(13) مقومات الهمة العالية (هل يمكن اكتساب الهمة العالية؟)

محمد بن إبراهيم الحمد

إن الطباع الحميدة، والأخلاق الفاضلة -كما أنها غريزية، فطرية، جبلِّيِّة- فهي كذلك اكتسابية تأتي بالدربة والمجاهدة والممارسة. قال سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ}.

  • التصنيفات: تزكية النفس -

بعد أن استبان لنا دنو الهمة، ومظاهره، وأسبابه، وبعد أن اتضح لنا أنه خُلقٌ ساقط، وخصلة مرذولة، ومنقصة في حق صاحبه - فإنه يُحسَن بنا الحديث عن الهمة العالية، وعن إمكانية اكتسابها؛ فإن الأشياء إنما تتميز وتحسن بذكر ضدها..

قال المتنبي[1]:
ونذيمهم[2] وبهم عرفنا فضله *** وبضدها تَتَبيَّن الأشياء

ثم إن الطباع الحميدة، والأخلاق الفاضلة -كما أنها غريزية، فطرية، جبلِّيِّة- فهي كذلك اكتسابية تأتي بالدربة والمجاهدة والممارسة.

قال سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد من الآية:11]، وقال: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} [الشمس:9].

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما العلم بالتعلُّم، وإنما الحلم بالتحلُّم، ومن يتحرّ الخير يُعطَه، ومن يتوقَّ الشر يُوقَه»[3].

فتغيير الطباع والأخلاق وارد ممكن؛ فليس متعذرًا ولا مستحيلًا، خلافًا لمن يرى أنها ثابتة في الإنسان لا يمكن أن تتغير؛ بحجة أنها غرائز فطر عليها، وطبائع جبل على التحلي بها؛ فلا يمكنه تغييرها، ولا يتصور فكاكه عنها.

ولو كانت الأخلاق لا تتغير لبطلت الوصايا، والمواعظ والتأديبات.

ثم إن في الأدلة التي مضى دلالةً على هذا الأمر، بل إن كثيرًا من الأدلة في الكتاب والسنة إنما تحث على الفضائل، وتنهى عن الرذائل، ولو كان ذلك غير ممكن لما أُمِر به.

بل كيف ينكر هذا وتغيير خلق الحيوان البهيم وارد ممكن؟!

إذ أن البازيَّ ينقل من الاستيحاش إلى الإنس، والكلب من شره الأكل إلى التأدب والإمساك عن التخلية، والفرس من الجماح إلى السلاسة والانقياد، وكُلُّ ذلك تغيير في الأخلاق.

فإذا كان هذا هو الشأن مع الحيوان البهيم فأجدر بالإنسان الذي ميَّزه الله بالعقل، وكلَّفه من بين سائر المخلوقات - أن يتغير خلقه، ويتبدّل طبعه إلى حد الاعتدال وذلك إذا أخذ بالأسباب، وقام برياضة نفسه وحَمْلِها على المكارم.

ثم إن الواقع يشهد لما مضى؛ فنحن نرى، ونقرأ، ونسمع عن أناس دانيةٍ هِمَمُهم، خائرة عزائمهم، سيئة أخلاقهم.

فإذا ما راض الواحد منهم نفسه، وساسها، وتطلع إلى الفضائل وسعى لها سعيها، وتخلى من الرذائل وأنف من أن يوصف بها - علَت همته ووفرت كرامته.

أما إذا جبل المرء على علو الهمة ثم سقاها بماء المكرمات، ونماها بالممارسة والمران والدربة - فنور على نور وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

وبعد أن تبين أن الأخلاق قابلة للتغيير نصل إلى مربط الفرس، وبيت القصيد.

ألا وهو كيفية اكتساب الهمة العالية، وعلاج الهمم الدانية؛ ذلك أن غالبية الناس لا يخفى عليهم فضل الهمة العالية، ولا قبح الهمم الدانية.

وإنما الذي يحتاجون إليه هو السبل الموصلة إلى اكتساب المعالي والارتقاء بالهمم[4].

وفيما يلي من صفحات يتم الحديث -إن شاء الله- عن علو الهمة من حيث فضله، والثناء عليه، والحث على اكتسابه، وبيان منزلته في الإسلام، ومن ثم الحديث عن الأسباب المعينة على التحلي به.

فلعل في ذلك تحريكًا للهمم وبعثًا للعزائم؛ فإن معالي الأمور إذا اتضحت معالمها وتبينت سبل اكتسابها كان ذلك أدعى لتمثلها، والتحلي بها، والله المستعان، وعليه التكلان.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المراجع والهوامش:

[1]- (ديوان المتنبي: [1/22]).

[2]- (نذيمهم: يعني نذمهم).

[3]- (أخرجه الخطيب البغدادي في تاريخه: [9/127]. قال المناوي في فيض القدير [2/570]: "قال الحافظ العراقي: سنده ضعيف انتهى، ولم يُبين وجه ضعفه، وذلك لأن فيه إسماعيل بن مجالد، وليس محمود" اهـ. ورمز لضعفه السيوطي في الجامع الصغير كما في فيض القدير. وقال الألباني في الصحيحة، ص: [1/60]، رقم [342]: "إسناده حسنٌ أو قريبٌ من الحسن".

وأخرجه الطبراني في الكبير: [19/395]، رقم: [929] من حديث معاوية بلفظ: «يا أيها الناس، إنما العلم بالتعلُّم، والفقه بالتفقُّه، ومن يرد الله به خيرًا يفقه في الدين، وإنما يخشى اللهَ من عباده العلماء».

قال الهيثمي في المجمع [1/128]: "فيه راوٍ لم يُسَمَّ، وعتبة ابن أبي حكيم وثقه أبو حاتم، وأبو زرعة، وابن حبان، وضعفه جماعة" ا.هـ. وقال المناوي في فيض القدير [2/570]: "قال ابن حجر: إسناده حسن؛ لأن فيه مبهمًا اعتضد لمجيئه من وجهٍ آخر".

وروى البزار نحوه من حديث ابن مسعود موقوفًا، ورواه أبو نعيم مرفوعًا" ا.هـ. وأخرجه الطبراني في الأوسط: [3/320]، رقم: [2684]، وأبو نعيم في الحلية: [5/174]، والخطيب البغدادي في تاريخه: [5/201] من حديث أبي الدرداء بلفظ: «إنما العلم بالتعلم، وإنما الحلم بالتحلُّم، ومن يتحرّ الخير يُعطَه، ومن يتقِ الشرَّ يُوقَه، ثلاث من كن فيه لم يسكن الدرجات العلا، ولا أقول لكم الجنة من تكهن، أو استقسم، أو ردَّهُ من سفرٍ تطيرٌ».

وقال الطبراني: "لم يروِ هذا الحديث عن سفيان إلا محمد بن الحسن" ا.هـ. وقال أبو نعيم: "غريب من حديث الثوري عن عبد الملك تفرّد به محمد بن الحسن" ا.هـ. وقال الهيثمي في المجمع [1/128]: "فيه محمد بن الحسن بن أبي يزيد وهو كذّاب" ا.هـ).

[4]- (انظر: إحياء علوم الدين؛ لأبي حامد الغزالي، ص: [3/ 55-56]، وجوامع الآداب في أخلاق الأنجاب؛ للقاسمي، ص: [4]، وسوء الخُلق "مظاهره، أسبابه، علاجه" للمؤلف: محمد بن إبراهيم الحمد، ص: [75-78]، ط2).
 

المصدر: كتاب: الهمة العالية