و‫استفتحوا..

محمد علي يوسف

وإن كل نصر أو تمكين أو تفريج نالته تلك الأمة أو الأمم السابقة إنما كان بفتحٍ من الفتاح.. فما الفرج إلا من عنده، وما فتح مغاليق الدنيا إلا بيده

  • التصنيفات: أعمال القلوب -

خائفًا يترقب! هكذا كان حاله حين خرج منها؛ لا يأمن على نفسه.. مُطارَد مستهدف مهدور الدم.. طريق طويل من مصر إلى أرض مدين وصحراء قاحلة عبرها وحده.. تُرى هل سيلحقون به؟!

هل ستمضي مؤامرتهم لقتله والخلاص منه؟! وكيف سيعيش هنا؟! وأين المأوى ومصدر الرزق وهو الذي عاش حياته لا ينشغل بكل ذلك.. لقد كان في مكانة أمير في البلاط الملكي؟!

الآن هو طريد شريد بلا مأوى أو ملاذ.. الأمور صارت معقدة والأسباب تكاد تكون مغلقة.. ما هذا التجمع الذي يبدو من بعيد؟!

أخيرًا سيشرب إذن.. بعد تلك الرحلة الطويلة ها هو ماء مدين يتزاحم عليه الناس..

لم تزل به قوة وعنفوان رغم الرحلة الشاقة التي دامت أيامًا وليال.. سيستطيع أن يرتوي ويملأ سقاءه..

لكن مهلًا.. ما لهاتين الفتاتين تذودان!! ضعيفتان هما لا تستطيعان مزاحمة الرعاء الذين لم يرحموا ضعفهما.. ما الذي يدفع بامرأتين لهذه المخاطرة وتلك المهمة القاسية..

- ما خطبكما؟!

- لا نسقي حتى يُصدر الرعاء وأبونا شيخٌ كبير.

إذن فهذا هو السر.. الأمر اضطراري والمهمة القاسية لا مناص عنها.

وإن المروءة خصلة متجذرة فيه، والشهامة طبعٌ لا يفارقه.. ها هو يزاحم الرعاة الغلاظ الشداد ويتحمل تدافعهم رغم إرهاقه الشديد بعد عناء السفر..

لم تمض دقائق إلا وقد عاد بسقاء الفتاتين ممتلئًا عن آخره، وانصرفت المرأة وأختها في حياء ممتن..

الآن اجتمعت كل عوامل الإرهاق والنصب البدني جنبًا إلى جنب مع هموم الإغلاقات التي تتكالب عليه.. إغلاقات لم تتسرب إلى قلبه المترع بأمل في الله..

ها هو يتولى إلى الظل في تسليمٍ وافتقار وعلى لسانه مناجاة لا يملك غيرها في تلك الظروف القاسية (رب إني لما أنزلت إلي من خيرٍ فقير)..

إلى غناك هو مفتقر.. وإلى قوتك هو ضعيف.. وإلى فضل جودك وسعة رحمتك هو راغبٌ مضطر.. فهل تراك تخيب ظنه؟

حاشاك حاشاك أن ترد سائلًا مفتقرًا..

ها قد جاء الفرج وهلَّ الخير على قدم الواردين.. ها قد جاء الفتح من عند خير الفاتحين.. فتحٌ لكل المغاليق السابقة.. فتحٌ في الأمن، وفتحٌ في الرزق، وفتحٌ في المأوى والسكن والمودة والرحمة.. فتحٌ تحدوه خطوات حيية جاءت تحمل البشرى..

- إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيتَ لنا.

فتحٌ لمغلاق الرزق الآني.. هو إذن ذلك الذي تبشر به تلك الفتاة الحيية.

- لا تخفْ نجوتَ من القومِ الظالمين.

فتحٌ لمغلاق الأمن يتبدى من كلمات الرجل الصالح والد الفتاتين وقد سمع منه القصص وأدرك ما ألم به من الظلمِ فأمّنه وطمأنه

- إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين.

لن تعود وحيدًا يا موسى فقد جاء فتح المودة والرحمة والسكنى لزوج حيية أكرمك الله بها وفتح لك.

- على أن تأجرني ثماني حجج فإن أتممت عشرًا فمن عندك.

إنه عقدٌ إذًا.. وظيفة مستقرة وعمل ثابت لسنوات تحددها أنت يا موسى.

أي فتحٍ هذا وأي فضل!! منذ ساعات كنتَ خائفًا تترقب تأوي إلى الظل مفتقرًا.. الآن قد أجرت وزوجت ووظفت وأمنت ونجوت..

وفتح لك.. لأنه الفتاح؛ الفتاح الذي يفتح مهما بلغت المغاليق، ويفرج مهما ضاقت واستحكمت حلقاتها..

