هديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في خطبه (1)

أبو الهيثم محمد درويش

كان يقوم فيخطب، ثم يجلِس جلسة خفيفة، ثم يقوم، فيخطب الثانية، فإذا فرغ منها، أخذ بلال في الإِقامة.

  • التصنيفات: السيرة النبوية -

وكان يمهل يوم الجمعة حتى يجتمعَ الناسُ، فإذا اجتمعوا، خرج إليهم وحدَه من غير شاويش يصيح بين يديه، ولا لبس طيلسان، ولا طرحة، ولا سواد، فإذا دخل المسجد، سلَّم عليهم، فإذا صَعِد المنبر، استقبل الناسَ بوجهه، وسلَّم عليهم، ولم يدع مستقبلَ القبلة، ثم يجلِس، ويأخذ بلالٌ في الأذان، فإذا فرغ منه، قام النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فخطب من غير فَصلٍ بين الأذان والخطبة، لا بإيراد خبر ولا غيره.

ولم يكن يأخذ بيده سيفًا ولا غيرَه، وإنما كان يعتَمِد على قوس أو عصًا قبل أن يتَّخذ المنبر، وكان في الحرب يَعتمد على قوس، وفي الجمعة يعتمِد على عصًا. ولم يُحفظ عنه أنه اعتمد على سيف، وما يظنه بعض الجهال أنه كان يعتمد على السيف دائمًا، وأن ذلك إشارة إلى أن الدين قام بالسيف، فَمِن فَرطِ جهله، فإنه لا يُحفظ عنه بعد اتخاذ المنبر أنه كان يرقاه بسيف، ولا قوس، ولا غيره، ولا قبل اتخاذه أنه أخذ بيده سيفًا البتة، وإنما كان يعتمِد على عصا أو قوس.

وكان منبره ثلاثَ درجات، وكان قبلِ اتخاذه يخطُب إلى جِذع يستند إليه، فلما تحوَّل إلى المنبر، حنَّ الجِذْعُ حنينًا سمعه أهل المسجد، فنزل إليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وضمَّه قال أنس: حنَّ لما فقد ما كان يسمع من الوحي، وفقده التصاق النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

ولم يُوضع المنبر في وسط المسجد، وإنما وضع في جانبه الغربي قريبًا من الحائط، وكان بينه وبين الحائط قدر ممر الشاة. وكان إذا جلس عليه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غير الجمعة، أو خطب قائمًا في الجمعة، استدار أصحابُه إليه بوجوههم، وكان وجهه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِبلَهم في وقت الخطبة.

وكان يقوم فيخطب، ثم يجلِس جلسة خفيفة، ثم يقوم، فيخطب الثانية، فإذا فرغ منها، أخذ بلال في الإِقامة. وكان يأمر الناس بالدنِّو منه، ويأمرهم بالإِنصات، وتخبرهم أن الرجل إذا قَالَ لِصاحبه: أَنْصِت فَقَدْ لَغَا. ويقول: «مَنْ لَغَا فَلاَ جمُعَة لَهُ». وكان يقول: «مَن تَكَلَّمَ يَوْمَ الجمُعَة والإِمامُ يَخْطُبُ، فَهُوَ كَمَثَلِ الحِمَارِ يَحْمِلُ أَسفَارًا، والَذِي يَقُولَ لَه: أنْصت لَيْسَت لَهُ جُمُعَة» (رواه الإِمام أحمد).


وقال أبي بن كعب: قرأ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم الجمعة (تبارك) وهو قائم، فذكَّرنا بأيَّام الله، وأبو الدرداء أو أبو ذر يَغمِزُني، فقال: متى أُنزِلَتْ هذه السورة؟ فإني لم أسمعها إلى الآَن، فأشار إليه أن أسكت، فلما انصرفوا، قال: سألتُك متى أُنزلت هذه السورة فلم تخبرني، فقال: إنّه ليحسن لك من صلاتك اليوم إلا ما لغوتَ، فذهب إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فذكر له ذلك، وأخبره بالذي قال له أُبي، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «صَدَق أبيُّ». (ذكره ابن ماجه، وسعيد بن منصور، وأصله في مسند أحمد).

وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَحْضُر الجُمُعَة ثَلاثَةُ نَفَر: رَجُلٌ حَضرَها يَلغُو وَهُوَ حَظُه منها، ورَجُلٌ حَضَرَها يَدْعو، فَهُوَ رَجُلُ دَعا الله عَزَّ وَجَلَّ إن شَاءَ أَعْطَاهُ، وإنْ شَاءَ مَنَعَهْ، وَرَجلٌ حَضَرهَا بإنْصاتٍ وَسُكُوتٍ، وَلَمْ يَتَخَطَّ رَقَبَةَ مُسْلِمٍ، وَلَمْ يُؤْذِ أحدًا، فَهي كَفَّارَةٌ له إلى يَوْمِ الجُمُعَةِ التي تَليها، وَزيادَة ثَلاثَةَ أيْامٍ، وَذَلِكَ أن الله عزَّ وجَلَ يقول: {مَن جَاءَ بِالحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أمثَالِها} [الأنعام:160]»، (ذكره أحمد وأبو داود).