(11) معوقات الهمة العالية (أسباب دنو الهمة 3)

محمد بن إبراهيم الحمد

تجد من الناس من يُقبِل على عملٍ من الأعمال باندفاع زائد، ونشاط خارج عن طوره، فيُكلِّف نفسه من المهام ما ينوء بحمله، وما لا تطيقه نفسه، وما هي إلا مدة وتني همته، وتنثني عزيمته.

  • التصنيفات: تزكية النفس -

17- الاندفاع الزائد:

فتجد من الناس من يُقبِل على عملٍ من الأعمال باندفاع زائد، ونشاط خارج عن طوره، فيُكلِّف نفسه من المهام ما ينوء بحمله، وما لا تطيقه نفسه، وما هي إلا مدة وتني همته، وتنثني عزيمته.

18- المبالغة في تطلُّب الكمال:

فتجد من الناس من تهفو نفسه لغايةٍ شريفة، فيعمل ما في وسعه؛ كي ينالها، ويصل إليها.

فإذا ما حال حائل دون الوصول إليها نزع عنها، ولم يحاول السعي لها مرةً أخرى.

قال العلامة محمد الخضر حسين رحمه الله: "والخطل[1] أن ينزع الرجل الى خصلة شريفة، حتى إذا شعر بالعجز عن بلوغ غايتها البعيدة انصرف عنها جملة، والتحق بالطائفة التي ليس لها في هذه الخصلة من نصيب. والذي يوافق الحكمة، ويقتضيه حق التعاون في سعادة الجماعة أن يذهب في همه الى الغايات البعيدة، ثم يسعى لها سعيها، ولا يقف دون النهاية إلا حيث ينفذه جهده، ولا يهتدي للمزيد على ما فعل سبيلًا".

وصدق من قال:
وعليَّ أن أسعى *** وليس عليَّ إداراك النجاح

19- قلة الصبر، واستطالة الطريق:

فتجد من الناس من يسلك طريق المجد والمعالي، سواءً في طلب العلم، أو في الدعوة الى الله، أو الجهاد في سبيل الله، أو غير ذلك، فإذا ما استقَلَّ الطريق، وتوغل في السير، ورأى كثرة العوائق دونه - نفد صبره، ولم تسعفه همته، فيترك ما هم بالقيام به، ويقفل راجِعًا من منتصف الطريق.

أما صاحب الهمة العالية، والعزيمة الصادقة - فلا يستطيل الطريق، ولا يلتفت الى بُنَيَّاتها، بل يسير ولسان حاله يقول[2]:

عليَّ طِلابُ العِزِّ من مستقره *** ولا ذنب لي إن عارضتني المقادر

ولهذا لما ذهب امرؤ القيس الى قيصر الروم مستنجدًا به على بني أسد، ورد ملك أبيه الذي زال -صحب معه عمرو بن قميئة، وكان من أقدم شعراء بكر، فلما سارا في تلك الرحلة، واستقلا طريقها- بكى عمرو بن قميئة؛ لطول الطريق، فقال امرؤ القيس[3]:

بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه *** وأيقن أنَّا لاحقان بقيصرا
فقلت له: لاتبكِ عينُك إنما *** نحاول ملكًا أو نموت فنعذرا

فهو يقول: نحن نطلب الملك، فإذا بلغنا إربنا منه، وإلا ألححنا في الطلب، حتى نموت دونه، وفي هذا أشرف العذر لنا.

20- كثرة الشواغل والقواطع:

من أهل، وصحب، وعوائد، وعوائق، ولهث وراء حطام الدنيا، كل ذلك مما يصرف الإنسان عن تطلاب المعالي، وبلوغ الأرب في المجد.

قال الإمام الشافعي رحمه الله[4]:
لو أن لقمان الحكيم الذي *** سارت به الركبان بالفضل
بُلي بفقر وعيال لما *** فرَّق بين التبن والبقل

21- اختلاق المعاذير:

فمن أعظم أسباب دنو الهمم اختلاق المعاذير، والتماس المسوغات، التي نسوغ بها أخطائنا وإخفاقنا، ونعلق عليها عجزنا وقعودنا.

وكثيرًا ماتكون تلك المعاذير، والمسوغات مجرد أوهام لا حقيقة تحتها، فلا تزال تلك الأوهام تكبر شيئًا فشيئًا حتى تكوِّن لنا سدًَّا كبيرًا منيعًا، حجارتُه سوء الظن أحيانًا، وتخذيل النفس أحيانًا، والشك في النتائج والخوف من الإخفاق أحايين أُخر.

وقد تكون تلك المعاذير حقيقة، كحال من يتعلّل بقلة الذكاء، أوعدم النبوغ، وكحال من يتعلّل بسوء الحظ، وقلة التوفيق، وبأن الظروف لم تواته، ولم تأت على وَفْق ما يريد، وكحال من يتعلل بتربيته الأولى، وأنه قد قُصِّر فيها، فلم يُوجَّه الوجهة الصحيحة، فأخفق ولم يعد قادرًا على استدراك ما فات.

