(2) مصطلح (الإصلاح)
سليمان بن صالح الخراشي
نتحدث اليوم عن مصطلح (الإصلاح) الذي شاع ذكره وكثر تداوله في وسائل الإعلام هذه السنوات القريبة لا سيما في بلاد التوحيد
- التصنيفات: الواقع المعاصر -
نتحدث اليوم عن مصطلح (الإصلاح) الذي شاع ذكره وكثر تداوله في وسائل الإعلام هذه السنوات القريبة لا سيما في بلاد التوحيد؛ فلا يكاد يمر أسبوع أو أسبوعان أو شهر على أكثر تقدير إلا ونسمع عن ندوة تعقد عن (الإصلاح)، أو مقال يُحبر في (الإصلاح).. وهكذا. فكلٌ يدعي وصلاً بهذا (الإصلاح) مهما اختلفت المشارب أو التوجهات؛ مما أحدث ربكة في أذهان المتابعين، وعجبًا كثيرًا عندما يرون التباين الواضح والمتناقض بين مدعي (الإصلاح)؛ مما أورث تساؤلاً لديهم عن: من (المصلح) الحقيقي من هؤلاء المدعين؟! لأن (الإصلاح) مصطلح مجمل يستعمله المصلح والمفسد في آن واحد. وكما قال ابن القيم رحمه الله: "أصل بلاء أكثر الناس من جهة الألفاظ المجملة التي تشتمل على حق وباطل" (شفاء العليل:1/324). وقال أيضًا: "أصل ضلال بني آدم: الألفاظ المجملة، والمعاني المشبهة، ولا سيما إذا صادفت أذهانًا مخطبة" (الصواعق:3/927).
قلت: ومصطلح (الإصلاح) في القرآن الكريم نوعان:
1- الإصلاح الصادق؛ وهو إصلاح الأنبياء والرسل وأتباعهم؛ ممن يدعو إلى توحيد الله وعبادته، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وأن تنتشر الطاعات والخير، وتندثر السيئات والشر. قال الشيخ ابن سعدي في تفسيره (1/51): "الإصلاح في الأرض أن تعمر بطاعة الله والإيمان به؛ لهذا خلق الله الخلق وأسكنهم الأرض". ومن هذا الإصلاح الحق ما قاله شعيب عليه السلام لقومه {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ} [هود:88]. ثم نهاهم عن الإفساد المضاد للإصلاح: {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا} [الأعراف:85]. قال ابن كثير في تفسيره (2/231): "فإنه إذا كانت الأمور ماشية على السداد، ثم وقع الإفساد بعد ذلك؛ كان أضر ما يكون على العباد".
وهذا الإصلاح الصادق إذا كثر حملته وظهروا وتصدروا الأمة كان ذلك أمنة بإذن الله أن تصيبهم العقوبة ويعمهم الهلاك؛ كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود:117]. قال الطبري في تفسيره (15/530): "يقول تعالى ذكره: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ} يا محمد {لِيُهْلِكَ الْقُرَى} التي أهلكها، التي قص عليك نبأها ظلمًا {وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} في أعمالهم، غير مسيئين، فيكون إهلاكه إياهم مع إصلاحهم في أعمالهم وطاعتهم ربهم؛ ظلمًا. ولكنه أهلكها بكفر أهلها بالله، وتماديهم في غيهم، وتكذيبهم رسلهم، وركوبهم السيئات".
2- الإصلاح الكاذب: وهو إصلاح المنافقين والمفسدين ممن يُلبسون على الأمة بتسمية إفسادهم إصلاحاً! كما قال تعالى عن أسلافهم {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} [البقرة:11] لكن الدعاوى لا تنفع أصحابها إن لم تكن حقيقة؛ ولذا رد الله عليهم وبين كذبهم بقوله {أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ} [البقرة:12]. قال الطبري رحمه الله في تفسيره (1/289-290): "والإفساد في الأرض: العمل فيها بما نهى الله جل ثناؤه عنه، وتضييع ما أمر الله بحفظه، فدلك جملة الإفساد.. فكذلك صفة أهل النفاق: مفسدون في الأرض بمعصيتهم فيها ربّهم، وركوبهم فيها ما نهاهم عن ركوبه، وتضييعهم فرائضه، وشكهم في دين الله الذي لا يقبل من أحد عملاً إلا بالتصديق والإيقان بحقيقته، وبمظاهرتهم أهل التكذيب بالله وكتبه ورسله على أولياء الله إذا وجدوا إلى ذلك سبيلا؛ فذلك إفساد المنافقين في أرض الله، وهم يحسبون أنهم بفعلهم ذلك مصلحون فيها".
وقال في تفسير قوله تعالى: {أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ} (1/291): أي "المخالفون أمر الله عز وجل، المتعدون حدوده، الراكبون معصيته، التاركون فروضه". وذكر ابن الجوزي في تفسيره (زاد المسير:1/32): أن فسادهم هو: (الكفر) و(العمل بالمعاصي) و(النفاق).
وقال القرطبي في تفسير قول المنافقين {إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} (1/204): "إنما قالوا ذلك على ظنهم؛ لأن إفسادهم عندهم إصلاح". وقال الراغب: تصوروا إفسادهم بصورة الإصلاح؛ لما في قلوبهم من المرض؛ كما قال تعالى: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا} [فاطر:8]، وقوله: {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:43]، وقوله: {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف:104].
وقال القاشاني: "كانوا يرون الصلاح في تحصيل المعاش وتيسير أسبابه، وتنظيم أمور الدنيا -لأنفسهم خاصة- لتوغلهم في محبة الدنيا"، أي على حساب الدين. (انظر: محاسن التأويل للقاسمي، 1/252). وقال ابن سعدي في تفسيره (1/50): "جمعوا بين العمل بالفساد في الأرض، وإظهار أنه ليس بإفساد بل هو إصلاح! قلبًا للحقائق، وجمعًا بين فعل الباطل واعتقاده حقًا. وهؤلاء أعظم جناية ممن يعمل بالمعاصي مع اعتقاد تحريمها، فهذا أقرب للسلامة، وأرجى لرجوعه".
وقال سيد قطب في الظلال (1/44): "والذين يفسدون أشنع الفساد ويقولون: إنهم مصلحون، كثيرون جدًا في كل زمان. يقولونها لأن الموازين مختلة في أيديهم. ومتى اختل ميزان الإخلاص والتجرد في النفس اختلت سائر الموازين والقيم. والذين لا يخلصون سريرتهم لله يتعذر أن يشعروا بفساد أعمالهم؛ لأن ميزان الخير والشر والصلاح والفساد في نفوسهم يتأرجح مع الأهواء الذاتية، ولا يثوب إلى قاعدة ربانية".
وقال الطاهر بن عاشور في تفسيره (1/284): "إفسادهم بالأفعال التي ينشأ عنها فساد المجتمع... فالإفساد في الأرض، منه: إفساد المساعي؛ كتكثير الجهل، وتعليم الدعارة، وتحسين الكفر، ومناوأة الصالحين المصلحين. ولعل المنافقين قد أخذوا من ضروب الإفساد بالجميع، فلذلك حذف متعلق (تفسدوا) تأكيدًا للعموم".
قلت: فليتنبه المسلم بعد هذا إلى الفرق بين الإصلاحين ؛ حتى لا ينخدع بدعاوى أهل النفاق لا كثّرهم الله.