أصنام العبادة وأوثان الاتباع
أبو محمد بن عبد الله
هناك شركٌ يُسمَّى "شرك الاتِّباع"، ليس مَن شرطه أن يركع المشركون لشركائهم ويسجدون، أو يذبحون لهم، أو يطوفون بهم! وإنما هو شرك الطاعة والاتِّباع فيما يخالف شريعة الله ويناقضها!
- التصنيفات: الشرك وأنواعه - قضايا إسلامية معاصرة - أحداث عالمية وقضايا سياسية -
اللطيفة الرابعة: العبادة والاتِّباع
ولا زلنا مع رابعة من لطائف: يَهَدِّي ، التي في قوله تعالى: {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ، قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ، وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} [يونس:34-36].
إضافة إلى كل ما سبق؛ فإن في الآية لفظة ذات دلالة بليغة، تشمل كل {من لا يَهْدِي ولا يهتَدِي}، إلا بإذن الله تعالى ثم يُنصِّب نفسه هاديًا... سبحانك ربي ما أعلمك.. ما أحكمك!
{أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يُتبعَ أمن لا يهدِّي؟}، فما قال- سبحانه- "أحق أن يُعبَد" وهو يتكلم عن الشركاء الذين يُعبَدون من دون الله! وإنما قال: {يُتَّبَع} رغم أنه ذكر في صدر الآية الشركاء. فعبَّر باتباع الشركاء من دون الله، ولم يُعبِّر بالعبادة!
فهناك شركٌ يُسمَّى "شرك الاتِّباع"، ليس مَن شرطه أن يركع المشركون لشركائهم ويسجدون، أو يذبحون لهم، أو يطوفون بهم! وإنما هو شرك الطاعة والاتِّباع فيما يخالف شريعة الله ويناقضها!
فليست من عندي، فالله سبحانه هو الذي قال عن الإله: {أحق أن يُتَّبع}، ولم يقل: "أحق أن يُعبَد".
ويكفينا هنا أن نعود إلى قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}[براءة:31]، والأحبار والرهبان بشر يَعْقِلون، وليسوا أصنامًا من حجر أو شجر أو تمر!
اتّخذوهم أربابًا مع الله أو من دونه، فوقعوا في الشرك بعبادتهم من دون الله تعالى أو معه، ولذلك الآية ذُكر فيها الربوبيةُ والعبادة، وخُتِمت بتنزيه الله عن شرك الشركاء: {سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}. ولم يكونوا يسجدون لهم أو يركعون أو يصلون أو يدعونهم من دون الله سبحانه.
ففيم تمثلت هذه الربوبية؟! وفيما تمثلت العبودية لهم؟! وفيما تمثل هذا الشرك بهم إذن؟!
قلنا: تمثل في شرك "الطاعة والاتِّباع" موافقًا للفظ الآية.
وما أنا بالذي يفسرها بغير مستنَد، بل الذي فسَّرها بهذا هو النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقد جاء عدي بن حاتم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وكان قد دان بالنصرانية قبل الإسلام؛ فلما سمع النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقرأ هذه الآية: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون}؛ قال: يا رسول الله؛ إنهم لم يعبدوهم! فقال: «بلى؛ إنهم حرموا عليهم الحلال وأحلوا لهم الحرام فاتبعوهم فذلك عبادتهم إياهم» (انظر: الألباني، غاية المرام في تخريج أحاديث الحلال والحرام، ص 19، حديث رقم:[6]). فقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم عبادتهم وشركهم بالاتِّباع في شرائعهم وقوانينهم المناقضة لشريعة الله تعالى.
وعن أبي البختري، في قوله تعالى: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله}، قال: "أطاعوهم فيما أمروهم به من تحريم حلال وتحليل حرام، فعبدوهم بذلك"(انظر: أبا بكر بن أبي شيبة، مصنف ابن أبي شيبة، 7/ 156).
تلاحظ في الحديث وفي آثار السلف، أنهم لم يربطوها باستحلال ولا جحود كما يصرُّ عليه أهل الإرجاء؛ مخالفين بذلك إجماع المسلمين! وورد تفسيرها بالطاعة والاتِّباع عن حذيفة وغيره من السلفرحمهم الله تعالى ورضي عنهم.
فالآية {أحق أن يُتبع} لا تقتصر على الأصنام القديمة، وإنما تشمل أيضًا الذين يضعون للناس شرائعَ تُتَّبع، يريدون بها هداية الناس، وهم لا يهتدون بها لخير الدنيا ولا لخير الآخرة، فكيف يهدون بها غيرهم؟
كحال فرعون الأول الذي قال: {ما أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ}[غافر:29]، و{وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى} (79)"[طه:79]، {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ}[هود:98].
وعلى سنن فرعون الأول سارت الفراعنةُ التوالي! ومن الكأس الذي شَرِبَ يشرون، وإلى النهاية التي ورد سَيَرِدون!
قال الشيخ الألباني رحمه الله: "الطائفة الثالثة: وهم الذين يطيعون ولاة الأمور فيما يشرعونه للناس من نظم وقرارات مخالفة للشرع كالشيوعية وما شابهها، وشرهم من يحاول أن يظهر أن ذلك موافق للشرع غير مخالف له. وهذه مصيبة شملت كثيرًا ممن يدعي العلم والإصلاح في هذا الزمان، حتى اغتر بذلك كثير من العوام، فصح فيهم وفي متبوعيهم الآية السابقة {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله}، نسأل الله الحماية والسلامة"( الألباني، السلسلة الصحيحة، 1/354 حديث: 182)، فإذا كان في الصالحين فكيف بالطالحين؟
فهذا توحيد الطاعة والاتِّباع، من خصَّه بالله تعالى وأخلص له فيه؛ فقد استكمل التوحيد، ومن اتبع فيه غيره فقد خاب وخسر، قال ابن أبي العز رحمه الله-: "فهما توحيدان، لا نجاة للعبد من عذاب الله إلا بهما: توحيد المُرْسِل، وتوحيد متابعة الرسول، فلا نحاكم إلى غيره، ولا نرضى بحكم غيره"(ابن أبي العز، شرح العقيدة الطحاوية، ص: 200).
وقال ابن باز رحمه الله: "فلا يتم إيمان العبد إلا إذا آمن بالله، ورضي حكمه في القليل والكثير، وتحاكم إلى شريعته وحدها في كل شأن من شئونه، في الأنفس والأموال والأعراض، وإلا كان عابدًا لغيره، كما قال تعالى : {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ }، فمن خضع لله سبحانه وأطاعه وتحاكم إلى وحيه، فهو العابد له، ومن خضع لغيره، وتحاكم إلى غير شرعه، فقد عبد الطاغوت، وانقاد له" (عبد العزيز بن باز، وجوب تحكيم شرع الله ونبذ ما خالفه، 4.).
ويتبع إن شاء الله بلطيفة خامسة
ولا بأس أن نُذَكِّر بأن هذه اللطائف تابعة لتشديدة الأصل:لطائف يَهَدِّي
واللطيفة الأولى: الأوثان الحيَّة والأصنام العاقلة.
واللطيفة الثانية: أصنام بلا أجسام.
واللطيفة الثالثة: أوثان آخر الزمان!
وهذه اللطيفة الرابعة: أصنام العبادة وأوثان الاتباع.
ويتبع إن شاء الله بخامسة: عجائب حرفين!