(20) يائس.. مستوحش.. قلق.. خائف

إياد قنيبي

حصل أن أحزم مع طفلي الصغير وأعاقبه، لكنه مع ذلك كان بعدها بلحظات إذا جاءني ضيوف، كان يأتي إلي ويضع يده على ركبتي لأجلسه في حجري وهو ينظر متوجساً إلى الضيوف لا يخطر بباله طبعاً أن يذهب عندهم ويشكوني إليهم، كان هذا الموقف يستدر عطفي وشفقتي على الصغير وأحس معه كم هو ضعيف محتاج إلي...

  • التصنيفات: أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - الأسماء والصفات - التقوى وحب الله - تزكية النفس - الأدب مع الله وكتابه ورسوله - الحث على الطاعات -

السلام عليكم ورحمة الله.

أحبتي الكرام تصوروا معي حوارا يدور بين صديقين: زياد ورائد،

زياد: سمعت يا رائد أنك مقرب من شخص مهم.

رائد: صحيح، إنه ثري وذو نفوذ، لا تستعصي عليه مشكلة.

زياد: وما علاقتك به؟

رائد: إنه صديقي! على استعداد أن يقف معي في أية مشكلة. يؤكد علي دائماً ألا أطلب المساعدة من غيره

ثم بعد أيام من هذا الحوار.

رائد: آآآآآآه يا زياد، أنا قلق.

- من ماذا؟

- وقعت في مشكلة من مدة، وبدأ صبري ينفد. أحس بالخوف من المستقبل، أحس بالوحشة، بالضياع، أحس بالضعف وأنا أقف وحدي أمام هذه المشكلة.

- عجيب أمرك يا رائد!

- ما العجيب في الأمر ؟

- ألم تخبرني عن علاقتك بالرجل الثري ذي النفوذ المستعد لحل مشاكلك كلها!

- بلى.

- هل ما زلت على علاقة به؟

- طبعاً، إنه صديقي الحميم وينتظر مني طلباً.

- زياد: أعذرني يا رائد أنت متناقض! هناك خطأ في كلامك. فإما أن صديقك هذا ضعيف محدود القدرات، أو أنك تدعي صداقته تفاخراً ولست على علاقة به أصلاً،

أخي ، أختي ، أليس زياد على حق؟ أليس رائدٌ متناقض في دعواه؟

قبل أن تتحامل على رائد، انتبه، أخشى أن نكون مثله!

ألسنا نعلن أننا نؤمن بالله وأننا نعبده، فنقرأ في صلاتنا في اليوم الواحد {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}  سبع عشرة مرة على الأقل ونستعين به فنقرأ {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] سبعة عشرة مرة، ونعتقد أن الله تعالى معنا ونتوكل عليه فنقول: (بسم الله توكلت على الله)، ونردد كثيراً: (حسبي الله ونعم الوكيل) ونعلن هويتنا أننا مسلمون قد أسلمنا أمرنا لله تعالى فنردد -كما علمنا رسول الله-: «اللَّهمَّ أسلَمتُ وجهي إليكَ، وفوَّضتُ أمري إليكَ، وألجأتُ ظَهْري إليكَ» (صحيح البخاري: [6311])، ونردد صباح مساء: (رضينا بالله رباً)، أي خالقاً رازقاً مدبراً لأمورنا؟

 

هل نعي ما نقول؟ هل نحن بالفعل مؤمنون بالله تعالى مسلمون أنفسَنا وأمورنا إليه عابدون له مستعينون به متوكلون عليه راضون به مفوضون أمرنا إليه ملجؤون ظهورنا إليه؟

 

إذن فالله تعالى يقول: {وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران من الأية:68]، ويقول: {فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الأنفال من الأية:40]، ويقول:  {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}  [آل عمران:139]، ويقول تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْادَهُ} [الزمر من الأية:36] -قراءة عشرية صحيحة-، ويقول: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق من الأية:3]، ويقول: {وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [محمد من الأية:35]، ويقول: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}  [البقرة من الأية:153].

