(19) أسباب اكتساب الهمة العالية (2)
محمد بن إبراهيم الحمد
فالإعلام له دور خطير، وأثر بالغ في توجيه الناس، والتأثير فيهم، فإذا ما وضع في أيد أمينة، وحكمته سياسة بناءة هادفة، تعلي منارات الهدى، وترفع ألوية الفضيلة، وتحمي المجتمعات من عوامل الفساد، وتحرص على رفع الأعلام، وحط الأقزام، فإن لذلك أبلغ الأثر في علو الهمم، ورفعة الأمم.
- التصنيفات: تزكية النفس -
6. التشجيع:
وقد سبق في الفقرات الماضية ذكر لشيء من ذلك.
والتشجيع بمعناه العام لا يختص بالنوابغ فحسب، ولا يقتصر على المربين والمعلمين، بل هو عام للنوابغ وغيرهم، في العلم أو في أي مجال آخر.
وهو كذلك ليس مسؤولية المربين والمعلمين، بل هو يقع على عاتق كل أحد يستطيع ذلك، سواء من المعلمين أو المربين، أو الوالدين، أو الرؤساء أو غيرهم. بل هو مسؤولية عامة الناس، فبإمكانهم أن يحرضوا على الخير، ويعينوا على البر. فيجدر بمن يستطيع القيام بذلك أن يقوم به، من خلال الكلمة الطيبة، أو المبادرة بالهدية، أو من خلال رسالة الشكر، والتقدير أو غير ذلك.
فلذلك الصنيع أثره البالغ في رفع الهمم، وتنمية المهارة، والشعور بالثقة، ذلك أن الناس مجبولون على محبة التشجيع والدعم والشكر. ولهذا لو تتبعنا سير العلماء والمصلحين والمجاهدين، ثم بحثنا عن سر نبوغهم وألمعيتهم، لوجدنا أن كثيراً منهم قد نال ما نال بسبب كلمة سمعها فغيرت مسار حياته، أو كانت سبباً في ثباته، وصبره، واستشعاره للمسئولية، أو نحو ذلك. وقد يصدر ذلك من بعض العامة، فيكون له وقعه وأثره.
عن حسين الكرابيسي قال: سمعت الشافعي يقول: "كنت امرءاً أكتب الشعر، وآتي البوادي فأسمع منهم، وقدمت مكة وأنا أتمثل بشعر للبيد، وأضرب وحشي قدمي بالسوط، فضربني رجل من روائي من الحجبة فقال: "رجل من قريش"، ثم ابن المطلب رضي من دينه ودنياه أن يكون مُعَلِّماً ما الشعر؟ الشعر إذا استحكمت فيه قعدت معلماً، تَفَقَهْ يُعْلِكَ الله. قال: فنفعني الله بكلام ذلك الحجبي، ورجعت إلى مكة، وكتبت عن ابن عيينة ما شاء الله أن أكتب، ثم كنت أجالس مسلم بن خالد بن عبدالله الزنجي، ثم قدمت على مالك في المدينة، فكتبت موطأه [1].
وهذا الإمام أحمد لما ابتلي بفتنة القول بخلق القرآن كان من أسباب ثباته رجل من عامة الناس، بل هو لص طرار.
قال عبدالله بن أحمد بن حنبل: "كنت كثيراً أسمع والدي يقول: "رحم الله أبا الهيثم، غفر الله لأبي الهيثم، عفا الله عن أبي الهيثم"، فقلت "يا أبه، من أبو الهيثم؟"، فقال: "لما أُخرِجْتُ للسياط، ومُدَّتْ يداي للعقابين إذا أنا بشاب يجذب ثوبي من ورائي، ويقول لي: "تعرفني؟"، قلت: "لا"، قال: "أنا أبو الهيثم العيَّار، اللص الطرَّار، مكتوب في ديوان أمير المؤمنين أني ضُربتُ ثمانية عشر ألف سوط بالتفاريق وصبرت في ذلك على طاعة الشيطان، لأجل الدنيا؛ فاصبر أنت في طاعة الرحمن، لأجل الدين" [2].
7. التوجيه السليم ومراعاة الميول:
فلهذا الأمر أبلغ الأثر في علو الهمم، وشرف المقاصد، ونيل المآرب، ذلك أن نفوس الناس تختلف، ومشاربهم لا تأتلف، فكل نفس تميل إلى ما يوافق طبعها، وقد علم كل أناس مشربهم، وكلٌ ميسر لما خلق له.
فهناك من الناس من همته عالية، وإرادته قوية، ولكنه ينزه بها إلى الشر والفساد، كحال بعض المجرمين الذين إذا عزموا على نوع من الإجرام لا يثني عزمهم شيء، بل إن إرادتهم قد تفضل إرادة كثير من الأخيار في قوتها، ولكن عيبهم سوء الوجهة، وقلة المرشد الناصح. فإذا ما وجهت للخير، وحولت له كانت قوية في الخير كما هي قوية في الشر [3].
وكذلك الحال بالنسبة لكثير من الناس، فقد يتوجه لمجال لا يلائم ميوله، ولا يناسب مواهبه، ومن هنا فلن تجد له إبداعاً، ولا تفوقاً. فإذا حول إلى ما يناسبه، ووجه إلى ما يلائمه أبدع أيما إبداع، فلا يعني كوننا لا نبدع في كل شيء أننا لا نصلح لأي شيء [4].
8. الإعلام:
فالإعلام له دور خطير، وأثر بالغ في توجيه الناس، والتأثير فيهم، فإذا ما وضع في أيد أمينة، وحكمته سياسة بناءة هادفة، تعلي منارات الهدى، وترفع ألوية الفضيلة، وتحمي المجتمعات من عوامل الفساد، وتحرص على رفع الأعلام، وحط الأقزام، فإن لذلك أبلغ الأثر في علو الهمم، ورفعة الأمم.
9. سلامة العقيدة:
فسلامة العقيدة أهم المهمات، وأوجب الواجبات، فالعقيدة السليمة سبب للنصر، والظهور، التمكين، والاجتماع.
والعقيدة السليمة تحمي معتنقيها من التخبط، والفوضى، والضياع، وتمنحهم الراحة النفسية والفكرية، وتدفعهم إلى الحزم والجد في الأمور، وتكفل لهم حياة العزة والكرامة.
كما أنها تؤثر في أخلاقهم أيما تأثير، فسلامة العقيدة أساس لتهذيب الأخلاق، فالأخلاق الكريمة لا تستقيم إلا على العقيدة السليمة، والانحراف في السلوك إنما ينشأ في الغالب عن انحراف في العقيدة، فالسلوك ثمرة لما يحمله الإنسان من معتقد، وما يدين به من دين. وهذه العقيدة تأمر أهلها بكل خير، وتنهاهم عن كل شر، فتأمرهم بالعدل، وتنهاهم عن الجور، وتأمرهم بمعالي الأمور، وتنأى بهم عن سفاسفها. ولذلك فأهل العقيدة السليمة، أهل السنة والجماعة، هما خيار الناس وأفاضلهم، فما من خصلة حمد وإلا ويمتازن بها، وما من خصلة ذم عند بعض أفرادها إلا وعند غيرهم أعظم وأطم منها. فأهل السنة أعظم الناس اهتماماً بالكتاب والسنة، وتسليماً لنصوص الشرع وتعظيما للسلف الصالح.
وهم أهل العدل، والوسطية، والأمانة العلمية، وحسن الخلق وسعة الأفق.
وهم أهل الدعوة إلى الله، والجهاد في سبيل الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وهم أهل الجمع بين النصوص، والجمع بين العلم والعمل، والجمع بين الرحمة واللين، وبين الشدة والغلظة.
وهم أبعد الناس نظراً، وأكثرهم للمعاذير، التماساً، وأكثرهم للحق رجوعاً فلا يأنفون من سماع الحق، ولا تحرج صدورهم من قبوله، ولا يستنكفون من الرجوع إليه، ولا يتلبثون في الأخذ به.
ثم إنهم أعلا الناس همة، وأكثرهم حرصاً على تطلاب المعالي، ونشدان الكمالات، والبعد عن السفاسف والمحقرات.
ومن أعظم مظاهر علو الهمة عندهم حرصهم على طلب العلم، ونشره بين الناس. ولا أدل على ذلك من حال علماء الحديث، الذين كانوا يواصلون في سبيل طلبه كلال الليل بكلال النهار، ويقطعون لأجله المفاوز والقفار، بهمة لا تني، وعزمة لا تنثني، وبنفوس أبية، وهمم علية، لا تقنع بالدون، ولا ترضى من ذلك بالقليل، حتى حفظ الله بهم الدين، فنفوا عنه زيف الغالين، وانتحال المبطلين، فاستمرت الشريعة بذلك غضة طرية، تتناقلها الأجيال، وتنهل من ينبوعها العذب، ومعينها النمير الصافي [5].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية متحدثاً عن بعض خصائص أهل السنة: "ومن المعلوم أن أهل الحديث [6] يشاركون كل طائفة فيما يتحلون به من صفات الكمال، ويمتازون عنهم بما ليس عندهم، فإن المنازع لهم لابد أن يذكر فيما يخالفهم فيه طريقاً أخرى، مثل المعقول، والقياس، والرأي، والكلام، والنظر، والاستدلال، والمحاجة، والمجادلة، والمكاشفة، والمخاطبة، والوجد، والذوق، ونحو ذلك.
وكل هذه الطرق لأهل الحديث صفوتُها وخلاصتها، فهم أكمل الناس عقلاً، وأَعْدَلُهم قياساً، وأصوبهم رأياً، وأسدُّهم كلاماً، وأصحهم نظراً، وأهداهم استدلالاً، وأقومهم جدلاً، وأتمهم فراسةً، وأصدقهم إلهاماً، وأحدهم بصراً ومكاشفة، وأصوبهم سمعاً ومخاطبة، وأعظمهم وأحسنهم وجداً وذوقاً.
وهذا هو للمسلمين بالنسبة إلى سائر الأمم، ولأهل النسة والحديث بالنسبة إلى سائر الملل؛ فكل من استقرأ أحوال العالم وجد المسلمين أحد وأسد عقلاً" [7].
فما أجدر المسلمين أن يحرصوا كل الحرص على إصلاح عقائدهم، وما أحرى بأهل العقيدة الصحيحة أن يقوموا بالدين حق القيام، وأن يرفعوا عقيرتهم بالحق، وينشروا عقيدتهم بين الخلق.
-----------------------
[1] (صفة الصفوة لابن الجوزي [2/165]).
[2] (صفة الصفوة [2/299-330]).
[3] (انظر: الأخلاق ص [55]).
[4] (انظر: قوة الإرادة وطرق تنميتها، د: صلاح مراد ص [34]).
[5] (انظر: عقيدة أهل السنة والجماعة مفهومها، خصائصها، خصائص أهلها للكاتب).
[6] (أهل الحديث: هم أهل السنة وهذا أحد أسمائهم).
[7] (نقض المنطق لابن تيمية ص [7-8]، وانظر: اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم، تحقيق د: ناصر العقل [1/ 64]).