كم من عذق دواح لأبي الدحداح
لحظة اتخاذ القرار عند أبي الدحداح، لحظة عجيبة تمر سريعًا علينا دون التفات، لحظة برقت فيها أنوار الجنة وفتحت أبوابها،
- التصنيفات: تربية النفس - سير الصحابة -
أناس قد يشبهوننا ونشبههم في الشكل أو اللسان، لكنهم حقيقة مختلفون عن الغالبية العظمى منا، نعم قد نتحدث كما يتحدثون وبين أيدينا القرآن الذي أنزل عليهم، وبيننا من يحفظه أكثر وأتقن مما حفظه معظمهم، وتوافر لدينا اليوم من وسائل العلم بأحاديث النبي وسنته بصورة أكثر وأيسر مما توافر لديهم، ولكن هناك بونًا شاسعًا دائمًا بيننا وبينهم في القيم والتصورات والأفكار التي تنطلق منها الأفعال وردود الأفعال، حساباتهم لم تكن كحساباتنا، فقلوبهم كانت مليئة بشيء خفى على كثيرٍ منا، عقولهم لم تكن كعقولنا في ترتيب أولوياتها، ويقيننا على المستوى الإجمالي لا يرقى مطلقًا إلى معشار يقينهم في الله سبحانه وفيما عنده.
نماذج فريدة يندر تكرارها ومواقف ساطعة ينبغي تأملها ودراستها والتفكر فيها، لأن العقل يقف عاجزًا عن استيعابها فضلًا عن اتخاذ القرار بمحاولة التأسي بها والسير على خطاها. فعن أنس بن مالك: أن رجلا قال: يا رسول الله! إن لفلان نخلة، وأنا أقيم نخلي بها، فمُره أن يعطيني إياها حتى أقيم حائطي بها. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أعطها إياه بنخلة في الجنة فأبى، وأتاه أبو الدحداح فقال: بعني نخلك بحائطي. قال: ففعل. قال: فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إني قد ابتعت النخلة بحائطي، فاجعلها له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فذكره. فأتى امرأته فقال: يا أم الدحداح! اخرجي من الحائط، فإني بعته بنخلة في الجنة. فقالت: قد ربحت البيع. أو كلمة نحوها. [1] وفي رواية عند أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: « » قَالَهَا مِرَارًا [2]، وروى مسلم من حديث جابر بن سمرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: « » [3]، وفي مسند أحمد: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « » قَالَهَا مِرَارًا [4].
ففي الموقف ثلاثة مشاهد متداخلة متتابعة ودروس نافعة:
- المشهد الأول مشهد رجل يأتي للنبي صلى الله عليه وسلم وهو يعرض عليه مشكلة خاصة به، أنه يملك عددًا من النخل ويريد أن يبني حائطًا (سورًا) يجمعها فإذا بنخلة جار له تعترضه فطلب شراءها من صاحبها فأبى. وهو مشهد عادي متكرر ولم تكن خصومة ولا مشكلة ضخمة، إنه أمر معتاد عن مزارعي كل بلد من تداخل الأرض والأشجار والثمار، والنبي صلى الله عليه وسلم حريص على عدم وجود أي شحناء أو بغضاء بين أنفس أصحابه، فكان يسرع في حله بأفضل الحلول وأعدلها حتى لا تتسع هوة الخلاف بين المؤمنين، ولهذا طلب من صاحب النخلة أن يبيعه إياها أو يمنحها له بمقابل نخلة في الجنة فأبى صاحب النخلة.
- لصاحب النخلة الحق الكامل في القبول والرفض طالما أنه يملكها، لوجود القرائن بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان عرضه ترغيبًا وليس أمرًا فلم يعزم عليه النبي ويأمره بأمر شرعي، بل كانت بمثابة شفاعة منه صلى الله عليه وسلم، ولم يغضب منه النبي بعد عدم امتثاله لأنها لو كانت أمرًا شرعيًا لوجب تنفيذه ولما جاز للمسلم رد أو تأخير أمره صلى الله عليه وسلم.
- لم يعتبر النبي صلى الله عليه وسلم ولم يعتبر أحد من الصحابة أن هذا الرجل من المنافقين، بل لم يتعرض له أحد لرفضه عرض النبي صلى الله عليه وسلم بنخلة في الجنة مقابل نخلته في الدنيا، ولم يتهمه أحد بحب الدنيا ولا الحرص عليها، فللنفوس نزعات ورغبات تحترم في الإسلام، وللنفوس شرة وفترة في الإنفاق والبذل بل في كل الطاعات، وللنفوس عيوبها ودروبها الخفية التي لا يعلمها إلا خالقها، والمال محبوب لكل نفس، وقدم في على البنين في القرآن لحب النفوس له، وخصص الجهاد به وقدم على الجهاد بالنفس في أكثر من سبع مواضع في القرآن الكريم، ولهذا يجب التروي إذا حدثت مواقف مشابهة، فلا يتهم أصحابها بجبن أو بخل فلعل في هذه النفوس خيرًا كثيرًا لم يحن وقت ظهوره.
- من الأدب الجم الذي يعلمه الصحابة لنا ضمنيًا دون أن يلفتوا نظرنا إليه مباشرة، وهو أنه إذا كان في الموقف التربوي النبوي نموذجان نموذج منهما فيه موقف خطأ أو به منقصة وموقف الثاني به موقف صحيح وفيه فضيلة، فكان دأبهم أن يصرحوا باسم صاحب موقف الفضيلة ويكتموا ما أمكنهم اسم صاحب المنقصة ففي هذا المثال مع ذكرهم لاسم أبي الدحداح في كل الروايات إلا أنهم كتموا اسم صاحب النخلة الذي رفض بيعها بنخلة في الجنة فقالوا: "إن لفلان نخلة"، فستروا اسمه بقولهم فلان، حتى لا ينتقصه المسلمون بعد ذلك في كل العصور وتصير مثلبة في حقه. وهذا من أدبهم الجم الذي تكرر في كثير من المواقف والذي رباهم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي يوم تبوك في الحديث الذي رواه وحكاه كعب بن مالك وفيه سؤال النبي صلى الله عليه وسلم عنه: «القلوب، والأمثلة غيره كثيرة.
» فقال رجل من بني سلمة: يا رسول الله، حبسه برداه ينظر في عطفيه. فقال له معاذ بن جبل: "بئس ما قلت، والله يا رسول الله ما علمنا إلا خيرًا". فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم [5]، وفيه التعريض بشخص القائل المعيب والتصريح باسم القائل المدافع، تأدبًا منهم وحرصًا على وحدة- لحظة اتخاذ القرار عند أبي الدحداح، لحظة عجيبة تمر سريعًا علينا دون التفات، لحظة برقت فيها أنوار الجنة وفتحت أبوابها، فمن يشتري داخل الجنة ملكًا ولو صغيرًا فإنه حتمًا سيدخلها لوجود ملك له فيها، فهو عقد ليس فيه حنث ولا ضيم، فهو عقد مع أوفى الأوفياء مع من اسمه الحق سبحانه القائل: {وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ} [التوبة:111]، فبكم يشتريها المؤمن، وهل يساوي كل ما يملك شيئًا في جوار هذا العقد؟ هذا ما التقطته الأذن الواعية التي شهدت هذا الموقف والتي استغلته جيدًا، وما كان ليتصور أبدًا أن تضيعه، إنها الجنة فلا محاباة ولا تنازل عنها ولا إيثار، فعبد الله بن حرام يقول لولده جابر: "إنها والله الجنة ولو كانت غيرها لآثرتك بها"، بعد أن استهما على من يخرج في غزوة أُحد للقتال ومن يكون في البيت ليقوم بشأن بنات عبد الله فكانت القرعة للأب، وهي الجنة التي لن يستطيع الأب والأم أن يعطيا ولدهما -رغم حبهما الكبير والفطري له- حسنة واحدة يوم القيامة فالكل يحتاج لحسنة لينجو من النار ويدخل الجنة.