يفتح حتى لو ظن كل الخلق أنه لا يفتح أبدًا.. حتى لو بلغ الاستيئاس مبلغه وظن الرسل أنهم قد كُذِبوا وتقطعت بهم الأسباب فإنه يفتح.. إنها الصفة التي تتجلى في تلك النهايات السعيدة

نعم.. مع الفتاح النهاية سعيدة في الدنيا أو في الآخرة.. المهم أن يعاملك بالفتح.. فإذا فتح كان فتحه مبينًا عظيمًا.

 

لقد بلغ الحزن بيعقوب عليه السلام مبلغه وابيضت عيناه منه فهو كظيم، ثم جاء الفتح.. واجتمع الشتيتان ورفعه ولده يوسف على العرش وظهر تأويل الرؤيا بالحق لأنه لم ييأس من روح الله

وعلم أنه يفتح.. وفتح!!

 

ولقد بلغ الكرب بأم المؤمنين عائشة مبلغه حتى أنها نسيت من شدته اسم نبي الله يعقوب وقالت: "لا أقول إلا كما قال أبو يوسف فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون"!

إنها الصديقة الحصان الرزان العفيفة التي لا تُزن برِيبة ورغم ذلك رُميت في عرضها وابتُليت هي وخير الخلق زوجها وصاحبه أبوها ووليها أشد البلاء لشهرٍ كامل..

ثم جاء ‫‏الفتح وظهرت البراءة بقرآنٍ يُتلى إلى يوم الدين.

 

وإن الإغلاق كان ماديًا حقيقيًا مع أصحاب الصخرة الذين أُغلق عليهم الغار.. صخرة تسقط من جبل وما أدراك بصخور تهوي في انهيار جبلي.. ربما لا تفتح أبدًا إلا بعد سنوات في انهيار جبلي آخر يجد الناس بعده ثلاثة هياكل عظمية قضوا نحبهم خلف تلك الصخرة.. لكنه فتح..

لقد أحسنوا الظن بالفتّاح ودعوه بصالحِ أعمالهم وأكثرها إخلاصًا وتجردًا فكانت الإجابة وكان الفتح.. وانفرجت الصخرة وخرجوا يمشون.

 

"إني مغلوبٌ فانتصر".. ثلاثُ كلماتٍ دعا بهن نوح عليه السلام في ذلك الموطن.. مئات السنين والقلوب مغلقة والآذان تسدها الأصابع والأعين عليها غشاوة وحجاب.. الوضع صار مغلقًا.. ونبي الله ووليه مغلوب!

(فانتصِر).. هكذا طلب.. وبهذا دعا.. فُتحت الحجب لهذا الدعاء فكانت أول كلمة بعده {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ . وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} [القمر:11، 12].

وانتصَر.. وفتح الله بينه وبين قومه بالحق، وهو خير الفاتحين.

 

وهكذا حدث مع شعيب عليه السلام.. تعقدت الأمور وازداد العنت وبلغ الفجور مبلغه بقومه حتى قرروا أن يخرجوه من قريتهم هو والذين آمنوا معه أو يكرهونهم على العودة إلى ملتهم.. أي ظلمٍ هذا؟! وأي استكبار وعلو قد وصلوا إلى دركاته: {قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} [الأعراف:88].

صمد شعيب عليه السلام ولم ينكسر لظلمهم، ولم يرضخ لبغيهم وقال: {أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ . قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُم بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا} [الأعراف:88، 89].

لكن الإغلاق قد بلغ أشده، والعنت قد وصل إلى منتهاه، والقوم يأبون إلا استضعافه والبطش به.. هنا يأتي الدعاء الفاصل ويرغب المظلوم في فتح مولاه.. هنا دعا شعيب: {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ} [الأعراف:89].

فجاءه الفتح.. وعامله الله باسمه الفتاح.. وفتح بينه وبين قومه بالحق {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ . الَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْبًا كَأَن لَّمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْبًا كَانُواْ هُمُ الْخَاسِرِينَ . فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ} [الأعراف:91- 93].

 

وإن كل نصر أو تمكين أو تفريج نالته تلك الأمة أو الأمم السابقة إنما كان بفتحٍ من الفتاح.. فما الفرج إلا من عنده، وما فتح مغاليق الدنيا إلا بيده

ولرب نازلةٍ يضيق لها الفتى *** ذرعًا وعندَ اللهِ منها المخرجُ

ضاقت فلما استحكمت حلقاتها *** فُرجت وكنتُ أظنها لا تفرجُ

و

سيفتحُ الله بابًا كنت تحسبهُ *** من شدةِ اليأسِ لم يُخلق بمفتاحِ

وكذلك في سائر النهايات السعيدة.. كربات وأحزان وتضييقات وإغلاقات.. ثم يأتي الفتح من خير الفاتحين الفتاح العليم

إنه الاسم الذي يبعث الأمل في النفوس المحبطة.. والصفة التي تبث البهجة في القلوب المكلومة الحزينة..

ألا فادعوه باسمه الفتاح.. و‫استفتحوا.

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام