(21) أسباب اكتساب الهمة العالية (4)

محمد بن إبراهيم الحمد

كما أن الأحداث والمواقف التي تمرّ بالأمة تكون سببًا من أسباب علو الهمة، فكذلك الفرد نفسه إذا مرّت به أحداث ومواقف، وتقلبات في حياته، من مِحنٍ، وبلايا وغير ذلك، فإنها تؤثر، وتترك أثرها في نفسه وقد تكون سببًا لنهوضه ورفعته، ذلك أن للهمم خمودًا، وللعزائم فترة، ولا يتيقظ من فترتها إلا من استفزته صروف الحوادث، وأرته كيف يرقى أناس إلى مكانة العِزّ، وينحط آخرون إلى وهدة السقوط ولا تفعل ذلك إلا بمن أدركت منه رمق حياة لم يزل نبضها خافقًا.

  • التصنيفات: تزكية النفس -

16- المواقف التي تمر بالإنسان:

فكما أن الأحداث والمواقف التي تمرّ بالأمة تكون سببًا من أسباب علو الهمة، فكذلك الفرد نفسه إذا مرّت به أحداث ومواقف، وتقلبات في حياته، من مِحنٍ، وبلايا وغير ذلك، فإنها تؤثر، وتترك أثرها في نفسه وقد تكون سببًا لنهوضه ورفعته، ذلك أن للهمم خمودًا، وللعزائم فترة، ولا يتيقظ من فترتها إلا من استفزته صروف الحوادث، وأرته كيف يرقى أناس إلى مكانة العِزّ، وينحط آخرون إلى وهدة السقوط ولا تفعل ذلك إلا بمن أدركت منه رمق حياة لم يزل نبضها خافقًا.

أما من جف طبعه، وسكنت إحساساته حتى التحق عند أولي البصائر ببهيمة الأنعام، فلا يحس لها وجبة[1]، ولا يسمع لها ركزًا[2].

ولهذا كان امرؤ القيس في حياة والده شابًا لاهيًا، عابثًا، همه ملاحقة الناس، وتشراب الخمور، إذ كان ينعم بطيب العيش تحت ملك والده.

وعندما قتل والده، وزال الملك الذي تحت يديه، أثر به ذلك الموقف أيما تأثير، فاستيقظ من رقدته، وهب من سباته، وأعلى من همته، وترك شرب الخمر، وبدأ يسعى في استعادة ملك أبيه.

فبعد أن كان يقول:
لنا غنم نُسَوِّقُها غِزارٌ *** كأن قرون جلتها العصيُّ
فتملئ بيتنا إقطًا وسمنًا *** وحسبك من غنى شبعٌ وريٌ[3]

أصبح يقول: "لا صحو اليوم، ولا سكر غدًا، اليوم خمر، وغدًا أمر. وآلى على نفسه ألا يأكل لحمًا، ولا يشرب خمرًا، ولا يدهن بدهن، ولا يصيب امرأة، ولا يغسل رأسه، حتى يقتل من بني أسد مائة، ويجزَّ نواصي مائة، بثأر أبيه"[4].

وأصبح يقول من أمثال قوله:
فلو أنما أسعى لأدنى معيشةٍ *** كفاني -ولم أطلب- قليلٌ من المال
ولكنما أسعى لمجدٍ مُؤثَّلٍ *** وقد يدرك المجدَ المؤثلَ أمثالي[5]

فقوله: [ولم أطلب] جملة اعترض بها بَيْنَ الفعل "كفاني"، وفاعله "قليل".

وفائدتها تحقير شأن المعيشة، وتبرئه سعيه أن ينضى الطلب ما هو أدنى، فإنها مما يحصل بغير طلب ولا عناء.

وإنما الذي يحتاج إلى الطلب هو المجد المؤثل، ولا يدركه إلا عظماء الرجال[6].

17- التجافي عن الترف والنعيم:

ذلك أن التقلب في الترف، والإغراق في النعيم، يعد من أعظم الشواغل والقواطع، التي تشغل صاحبها عن تطلب الكمال، وتقطع عليه طريق المجد والسؤدد، ثم إن الإغراق في النعيم ينبت في نفس صاحبه أخلاقًا مرذولة من نحو الجبن، والخور، وقلة الأمانة، والإمساك في وجوه الخير.

