القول الوسط في: (أين يُضحِي المُضحِي)؟
القول الوسط في هذه المسألة والعلم عند الله: هو الجمع بين الأمرين: (إقامة الشعيرة وإرسالها للخارج)؛ ويكون ذلك: بأن يذبح المسلم أضحيته في بيته، ويجزئ البيت أو البيوت المجتمعة أضحية واحدة -من حيث الشهود لا من حيث الإجزاء عن المُضحِي، فكما هو معلوم أن الذبيحة الواحدة تجزئ عن الرجل وأهل بيته فقط- يشهدونها ويحيون بها الشعيرة وينالون الفضل المترتب عليها من أكل وإطعام وإهداء وصدقة، وبقية الأضاحي والوصايا لا بأس أن تُرسل للخارج، وهذا القول هو أوسط الأقوال، ولعله الراجح بإذن الله، وهو قول الشيخ الفقيه محمد المختار الشنقيطي رحمه الله من المعاصرين الذي رأيه: أن الوصايا والنذور وما فّضُلَ من الأضاحي لا بأس بإرسالها، وينكر خلوَّ البيت من إقامة الشعيرة.
- التصنيفات: الحث على الطاعات - ملفات الحج وعيد الأضحي -
بسم الله الرحمن الرحيم
قال تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر:3]، وقال: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . لَا شَرِيكَ لَهُ ۖ وَبِذَٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162-163]، وقال: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لِّيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ ۗ فَإِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا ۗ وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ} [الحج:34].
وهي سنة ثابتة؛ فقد ورد في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحّى بكبشين أملحين، وهي بالإجماع من شعائر الإسلام الظاهرة، ومن المشروع فيها: "عن علي ابن أبي طالب رضي الله عنه قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقوم على بدنه، وأن أقسم لحومها وجلودها وجلالها على المساكين" (متفق عليه).
واختلف الناس في أيهما أفضل أن يُضحِي المُضحِي في بلده أم يوكل من يذبحها له في خارج البلاد؟
اختلف العلماء في المسألة، فمن قائل يُضحِي في بلده وهو الأفضل، وآخرون يقولون يوكل من يذبحها له خارج البلاد لحاجة المسلمين الماسة إليها، وهو الأفضل، والمفضول قد يكون فاضلًا في بعض الأحيان.
* وقبل أن أذكر القول الوسط في هذه المسألة، أُنبِّه لأمور:
1- خلاف العلماء في المسألة هو من حيث الفضل وليس من حيث إجزاء الأضحية من عدمها.
2- من حيث الأصل، لا خلاف أن الأفضل هو أن يتولّى المُضحِي ذبح أضحيته بنفسه وأن يأكل منها ويهدي ويتصدّق.
3- قد يُفضِّل بعض العلماء في بعض الأوقات الأضحية خارج البلاد للحاجة الماسة إليها كما في هذا الوقت مثلًا، ففي سوريا؛ بالرغم من كثرة الإنفاق والصدقات إلا أن حاجة الناس للأكل ما زالت باقية، ناهيكم عن أن المنفق حال دفعه نفقته لا بُد أن يُفاضل بين دفعها للمجاهدين وبين دفعها للفقراء المعوزين، ودفعها للمجاهد أولى كما يُقرِّر ذلك أهل العلم. وفي غيرها من البلاد حاجة الناس شديدة، لا سيما إلى الدعوة إلى الله وتعليمهم شرائع الإسلام، ولا يتحصل هذا إلا بإطعامهم، ومن عمل في العمل الدعوي يعلم أثر الإغاثة في الدعوة إلى الله.
يعترض البعض على هذا، بأن ما ذكرتموه صحيح، ولكن هذا يكون من التبرعات لا الأضحية، فيقال: واقع الأمر أن الكفاية لم تتحقق لا من التبرعات ولا غيرها.
* والقول الوسط في هذه المسألة والعلم عند الله:
هو الجمع بين الأمرين:
إقامة الشعيرة وإرسالها للخارج.
ويكون ذلك بأن يذبح المسلم أضحيته في بيته، ويجزئ البيت أو البيوت المجتمعة أضحية واحدة -من حيث الشهود لا من حيث الإجزاء عن المُضحِي، فكما هو معلوم أن الذبيحة الواحدة تجزئ عن الرجل وأهل بيته فقط- يشهدونها ويحيون بها الشعيرة وينالون الفضل المترتب عليها من أكل وإطعام وإهداء وصدقة، وبقية الأضاحي والوصايا لا بأس أن تُرسل للخارج، وهذا القول هو أوسط الأقوال، ولعله الراجح بإذن الله، وهو قول الشيخ الفقيه محمد المختار الشنقيطي رحمه الله من المعاصرين الذي رأيه: أن الوصايا والنذور وما فّضُلَ من الأضاحي لا بأس بإرسالها، وينكر خلوَّ البيت من إقامة الشعيرة.
فلو التزم الناس بهذا، حققوا المصلحتين، مصلحة إحياء الشعيرة وشهودها، ومصلحة إعانة المحتاجين وسد حاجة المعوزين، ودرؤا مفسدة غياب الشعيرة وإماتتها، بل حققوا مصلحة عظيمة جدًا؛ أَلا وهي:
* إحياء الشعيرة في بلدان وأماكن ربما لو لم تُقم عندهم هذه الشعيرة بهذه الهيئة لاندرست هذه الشعيرة ونسيها الناس لفقرهم وعجزهم من أن يُضحوا، وأي أجر أعظم من أن تُحيي الشعيرة في تلك البلاد، وأن تكون سببًا في الحفاظ عليها في جميع أرجاء الأرض.
