هدي الحبيب في سفره وعبادته فيه (1)
أبو الهيثم محمد درويش
هديه صلى الله عليه وسلم حين سفره وكيفية صلاته أثناء السفر.
- التصنيفات: السيرة النبوية -
وكان يَقصُر الرُّبَاعية، فيصليها ركعتين مِن حين يخرُج مسافرًا إلى أن يرجع إلى المدينة، ولم يثبُت عنه أنه أتمَّ الرُّباعية في سفره البتة، وأما حديث عائشة: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقصُرُ في السفر ويتِمُّ، ويُفْطِرُ ويَصُومُ، فلا يَصحّ. وسمعتُ شيخ الإِسلام ابن تيمية يقول: هو كذب على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انتهى، وقد روي: كان يقصرُ وتتم، الأول بالياء آخر الحروف، والثاني بالتاء المثناة من فوق، وكذلك يُفطر ويَصوم، أي: تأخذ هى بالعزيمة في. الموضعين، قال شيخنا ابن تيمية: وهذا باطل ما كانت أم المؤمنين لِتُخالف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجميعَ أصحابه، فتصليَ خلاف صلاتهم، كيف والصحيح عنها أنها قالت: إن الله فرض الصلاة ركعتين ركعتين، فلما هاجرَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى المدينة، زِيد في صلاة الحضر، وأقرت صلاة السفر فكيف يُظن بها مع ذلك أن تُصليَ بخلاف صلاة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمسلمين معه.
قلت: وقد أتمَّت عائشةُ بعد موت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال ابن عباس وغيره: إنها تأوَّلت كما تأوَّل عثمان وإن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقصر دائمًا، فركب بعضُ الرواة من الحديثين حديثًا، وقال: فكان رسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقصر وتُتم هي، فغلط بعضُ الرواة، فقال: كان يقصُرُ ويُتِمُّ، أي: هو.
والتأويل الذي تأولته قد اختُلِف فيه، فقيل: ظنت أن القصر مشروط بالخوف في السفر، فإذا زال الخوف، زال سكبُ القصر، وهذا التأويل غيرُ صحيح، فإن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سافر آمِنًا وكان يقصرُ الصلاة، والآية قد أشكلت على عُمر وعلى غيره، فسأل عنها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأجابه بالشِّفاء وأن هذا صَدَقَة مِنَ اللهِ وشرع شرعه للأمة، وكان هذا بيانَ أن حكم المفهوم غيرُ مراد، وأن الجناح مرتفعٌ في قصر الصلاة عن الآمِن والخائف، وغايتُه أنه نوع تخصيص للمفهوم، أو رفع له، وقد يقال: إن الآية اقتضت قصرًا يتناول قصرَ الأركان بالتخفيف، وقصر العدد بنُقصان ركعتين، وقُيِّدَ ذلك بأمرين: الضرب في الأرض، والخوفِ، فإذا وُجدَ الأمرانِ، أبيحَ القصران، فيُصلُون صلاةَ الخوف مقصورة عددُها وأركانُها، وإن انتفى الأمرانِ، فكانوا آمنين مقيمين، انتفى القصران، فتصلُّون صلاة تامة كاملة، وإن وُجِدَ أحدُ السببين، ترتب عليه قصرُه وحدَه، فإذا وُجِدَ الخوف والإِقامة، قُصرت الأركان، واستوفي العدد، وهذا نوع قصر، وليس بالقصر المطلق في الآية، فإن وجد السفرُ والأمن، قُصِرَ العدد واستوفي الأركان، وسميت صلاة أمن، وهذا نوع قَصْرٍ، وليس بالقصر المطلق، وقد تُسمى هذه الصلاة مقصورة باعتبار نقصان العدد، وقد تُسمى تامة باعتبار إتمام أركانها، وأنها لم تدخل في قصر الآية، والأول اصطلاح كثير من الفقهاء المتأخرين، والثاني يدل عليه كلام الصحابة، كعائشة وابن عباس وغيرهما، قالت عائشة: فُرِضَتِ الصلاةُ ركعتين ركعتين، فلما هاجر رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى المدينة، زيد في صلاة الحضر، وأُقِرَّتْ صلاة السفر.
فهذا يدل على أن صلاة السفر عندها غيرُ مقصورة من أربع، وإنما هي مفروضة كذلك، وأن فرض المسافر ركعتان. وقال ابن عباس: فرضَ اللهُ الصَّلاَة على لِسان نبيكم في الحضر أربعًا، وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة متفق على حديث عائشة، وانفرد مسلم بحديث ابن عباس وقال عمر رضى الله عنه: صلاة السفر ركعتان، والجمعة ركعتان، والعيد ركعتان، تمامٌ غيرُ قصرٍ على لسان محمد، وقد خاب من افترى. وهذا ثابت عن عمر رضي الله عنه، وهو الذي سأل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما بالُنا نقصُر وقد أمِنَّا؟ فقال له رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «
».ولا تناقضَ بين حديثيه، فإن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما أجابه بأن هذه صدقةُ الله عليكم، ودِينُه اليسر السمح، علم عمرُ أنه ليس المرادُ من الآية قصرَ العدد كما فهمه كثير من الناس، فقال: صلاة السفر ركعتان، تمامٌ غير قصر. وعلى هذا، فلا دلالة في الآية على أن قصر العدد مباح منفي عنه الجناح، فإن شاء المصلي، فعله، وإن شاء أتم.