وذلك مما يورثه ضعف الهمة وحقارة الشأن.

فإذا تجافي المرء عن الترف والنعيم - دل ذلك على كِبر نفسه، وعلو همته.

وذلك التجافي مما يُعين على بلوغ العِزّ، واكتساب الهمة العالية.

كما قيل:
فمن هجر اللذات نال المنى ومن *** أكب على اللذات عضّ على اليد[7]

ولهذا جرت العادة أن من ينغمس في النعيم، ويغرق في الترف يكون أشد الناس كراهة للحروب، وأقلهم نبوغًا في العلم، وأبعدهم عن معاناة المشاق وتحمل المصاعب.

"فإذا أنبتت بيئات الترف يزدري النعيم والزينة، ويطمح بهمته إلى الشرف الصميم، كان فضله في الشجاعة أظهر، وإقدامه أدعى للإعجاب، ولذلك ترى الأدباء إذا أرادوا أن يجعلوا إعجابك بشجاعة الممدوح أبلغ أشاروا إلى أن النعمة والزينة لا تذهب برجوليته، ولا تقعد به عن حماية الشرف والكرامة"[8].

إذا هَمَّ بالأعداء لم تَثْنِ عزمَه *** كعابٌ عليها لؤلؤٌ وشنوفُ[9]
حَصَان[10] لها في البيت زيٌ وبهجةٌ *** ومشيٌ كما تمشي القطاة كتيف[11][12]

ولقد حدثنا التاريخ عن أفراد نشأوا في بيوت توافرت فيها وسائل الرفاهية، ومع ذلك لم يكونوا بحال المترفين السادرين.

بل نشأوا وقد عظم في نفوسهم الطموح إلى معالي الأمور، فاحتقروا ما يُسمّى لذات حسية، وإن كانت طوع أيمانهم وشمائلهم، وأقبلوا على العلم أو على ضرب آخر من ضروب السيادة فأدركوا فيه غاية قصوى.

فهذا عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه قد نشأ في بيت إمارة، وحينما تولى الخلافة استطاع بما وهبه الله من الحكمة، والروية، ألا يقيم للزينة والأطعمة الفاخرة وزنًا، فعاش عيشة الكفاف، وخزائن الأرض طوع يمينه.

ولما تجافى عن الترف والنعيم مع أنه يعيش في بحبوحته، دل ذلك على سمو نفسه، وعلو همته، فلذلك كان صيته أذكر، وشأنه أشهر، وتوفي وقد أبقى سيرة غرّاء، وذكرًا أطيب من ريح المسك[13].

وقل مثل ذلك في شأنه ابنه عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز الذي كملت مروءته، وتناهي سؤدده، فكان مضرب المثل في العلم، والحلم، والشسجاعة، والزهد، والعبادة مع أنه توفي وهو في التاسعة عشرة من عمره رضي الله عنه.

ولم يكن ذلك ليتم بعد توفيق الله إلا لأنه تجافى عن الترف والنعيم وآثر الجد ومعالي الأمور[14].

وكذلك الحال بالنسبة للإمام أبي محمد ابن حزم رحمه الله فلقد نشأ في بيت وزارة في الأندلس، وتولى هو نفسه الوزارة، ثم نفض يده، وانقطع للازدياد من العلم، حتى ارتقى إلى طبقة كبار العلماء بنظر مستقل، وقلم بارع[15].

18- التوازن، وإعطاء كل ذي حق حقه:

فهذا مما يُعين على أداء المسئولية، وتحمل التبعة، وأداء الحقوق، والسلامة من اللوم والتعذال.

وهذا بدوره يُعين الإنسان على تحقيق ما يرومه ويصبو إليه، كما أنه دليل على حزمه، ووعيه، وحكمته، فقوة الشخصية تبدو في القدرة على الموازنة بين الحقوق، والملائمة بين الواجبات، التي قد تتعارض أمام بعض الناس.

فالعاقل الحازم يستطيع أن يعطي كل ذي حقٍ حقه دون أن يلحق جورًا بأحد.

ومن عظمة هذه الشريعة أنها جاءت بأحكامٍ توازن بين شتى العوامل والدوافع والحوافز، فللوالدين حقوق، وللزوج حقوق، ولسائر الناس حقوق، وهذه الحقوق قد تختلف من حالٍ إلى حال، ومن شخصٍ إلى شخص، وهكذا[16]...

19- استشارة العقلاء العاملين، والحذر من استشارة الحمقى والقاعدين:

فالشورى أمرها عظيم، وشأنها جلل، فلقد نوّه الله عز وجل بذكرها، وأثنى على المؤمنين بقيامهم بها، فقال سبحانه وتعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى من الآية:38].

وأمر نبيه صلى الله عليه وسلم مع وفور عقله، وسداد رأيه، وعلو مكانته أن يأخذ بالشورى، قال عز وجل: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران من الآية:159].

ولهذا كان صلى الله عليه وسلم كثير المشاورة لأصحابه[17].

فالعاقل اللبيب، ذو الهمة العالية ذو النظرة الثاقبة، لا يستبد برأيه، ولا يعتد بنفسه بحيث يقوده ذلك إلى ترك المشورة.

بل إنه يشاور أهل العقول السليمة، والتجارب السالفة، ممن يجمعون بين العلم والعمل، والنصح والديانة.

فبالشورى تشحذ القريحة، وتتلاقح الفكر، وتُنمَّى المعارف، وتقوى الأواصر بين المتشاورين.

والشورى تنفي عن العبد الغرور، والإعجاب بالنفس، وتفتح له الأبواب، وتزيل عنه الحيرة والاضطراب.

قال أمير المؤمنين علي رضي الله عنه: "نعم المؤازرة المشاورة، وبئس الاستعداد الاستبداد"[18].

وقال بشار بن برد:
إذا بلغ الرأي المشورة فاستعن *** ولا تجعل الشورى عليك غضاضة
براي نصيح أو نصيحة حازم *** فإن الخوافي قوة للقوادم[19]

أما ترك الشورى، أو استثارة الحمقى، فدليل الغرور، وآية الجهل.

وكذلك استشارة القاعدين، فإنها تُورِث الكسل والتخذيل، لأن القاعد لن يتصور الأمور كما ينبغي، ولن يجد في نفسه انبعاثًا للمعالي، ففاقد الشيء لا يعطيه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المراجع والهوامش:

[1]- (الوجبة: الحركة والاضطراب).

[2]- (انظر: السعادة العظمى، ص: [64]).

[3]- (ديوان امرئ القيس، ص: [171]).

[4]- (ديوان امرئ القيس، ص: [8]).

[5]- (ديوان امرئ القيس، ص: [129]).

[6]- (انظر: الحرية في الإسلام، ص: [10]).

[7]- (الآداب الشرعية: [3/588]).

[8]- (رسائل الإصلاح: [1/81]).

[9]- (الشنوف: مفردها الشنف وهو القرط الأعلى).

[10]- (انظر: ديوان الحطيئة، ص: [256-258]).

[11]- (الحَصان: العفيفة).

[12]- (قوله: [كما تمشي القطاة كتيف] يعني: أنها قليلة المشي، مقاربة الخطو، ليست كمن اعتاد السير، والمعنى أن الممدوح إذا أراد الغزو فنهته امرأته عن ذلك - مضى إلى سبيله ولم يلتفت إلى نهيها).

[13]- (انظر: سيرة عمر بن عبد العزيز؛ لابن عبد الحكم، نسخها وصحَّحها وعلّق عليها: أحمد عبيد. وانظر: الكتاب الجامع لسيرة عمر بن عبد العزيز الخليفة الخائف الخاشع؛ لعمر بن محمد الخضر -المعروف بالملاء- تحقيق: د. محمد صدقي البورنو. وانظر: ترجمة عمر بن عبد العزيز في صفة الصفوة؛ لابن الجوزي. وسير أعلام النبلاء؛ للذهبي. ومحاضرات إسلامية، ص: [143]).

[14]- (انظر: سيرة عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز؛ لابن رجب الحنبلي، تحقيق: عِفّت وِصال حمزة).

[15]- (انظز: محاضرات إسلامية، ص: [144]).

[16]- (انظر: نظرات في الأسرة المسلمة، ص: [101]).

[17]- (انظر: الرياض الناضرة، ص: [59]).

[18]- (أدب الدنيا والدين؛ للماوردي، ص: [300]).

[19]- (ديوان بشار بن برد، ص: [205-206]).

 

المصدر: كتاب: الهمة العالية