جناح فراشة!

محمد علي يوسف

(قامت فراشة بهز جناحيها على حافة المياه في الصين، فإنها قد تتسبب في وقوع أعاصير في البرازيل أو في جزر الكاريبي)

  • التصنيفات: التاريخ والقصص - الواقع المعاصر -

لم يكن (جافريلو برينسيب) الشاب الصربي اليافع يعلم أن رصاصته التي اخترقت صدر الأرشيدوق (فرانز فرديناند) ستغير شكل الحياة على الأرض وستكون الشرارة التي يُقتل على إثرها ما يزيد عن عشرة ملايين من البشر!

ومهما كانت الأسباب التي دفعته لهذا الفعل وجعلته يطلق النار على ولي عهد النمسا أثناء زيارته لسراييفو فإنه قطعًا لم يكن يخطط لأن تقوم بسبب رصاصته واحدة من أكبر الحروب التي شهدتها الدنيا وتغيرت جغرافيا الدول والإمبراطوريات على إثرها.

الحرب العالمية الأولى: تلك الحرب التي دامت لسنوات وشهدت بعض أبشع المجازر الجماعية التي عرفتها البشرية والتي كانت شرارتها الأولى هي تلك الأزمة بين مملكة النمسا ومملكة صربيا والتي سرعان ما تحولت إلى إعلان حرب من الأولى على الأخيرة، ثم توالى انفراط العقد...

فخلال أيام انحازت روسيا إلى صربيا وأعلنت التعبئة العامة ومن ثم سارعت ألمانيا لإعلان الحرب على روسيا في اليوم التالي مباشرة، ثم أعلنت الحرب على فرنسا واجتاحت بلجيكا الأمر الذي دفع بريطانيا بدورها لدخول الحرب بسبب خرق الألمان حياد بلجيكا.

ثم كانت الحرب الشاملة بين قوات الحلفاء بقيادة فرنسا، والإمبراطورية الروسية، والإمبراطورية البريطانية، وصربيا، وإيطاليا، ورومانيا ثم بعد سنوات الولايات المتحدة من جهة، ومن جهة أخرى قوات المحور وهي النمسا، وألمانيا، وبلغاريا والدولة العثمانية.

بعض المؤرخين يعتقدون أن الحرب كانت لها أسباب أعمق يتعلق بعضها بعصبيات قومية مستعرة وسباقات محمومة من أجل المستعمرات وتكوين التحالفات العسكرية التي ستغير فيما بعد وجه التاريخ. لكن تظل الشرارة الأولى والبداية الرسمية للحرب هي تلك الرصاصة.

يشبه ذلك ما وقع قبل تلك الأحداث بمئات الأعوام في جزيرة العرب حينما قررت تلك الناقة الحمقاء أن تحل وثاقها وتلحق بحمى رجل من سادات العرب يقال له كُليب، فما كان من كليب هذا إلا أن (صغر مخه) وعمل عقله بعقل الناقة ورماها بسهم فنفرت والدم يثعب من جرحها حتى سقطت بين يدي صاحبها.

(كيف وكيف يقتل كُليب ناقتنا العزيز؟؟) هكذا كان لسان حال صاحب الناقة الذي نظر إلى جثتها متحسرًا وصاح: ياللذل.

ويبدو أن صاحب الناقة كان له ظهر وعزوة فجارته هي البسوس بنت منقذ التميمية بذات نفسها (ودي كانت ست واصلة شوية) فغضبت لغضبه وأجابت صرخته بصرخةٍ أسْمعتْ كلَّ أهل القبيلة قائلة: وا ذلاَّه! حتَّى جمعتْ الناس حولها ثم (سخنت) الدنيا بأبيات بليغة من الشعر أدت إلى أن يخرج أخوها جساس بن مرة عن شعوره (وهو بالمناسبة سيد آخر من سادات العرب ونسيب كليب اللي قتل الناقة الغبية).

المهم؛ جساس هذا تهور وقرر يستعين بصديقه عمرو بن الحارث ويلحقا بكليب (زوج أخته) ليلقنوه درسًا في احترام ناقة جارهم العزيز الذي رأى نفسه ذل في هذا الموقف. ويبدو أن الأمور تطورت والدرس قلب عملي وسالت دماء كليب مقابل دماء الناقة..

نعم... لقد قتلوا كليب طعنا بالرماح!!

طبعا (الزير سالم) وهو أخو القتيل لم يسكت وعشيرته قررت تنتقم ولم تفلح أي محاولات للإصلاح. ثم كانت الحرب... حربا دامت على قول جمهور المؤرخين لما يقارب الأربعين سنة قتل فيها من القبيلتين خيرة شبابهما ورجالهما وخسر الجميع حتى كان الصلح في النهاية.

وهذا كله بأي سبب يا مؤمن؟!

ناقة!