ولو قيل بأن إقامة شعائر الإسلام الظاهرة في تلك البلاد فرض كفاية على الأمة لما كان هذا بعيدًا.
* وفيما يخص سوريا تحديدًا، فقد عَدَّ كثير أهل الشأن إرسال الأضاحي إلى الشام من الضروريات في الجهاد، وأنه في بعض الأماكن مما لا يتم واجب الجهاد إلا به، فالله الله في إخوانكم المجاهدين، أعينوهم في جهادهم، وقفوا معهم.
وفي ترتيب أولويات الإنفاق يذكر العلماء أن الإنفاق على المجاهدين يأتي في المرتبة الأولى، وذلك أن بيضة المجاهد إذا استبيحت استبيح ما بعدها، فيحصل بسبب ذلك من الأضرار والمفاسد في الدين والدنيا ما تعجز العقول عن مجرد التفكير فيه أو تخيله.
فيا أيها المسلمون! أفإن قال لكم المجاهدون: نريد لحمًا، تقولون: لا؟
أفإن قال لكم المجاهدون: إن لنا نساء وأطفالًا جياع، لا يجدون ما يشبعهم، أصبح الجوع ضيفًا ثقيلًا عليهم يمسي معهم ويصبح. أفإن قالوا لكم: إنهم ينتظرون هذا اليوم منذ أشهر طويلة لتوديع ذلك الضيف الثقيل لعدة أيام، تقولون: لا!
إن المنتظر من أهل الإسلام فيما يخص الشام تحديدًا، ألا يسألوا أين يُضحوا، وإنما أن يزيدوا من أضحياتهم إلى أهل الشام، فمن كان سيُضحِي بواحدة يضيف إليها أخرى لأهل الشام، وأن يدفعوا أموالهم إليهم، فهذه الحوادث والأزمات؛ أزمات استثنائية، تُستنهض بها الأمة، فإن كانت أمة بقيت، وإلا...!
وحتى لو قيل في الأضحية، إن الأفضل أن يُضحِي المرء في بيته، وكان أهل الشام يستنصرون لوجب الانتقال من الفاضل للمفضول.. والله المستعان.
* ويشبه إرسال الأضحية في الخارج من حيث عدم شهود الشعيرة تكليف المؤسسات المحلية ذبح الأضحية وإيصالها للبيت لحمًا مقطعًا، فكأن أهل البيت اشتروا لحمًا كما يشترون دائما، أما صبح يوم العيد فقد قضوه في النوم! وهؤلاء فَضلوا على من ذبح أضحيته في الخارج أنهم أكلوا منها.
* وأما من يحتاج إلى من يذبح له أضحيته فليحضره إلى البيت وليشهد هو وأهله الأضحية، فهذه من أهم المقاصد التي ضيعها كثير من الناس.
وفي إرسال الأضحية للخارج من التوسيع على الناس وإعانتهم على إحياء هذه الشعيرة العظيمة ما لا يخفى على الناس، فمع ارتفاع الأسعار؛ حتى أصبح الناس لا يجدون أُضحية بـ 1300 ريال، ووصلت قيمة الأضاحي إلى 1800 ريال و2000 ريال، وهذا المبلغ قد لا يُطيقه كثير من الناس، فبدلًا من أن يترك الأضحية ولا يُضحِي، وسَّع الله عليه بأنه يستطيع أن يُضحِي في الخارج 250 ريال!
** وفي الوصايا؛ بدلًا من أن تُذبَح أضحية واحدة عن المتوفى بـ 1500 ريال -على الأقل-، تستطيع بأقل من هذا المبلغ أن تذبح ثلاث أو أربع أضاحي مع إحياء مشاريع دعوية المسلمون بأمسِّ الحاجة إليها.
والمراد:
1- أن نُحيي شعيرة الأضاحي، ونشهدها في بيوتنا وبين أهلنا، ونَطعم منها ونُهِدي، ومن عجز أن يزيد أضحية لإخوانه المجاهدين أو المستضعفين في شتى أرجاء الأرض، فليتخفّف من الأضاحي التي يجتمع عليها الناس، إذ الشهود والأكل، وإظهار الشعيرة يحصل بالأقل.
2- أن نُعين إخواننا ونُرسِل ما فضل عن حاجتنا، وخصوصًا الوصايا والنذور ونحوها، فهذه المفترض أن تُرسل مُطلقًا.
3- من عَجز عن الأضحية في بلده لارتفاع الأسعار فلا يزهدن في إرسالها للخارج بحجة أن إرسالها للخارج أقل فضلًا، فإن هذا من عدم التوفيق، بل هو من الحرمان. والله المستعان.
4- توكيل من يذبح الأضحية في الخارج فرصة لبِرِّ من يستحق البِرّ؛ لا سيما من توفي من والديك، فوكّل من يذبح لهم؛ ولو لم يوصوك بهذا، فهذا باب خير فتح لك، فاحمد الله سبحانه على تيسيره.
والله أعلم.
عبد الرحمن الصبيح