وكحال من يتعلّل بالبيئة التي يعيش فيها، أو الصحبة التي ابتلي بها، وكحال من يتعلّل بكبر سنه، وضعف قواه، وقلة تحمله، فَيُسَوِّغ بذلك قعوده وعجزه.

فمِثل تلك الأعذار والأعاليل قد تكون سببًا حقيقيًا لدنو الهمة؛ إلا أنه لا يليق بالعاقل أن يستسلم لها، أو أن يسترسل معها؛ فمهما يكن من شيء فإن الفرصة متاحة، وإن الباب لمفتوح على مصراعيه لمن أراد المعالي وسعى لها سعيها.

فالإنسان بتوفيق الله، ثم بعزمه، وهمته، وتربيته لنفسه - قادر على التغلب على كثير من العقبات والصعاب.

وما الصعاب في هذه الحياة إلا أمور نسبية؛ فكل شيءٍ صعب جدًا عند النفوس الصغيرة جدًَّا، ولا صعوبة عظيمة عند النفس العظيمة؛ فبينما النفس العظيمة تزداد عظمة بمغالبة الصعاب إذا بالنفوس الهزيلة تزداد سقمًا بالفرار منها.

وانما الصعاب كالكلب العقور؛ إذا رآك خفت منه وجريت نبحك، وعدا وراءك، وإذا رآك تهزأ به، ولا تعيره اهتمامًا أفسح الطريق لك، وانكمش في جلده منك.

فإذا اعتقدت بأنك مخلوق للصغير من الأمور لم تبلغ في الحياة إلا الصغير، وإذا اعتقدت أنك مخلوق لعظائم الأمور، وسلكت السبل الموصلة لها - شعرت بهمةٍ تكسر الحدود والحواجز، وتنفذ منها إلى الساحة الفسيحة، والغرض الأسمى.

ومِصداق ذلك حادث في الحياة المادية، فمن عزم على المسير ميلًا واحدًا أدركه الإعياء إذا هو قطعه، وإذا هو عزم على قطع خمسة أميال قطع ميلًا، وميلين، وثلاثة من غير تعب، لأن غرضه أوسع، وهمته المدّخرة أكبر.

إذا كان الأمر كذلك فلا تقنع بالدون، ولا تلتمِس المسوغات وتختلق المعاذير.

فلا تتعلّل بقلة الذكاء، وإنما استعمل ذكاءك خير استعمال.

نعم إنك لا تقدر أن تكون في الذكاء مائة إذا خلقت وذكاؤك في قوة عشرين، ولكنك قادر على استعمال ذكائك خير استعمال حتى يفيد أكثر ممن ذكاؤه مائة إذا هو أهمله، كمصباح الكهرباء إذا نُظِّف مما علِق به، وكانت قوته عشرين شمعة - كان خيرًا من مصباح قوته خمسون إذا علَته الأتربة وأُهمِل شأنه.

ولا تتعلّل بأنك لست نابغة، ولا أن الظروف لا تواتيك، فالعالَم لا يحتاج إلى النوابغ وحدهم، والنجاح ليس مقصورًا على النوابغ دون سواهم، ولا على من تواتيهم الظروف.

ولا تتعلّل بسوء الحظ، فلا يوجد من منحوا قدرة على التفوق من غير جهد، وعلى الإتيان بالعجائب من غير مشقة، وعلى قلب التراب ذهبًا بعصًا سحرية، فلا يكن سوء الحظ -كما تزعم- عائقًا لك عن النجاح.

ولا تعتذر بتربيتك الأولى، ولا بعامل البيئة أو الوراثة؛ فهذه لا تعوق الإنسان عن إسعاد حياته، وملئها بالجد والاجتهاد إذا منح الهمة العالية، والإرادة القوية، والتفكير الصحيح.

ولا تتعلّل بكِبَر السن، وضعف القوى، فتقعد عن كل فضيلة، وتقصر عن كل مكرمة، بل جدِّد نشاطك، واستثر همتك، واعمل ما في وسعك.

ولا يعني ذلك أنه يراد منك حال كِبَرك ما يراد منك حال شبابك واكتمال نشاطك وفتوتك.

وإنما يراد أن تَجِدَّ في الاستفادة من طاقاتك الكامنة، وخبراتك السابقة قدر الإمكان، فلو سرت على هذا النحو لعادت لك الروح، ولتجدد فيك العزم[5].

على أن هناك من أصحاب الهمم العالية من يكبر وتكبر معه همته فهذا ابن عقيل الحنبلي رحمه الله يقول: "وإني لأجد من حرصي على العلم وأنا في عشر الثمانين أشد مما كنت أجده وأنا ابن عشرين سنة" (ذيل طبقات الحنابلة؛ لابن رجب الحنبلي، ص: [1/146]).