ناقة شردت.. سالت لأجلها الدماء عشرات السنين. تصور لو إن الناقة كانت (مربوطة كويس) أو كان صاحبها مشبعها بدل ما (يسيبها ترمرم) في أرض الجيران..

بلاش دي

طيب تصور كدة لو كان كُليب اكتفى بوكز الناقة لترجع إلى أرض صاحبها..

بلاش دي كمان

تصور لو أن جساس لم يتهور وقرر يتفاهم مع زوج أخته بدلا من أن يطعنه برمحه مباشرة..

تصور لو أن الأرشيدوق فرناند قد أصابته وعكة صحية جعلته يقرر تأجيل زيارته لسراييفو..

أو تصور لو أن الشاب الذي قتله لم يكن يجيد التصويب أو إنه (اتكعبل) وهو نازل على السلم ورايح يغتال ولي العهد أو أنه حتى قد (تزحلق) في قشرة موز قرر أحد الناس إلقاءها في عرض الطريق فعطلته تلك (الزحلقة) لثوانٍ معدودات حتى مر موكب الأرشيدوق..

تصور لو أن البكباشي جمال عبد الناصر صبيحة يوم الثالث والعشرين من يوليو قد مر بسيارته مسرعًا من تقاطع ما فارتطم بسيارة أخرى عطلته عن موعده مع باقي الضباط الأحرار لإنهاء إجراءات الانقلاب أو الثورة أو أيا كان الاسم الذي تفضله..

أو تصور لو أن زوجة أحد هؤلاء الضباط كانت قد ثرثرت مع جارتها عن موعد الانقلاب فتم إنهاء الحراك في مهده بعد تسرب الخبر..

تصور وتصور وتصور لا لتفتح عمل الشيطان الذي يبدأ بـ(لو) ولكن لتدرك أنه لا شيء في هذا الكون يسير عشوائيًا

{إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49] هكذا قال ربنا وهكذا ينبغي أن نعتقد. الله وحده يعلم ما كان لو لم يكن كيف كان سيكون والله وحده يعلم مآل تلك التصورات السابقة، لكن اليقين أنه لا شيء منها يجري عبثًا.

يسمي المفكرون والأدباء المعاصرون تلك الأشياء البسيطة التي تؤدي لتغيرات كبيرة أو يؤدي انعدامها لتغيرات أخرى باسم لطيف؛ يسمونها بتأثير الفراشة butterfly effect

(قامت فراشة بهز جناحيها على حافة المياه في الصين، فإنها قد تتسبب في وقوع أعاصير في البرازيل أو في جزر الكاريبي)

هذا المثال ضربه عالم الأرصاد الجوية (إدوارد لورينز) لتفسير الاختلالات والاختلافات المناخية التي تجري في العالم، وأطلق عليه مبدأ أثر جناح الفراشة The Butterfly Effect، ثم طور هذا المبدأ لنظرية تقول بأن (أي فعل رغم ما يبدو بساطته في الظاهر فإن له تأثيرا، وقد يتطور هذا التأثير تطورًا هائلاً غير متوقع). وكما في الفيزياء يمكن توظيف هذا المبدأ في التاريخ والسياسة.

إن التاريخ الانساني مليء بأحداث لها من التداعيات والعواقب ما يتخطى آثارها المباشرة المتوقعة، بما توجده وتستحدثه من تطورات وتغيرات جذرية على البنى والهياكل السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ولو بعد حين، سواء على المستوى المحلي أو الاقليمي والدولي وقد ضربت عدة أمثلة لها فيما سبق.

ولطالما كانت تلك التيمة السينيمائية تتكرر منذ سلسلة أفلام العودة إلى المستقبل والتي تعتمد دومًا على فكرة معينة وهي تغيير ضخم في الواقع أو المستقبل نتيجة لتفصيلة تافهة تغيرت في الماضي. البطل العائد إلى الماضي فيغير شيئًا بسيطًا أو ربما حتى ينسى حذاءه في الماضي فيجد حين عودته إلى المستقبل أن الدنيا قد تغيرت وأن ألمانيا مثلا قد انتصرت في الحرب العالمية الثانية وأن هتلر لم ينتحر مهزومًا ولكنه حكم العالم.

هذه الفكرة رغم ما فيها من خيال واسع قد يصل أحيانا إلى درجة من المبالغة إلا أنها تجعلك ببساطة عند تصورها تنتبه.. تنتبه إلى أن أي شيء تفعله أو تقوله قد يؤثر ويغير.. أن كل قرار وكل حركة وكل كلمة لها أثر ربما لا يزول بعد ذلك بسهولة.. أن اختيارًا بسيطًا قد يجعله الله سببًا لتغيير وجه الحياة التي نعرفها.. وأن ما يصنع فارقًا قد يكون شخصًا أو شيئًا واحدًا.. أو حتى جناح فراشة!!

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام