، كما أعلم أن دون غد ليلة، وذلك أني حدثته حديثًا ليس بالأغاليط، فهبنا أن نسأله عن الباب، فأمرنا مسروقًا فسأله، فقال: من الباب؟ قال: عمر" (رواه البخاري).

وقد صرح النبي صَلَى اللهُ عَليهِ وَسلَّم في بعض الروايات بما يكون من حال الأمة في تلك الفتنة، ففي حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تقوم الساعة حتى تقتتل فئتان عظيمتان، وتكون بينهما مقتلة عظيمة، ودعواهما واحدة» (رواه البخاري).

 

ثانيًا: فتنة الخوارج

من آثار الفتن الفرقة والاختلاف، وقد أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم عن خروج أقوام في آخر الزمان، لهم دور كبير في فرقة الأمة الإسلامية، إذ يدعي هؤلاء العلم، ويجهدون أنفسهم في العبادة، ويدعون إلى كتاب الله، ولكنهم جهلاء، أحكامهم جائرة، وآراؤهم قاصرة، يسفكون دماء مخالفيهم من المسلمين، ويجهلون الصحابة والعلماء. عن أنس رَضِي الله عنْهُ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سيكون في أمتي اختلاف وفرقة، قوم يحسنون القيل، ويسيئون الفعل، يقرؤون القرآن، لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية، لا يرجعون حتى يرتد السهم إلى فُوقه، هم شرار الخلق والخليقة، طوبى لمن قتلهم وقتلوه، يدعون إلى كتاب الله، وليسوا منه في شيء، من قاتلهم كان أولى بالله منهم، سيماهم التحالق». وقد خرجت هذه الفرقة في عهد الصحابة، وكفرت الصحابة، واستباحت دماء المسلمين، وأحدثت في الأمة بلاء كبيرًا.

 

- كيفية الخلاص من الفتن:

كان حذيفة يكثر من سؤال الرسول صلى الله عليه وسلم عن الفتن حتى لا يقع فيها، ففي صحيح البخاري عن حذيفة قال: "كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله، إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: «نعم»، قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: «نعم، وفيه دخن»، قلت: ما دخنه؟ قال: «قوم يهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر»، قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: «نعم، دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم قذفوه فيها». قلت: يا رسول الله: صفهم لنا. قال: «هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا». قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: «تلزم جماعة المسلمين وإمامهم»، قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: «فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض بأصل شجرة، حتى يدركك الموت وأنت على ذلك» (رواه البخاري).

 

- كيف يتصرف المسلم في الحروب التي تثور بين المسلمين:

أرشد الرسول صلى الله عليه وسلم أمته إلى كيفية التصرف في مثل هذه الفتن التي تثور بين المسلمين، حيث يخفى الحق، وتضطرب الأمور، فقد دعا الرسول صلى الله عليه وسلم إلى اجتناب الصراع والقتال في مثل هذه الحال، والاعتزال في مكان ناء، يرعى الرجل الغنم في قمم الجبال، أو يجاهد الأعداء على حدود الدولة المسلمة، فإن وصلت إليه سيوف المتحاربين، فقد أمر بأن يمتنع عن الدفاع عن نفسه، ولو كان في هذا هلاكه.

وقد قال بعض الصحابة ممن لم يرَ القتال في الفتنة -وهم كل من ترك القتال مع عليّ بن أبي طالب في حروبه كسعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن عمر، ومحمد بن مسلمة، وأبي بكرة، وغيرهم- قالوا: يجب الكف حتى لو أراد أحد قتله لم يدفعه عن نفسه، ومنهم من قال: لا يدخل في الفتنة، فإن أراد أحد قتله دفع عن نفسه، وذهب جمهور الصحابة والتابعين إلى وجوب نصر الحق وقتال الباغين.

ولا شك أن تبين الحق والصواب في مثل هذه الظروف التي تقع فيها الفتن، وتظهر فيها الأهواء صعب جدًا، والأقرب إلى السلامة هو البعد والاعتزال، كيلا يصيب المسلمُ دمًا حرامًا، ولا يؤذي مسلمًا، والله أعلم بالصواب.

 

- بؤرة الفتن ومصدرها:

أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم بالجهة التي تهب منها رياح الفتن على الديار الإسلامية، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رأس الكفر نحو المشرق، والفخر والخيلاء في أهل الخيل والإبل والفدادين أهل الوبر، والسكينة في أهل الغنم» (رواه البخاري ومسلم). وعن عائشة رَضِي الله عنْها: «رأس الكفر ها هنا من حيث يطلع قرن الشيطان» (رواه البخاري).

وعن ابن عمر رَضِي الله عنْهُما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم بارك لنا في شامنا، اللهم بارك لنا في يمننا»، قالوا يا رسول الله: وفي نجدنا؟ فأظنه قال في الثالثة: «هناك الزلازل والفتن، وبها يطلع قرن الشيطان» (رواه البخاري).

وأصل النجد ما ارتفع من الأرض، وقال الخطابي: نجد من جهة المشرق، ومن كان بالمدينة كان نجده بادية العراق، ونواحيها وهي مشرق أهل المدينة، وأصل النجد ما ارتفع من الأرض، وهو خلاف الغور، فإنه ما انخفض منها، وتهامة كلها من الغور، ومكة من تهامة.

ولا شك أن العراق في جهة المشرق، وأنها تعد بالنسبة للمدينة نجداً، وهذا ما فقهه سالم بن عبد الله بن عمر، فعندما كان أهل العراق يرتكبون العظائم ويسألون عن التوافه من الأمور، قال لهم سالم: "يا أهل العراق، ما أسألكم عن الصغيرة، وأركبكم للكبيرة! سمعت أبي يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الفتنة تجيء من ها هنا» وأومأ بيده نحو المشرق: «من حيث يطلع قرنا الشيطان»، وأنتم يضرب بعضكم رقاب بعض" (رواه مسلم).

ومن استقرأ التاريخ علم أن الفتن كانت تهب على الأمة الإسلامية والعالم الإسلامي من جهة المشرق، فمنها ثارت الفتنة التي أدت إلى مقتل الخليفة الراشد عثمان، ومنها خرجت فرقة الحرورية المارقة: الخوارج، وبقيت رياح الخوارج تعصف بالأمة في العهد الأموي، وبها قامت ثورة الزنج في عام 255هـ بالبصرة، وفي عام 278هـ انبعثت منها حركة القرامطة، ومن اطلع على ما أحدثه الزنج والقرامطة في الأمة الإسلامية يذهل مما ارتكبوه من فظائع. وليس المشرق قصرًا على العراق، فمن الشرق هبت رياح التتار، وسيبقى الأمر كذلك إلى أن تأتي رايات الدجال، من خراسان كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم.

(من كتاب: القيامة الصغرى)