هدي الحبيب في سفره وعبادته فيه (2)
أبو الهيثم محمد درويش
هديه صلى الله عليه وسلم حين سفره وكيفية صلاته أثناء السفر.
- التصنيفات: السيرة النبوية -
وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُواظب في أسفاره على ركعتين ركعتين، ولم يُربِّع قطُّ إلا شيئًا فعله في بعض صلاة الخوف، كما سنذكره هناك، ونبين ما فيه إن شاء الله تعالى.
وقال أنس: خرجنا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من المدينة إلى مكة، فكان يُصلي ركعتين ركعتين حتى رجَعْنَا إلى المدينة. متفق عليه.
ولما بلغ عبد الله بن مسعود أن عثمانَ بن عفان صلَّى بمِنى أربعَ ركعات قال: إنَّا لله وإنَّا إليه راجِعون، صليتُ مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمِنى ركعتين وصليتُ مع أبي بكر بمِنى ركعتين، وصليتُ مع عمر بن الخطاب بِمنى ركعتين، فليت حظي مِن أربع رَكعاتٍ ركْعَتَانِ متقبَّلتَانِ (متفق عليه). ولم يكن ابنُ مسعود لِيسترجع مِن فعل عثمان أحد الجائزين المخيَّرِ بينهما، بل الأولى على قول، وإنما استرجع لما شاهده مِن مداومة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وخُلفائه على صلاة ركعتين في السفر.
وفي (صحيح البخاري) عن ابن عمر رضي الله عنه قال: صحبتُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكان في السفر لا يَزيد على ركعتين، وأبا بكر وعُمَر وعُثمان يعني في صدر خلافة عثمان، وإلا فعثمان قد أتم في آخر خلافته، وكان ذلك أحدَ الأسباب التي أُنكِرت عليه. وقد خرج لفعله تأويلات:
أحدها: أن الأعراب كانوا قد حجُوا تلك السنة، فأراد أن يُعلِّمَهم أن فرضَ الصلاة أربع، لئلا يتوهَّموا أنها ركعتان في الحضر والسفر، ورُدَّ هذا التأويلُ بأنهم كانوا أحرى بذلك في حج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكانوا حديثي عهد بالإِسلام، والعهدُ بالصلاة قريبٌ، ومع هذا، فلم يُربِّعْ بهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
التأويل الثاني: أنه كان إمامًا للناس، والإِمام حيث نزل، فهو عمله ومحل ولايته، فكأنه وطنه، ورُدَّ هذا التأويل بأن إمام الخلائق على الإِطلاق رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان هو أولى بذلك، وكان هو الإِمامَ المطلق، ولم يُربِّع.
التأويل الثالث: أن مِنى كانت قد بُنيت وصارت قرية كثر فيها المساكن في عهده، ولم يكن ذلك في عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بل كانت فضاءً، ولهذا قيل له: يا رسول الله ألا نبني لك بمِنى بيتًا يُظِلُكَ مِن الحر؟ فقال: «
». فتأوَّل عثمانُ أن القصر إنما يكون في حال السفر. هذا التأويلُ بأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أقام بمكة عشرًا يقصُر الصلاة.التأويل الرابع: أنه أقام بها ثلاثًا، وقد قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «
» فسماه مقيمًا، والمقيم غيرُ مسافر، ورُدَّ هذا التأويلُ بأن هذه إقامة مقيدة في أثناء السفر ليست بالإِقامة التي هي قسيم السفر، وقد أقام صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمكة عشرًا يقصُر الصلاة، وأقام بمِنى بعد نسُكه أيامَ الجمار الثلاث يقصُرُ الصَّلاة.التأويل الخامس: أنه كان قد عزم على الإِقامة والاستيطان بمِنى، واتخاذِها دارَ الخلافة، فلهذا أتم، ثم بدا له أن يَرجع إلى المدينة، وهذا التأويل أيضًا مما لا يقوى، فإن عثمانَ رضي الله عنه من المهاجرين الأولين، وقد مَنع صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المهاجرين من الإِقامة بمكة بعد نسكهم، ورخَّص لهم فيها ثلاثة أيام فقط، فلم يكن عُثمانُ لِيقيم بها، وقد منع النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من ذلك، وإنما رخَص فيها ثلاثًا وذلك لأنهم تركوها للّه، وما تُرِكَ للّه، فإنه لا يُعاد فيه، ولا يُسترجع، ولهذا منع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِن شراء المتصدِّق لصدقته، وقال لعمر: «
». فجعله عائدًا في صدقته مع أخذها بالثمن.التأويل السادس: أنه كان قد تأهَّل بمنى والمسافر إذا أقام في موضع، وتزوج فيه، أو كان له به زوجة، أتم، ويُروى في ذلك حديث مرفوع، عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فروى عكرمة بن إبراهيم الأزدي، عن ابن أبي ذُباب، عن أبيه قال: صلى عثمان بأهل مِنى أربعًا وقال: يا أيُّها الناسُ! لما قَدِمتُ تأهَّلت بها، وإني سمعتُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «
» (رواه الإِمام أحمد رحمه الله في مسنده).