22- قلة الحياء:

فلقلة الحياء أثر عظيم في دنو الهمة، وسفول القدر، فقليل الحياء لا يأبه بدنو همته، ولا يبالي بسفول قدره، فلا يجد ما يبعثه للنهوض إلى الفضائل، ولا ما يرفعه عما هو مستغرق فيه من الرذائل.

يعيش المرء ما استحيا بخير *** ويبقى العود ما بقى اللحاء
إذا لم تخش عاقبة الليالي *** ولم تستحي فاصنع ما تشاء

23- قلة الإنصاف:

فقلة الإنصاف خصلة غير حميدة، تنساق بصاحبها إلى دركاتٍ سحيقة، فتقوده إلى الظلم، والكِبْر وإيثار العاجلة على الآجلة.

وقلة الإنصاف تجر إلى التقاطع، وتبعد ما بين الأقارب والأصدقاء، قال الحكيم العربي:

ولم تزل قلةُ الإنصافِ قاطعةً *** بين الرجال وإن كانوا ذوي رحم

وقلة الإنصاف تسقط الاحترام من العيون والقلوب، وتحول بين الرجل وبين أن يزداد علمًا، كما أنها تخذل العلم، وتطمِس شيئًا من معالِمه، وتُحدِث فيه فسادًا كبيرًا.

فمن قلة الإنصاف إلصاق التهم بالمخالف، وحمل كلامه على أسوأ المحامل، وردّ الحق الذي معه، وأخذه بلازم قوله دون أن يلتزمه.

ومن ذلك ألا ينصف المرء أقرانه، أو من هم أحدث سنًا منه، إما حسدًا من عند نفسه، أو خوفًا من ظهور مزيتهم عليه.

ومن قلة الإنصاف إصرار المرء على خطئه بعد ما يتبيّن له فساده، وأنفته من قبول الحق والرجوع إليه بعد أن يتبيّن له وجهه، إما خوفًا من سقوط منزلته، أو لحسدٍ تنطوي عليه دخيلة نفسه، أو حذرًا من تفوق الخصم وحرصًا على الانفراد بخصال الحمد، أو متابعة للأصحاب، ومسايرة لمن هم على الشاكلة، أو لإرادة الإضلال، ومحاولة قتل الحق وطمِس معالِمه، أو غير ذلك من أسباب ردّ الحق والإصرار على الباطل[6].

وهذه الآفة "نوع من العناد، والعناد قبيح، ويشتد هذا القبح بمقدار ظهور الحجة على الرأي الذي تحاول ردّه على صاحبه، فمتى كانت الحجة أظهر كان العناد أقبح. والإنصاف جميل، ويكون جماله أوضح وأجلى حيث يكون في حجة الرأي الصائب شيء من الخفاء وحيث يمكنك أن تتحيّز لرأيك، وتُهيئ كثيرًا من الأذهان لقبوله" (رسائل الإصلاح، ص: [1/46]).

هذا وسيأتي مزيد بيان لهذا الأمر عند الحديث عن أسباب اكتساب الهمة العالية.

24- الحسد:

فالحسد ناتجٌ عن ضعف الإيمان، وضيق العطن، والشُح بالخير على عباد الله.

وهذه الأسباب وغيرها من موجبات سفول الهمة، ولذلك فالحاسد لا تعلو له مكانة ولا ترتفع له منزلة، لأنه دنيء الهمة، مهين النفس، ولأنه بحسده اشتغل بما لا يعينه، فأضاع ما يعينه، وما يعود عليه بالنفع والخير.

قال ابن المقفع: "ليكن ما تصرف به الأذى عن نفسك ألا تكون حسودًا؛ فإن الحسد خلق لئيم، ومن لؤمه أنه موكل بالأدنى فالأدنى من الأقارب، والأكفاء، والمعارف، والخلطاء، والإخوان".

"فليكن ما تعامل به الحسد أن تعلم أن خير ما تكون حين تكون مع من هو خير منك، وأن غُنْمًا حسنًا لك أن يكون عشيرك وخليطك أفضل منك في العلم فتقتبس من علمه، وأفضل منك في القوة فيدفع عنك بقوته، وأفضل منك في المال فتفيد من ماله، وأفضل منك في الجاه فتُصيب حاجتك بجاهه، وأفضل منك في الدين فتزداد صلاحًا بصلاحه" (الأدب الصغير والأدب الكبير، ص: [144-145]).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المراجع:

[1]- (الخَطَل: خفة وسرعة).

[2]- (ديوان البارودي، ص: [239]).

[3]- (ديوان امرىء القيس، ص: [64]).

[4]- (ديوان الإمام الشافعي، ص: [70]).

[5]- (انظر: فيض الخاطر، ص: [6/ 127-129]، [244]).

[6]- (انظر: رسائل الإصلاح، ص: [1/ 38-47]، وانظر: أخطاء في أدب المحادثة والمجالسة؛ لمحمد إبراهيم الحمد، ص: [71-75]).

 

المصدر: كتاب: الهمة العالية