وهنا لم يفكر أبو الدحداح في البستان وما يمثله له، وما يمثله هذا التبادل من خطأ تجاري فادح بمعيار أهل الدنيا، ولكن كل معايير أهل الدنيا تسقط بشراء نخلة في الجنة، فيساومه أبو الدحداح على بستانه كاملا بكل ما فيه من نخيل وثمار وبئر محفورة وبيت للسكنى وحائط يحفظه.. كل ذلك في مقابل هذه النخلة ويرجوه القبول، أنه لا يريد النخلة فعنده من النخيل ما يكفيه وما يزيد عليها ناتجًا وثمرًا، هو يريد ما وراءها، وهنا تحقق لهما العقد وربحا سويًا، ربح أحدهما حائطًا كبيرًا بنخيله وثماره، بينما ربح الآخر موضع قدم له في الجنة ليضمن دخوله فيها، فما أعظم ربح أبي الدحداح، فما أعظم ربح أبي الدحداح الذي ردده النبي صلى الله عليه وسلم مرارًا كم من عذق دواح لأبي الدحداح، كم من عذق دواح لأبي الدحداح.
- ونأتي للموقف الأكثر دلالة ورقيًا، لحظة أن يدخل أبو الدحداح على أم الدحداح طالبًا منها مفارقة بيتها وبستانها وأشجارها ونخيلها، فكانت على نفس المستوى الإيماني، لم تتردد ولم تناقشه ولم تخرج وهي ممتعضة من قراراه ولم تكن عونًا لنفسه عليه، بل تقبلت البيع بفرح، وأعانته على تنفيذه وشجعته قائلة: ربح البيع أو ربحت البيع، فكانت مثالًا مغايرًا لطبيعة نساء كثيرات، لكنها من نساء الصحابة اللاتي بعن ما يملكن إرضاءً لله، فهانت عليهن كل الممتلكات الدنيوية، فحالها مثل حالهن جميعًا يوم أن خرجن من حليهن لتجهيز جيش تبوك، وكحال من سألن النبي صلى الله عليه وسلم عن سبل الأجر لهن حيث اعتقدن أن الرجال قد ذهبوا بكل الأجر بالجمعة والجماعة والجهاد، لم يشغلنّ أنفسهم بتفاهات يسمونها اليوم بحقوق المرأة، فكنّ يعلمنّ أن الإسلام قد أجزل لهنّ العطاء وجعلهن مساوين للرجال تمامًا في التكليف والأجر مع اختصاصها ببعض التخفيف لطبيعتها التي خلقها الله عليها إنهن نساء الصحابة اللاتي شاركن في الجهات يسقين المقاتلين ويداوين الجرحى بل ويقاتلن أيضًا إذا حمي الوطيس واشتد الكرب، فمنهن من قتلت من يحوم حول حصنهن في الأحزاب، ومنهن من قتلت تسعة بعامود خيمتها، ومنهن من دافعت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الرجال في أعظم ملاحم المرأة في كل العصور. لم يربح أبو الدحداح وحده، بل ربح آل الدحداح جميعًا، فهنيئا لهم جميعًا، فكم أعد لهم من عذق دواح في الجنة.
ولا زالت الأمة تنتظر من كل متشبه بآل الدحداح ومن كل راغب فيما أعد لآل الدحداح من مزيد من الإنفاق ومن شراء لنخيل في الجنة فصاحب الوعد سبحانه لا يخلف وعده ولا ينفد نخيله
---------------------------------------------------
[1] أخرجه أحمد (3/146)، وابن حبان (2271- موارد)، والطبراني في المعجم الكبير (22/ 300/ 763) والحاكم (2/ 20)، ومن طريقه البيهقي (3 / 249 / 3451) والضياء المقدسي في المختارة (1/ 515) وذكره الشيخ الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها وفوائدها برقم 2946.
[2] في مسند أحمد وإسناده صحيح على شرط مسلم.
[3] جابر بن سمرة عند مسلم (965).
[4] مسند أحمد برقم 12482 في مسند أنس بن مالك.
[5] الحديث بطوله في البخاري 6/3، ومسلم 4/2120.
يحيى البوليني | 19/11/1435 هـ