 

فكيف يسمح أحدنا لنفسه بعد هذا كله أن يحس بالخوف الشديد عند تعرضه لمشكلة؟! كيف يسمح لنفسه أن يحس بالضياع والقلق والوحشة وبأنه وحده أمام المشكلة؟! بل كيف يسمح لنفسه أن يبوح بهذه الأحاسيس أمام الناس؟ أين إيماننا بالله وإسلام أمرنا له واستعانتنا به وتوكلنا عليه واستشعار معيته؟ ألا نستحي من الله بعد ذلك أن نشكو الوحدة والضياع والضعف والقلق من المستقبل؟! ألسنا حينئذ متناقضين مع أنفسنا؟

 

إنه ليس لتناقضنا هذا تفسير إلا واحد من ثلاثة:

1. إما إن ادعاءنا الإيمان والتسليم والتوكل والاستعانة ادعاء باطل، مع أننا نكرره في اليوم عشرات المرات! وحينئذ فيخشى أن نكون كمن قال الله فيهم {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} [الفتح من الأية:11].

 

2. أو أننا توكلنا على الله فخذلنا واستعنا به فتركنا وأسلمنا أمرنا إليه فضيعنا، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، فهو قائل: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}، {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [النساء من الأية:122]، {وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الروم:6].

 

3. والتفسير الثالث للتناقض أن هذا الشاكي المدعي التوكل كأنه يقول: "لم يكفني الله، فهو معي لكني أحس بالضياع"! وكأنه ينسب الضعف إلى ربه! تعالى الله عن ذلك.

 

فأيَّ تفسير تختار أيها "المتوكل" الشاكي؟

أحبتي في الله، دعونا نعرف عظمة الرب الذي نعبده ونستعين به:

- إنه العظيم العزيز الجبار المهيمن القوي المتين القاهر المسيطر وهو على كل شيء قدير، فعيب أن نشكو الضعف وهو معنا.

- إنه الرحمن الرحيم الودود البر الشكور اللطيف الحليم القريب، فعيب أن نشكو الوحشة وهو معنا.

- إنه السميع البصير السلام مجيب الدعاء، فعيب أن نشكو القلق وهو معنا.

إنه الله! {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْادَهُ}، بلى والله.

 

فما فائدة إيماننا بأسماء الله وصفاته إن كان هذا الإيمان لا يسكن روعنا ويربط على قلوبنا في البلايا والمحن؟!

إنه الله لا يخذل من توكل عليه، إنما نحن الذين قد لا نحسن التوكل.

أخي المبتلى، لا تشكُ الله إلى الخلق أرجوك! فليسوا ارحم بك من الله.

لا تشك الله إلى الخلق أرجوك! لئلا تشمت بنا الأعداء الذين سيقولون حينها أين معونة ربكم التي زعمتم، كما قال أسلافهم فيما حكاه الله عنهم: {غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ} فرد الله عليهم {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال من الأية:49].

كلما أردت أن تشكو الضياع والتوجس من المستقبل واليأس والقنوط ونفاد الصبر تصور أنه يجلس بجانبك ملحد يسمع ما تقول! ماذا سيقول لك إذا سمع شكواك: "ألم تكن تنصحني أيها المسلم أن أومن بوجود رب خلقنا ويرزقنا وأن أعبده وأستمد العون منه لأشعر بالطمأنينة والسعادة؟ أراك بعدما أسلمت أمرك لربك أكثر قلقا مني بعدما أسلم أمري لمحامٍ جيد!".

أترضى أن يقال هذا عن ربك سبحانه وتعالى؟! أليس كل من بحث عن دين يعتنقه إنما يريد طمأنينة الدنيا واستمداد القوة من الله والسعادة والآخرة؟ فإن لم يجد الناس هذه المعاني عندنا فما الذي سيغريهم باعتناق الإسلام؟ وهم يرونك كأنك تقول: "الأمر عند الله فأنا الآن قلق"؟!

قال رجل ممن عاصر شريحا القاضي: سمعني شريح وأنا أشتكي بعض ما غمني لصديق فأخذني من يدي وانتحى بي جانبا وقال: يا ابن أخي إياك والشكوى لغير الله عز وجل فإن من تشكو إليه لا يخلو أن يكون صديقاً أو عدواً فأما الصديق فتحزنه وأما العدو فيشمت بك ثم قال: انظر إلى عيني هذه وأشار إلى إحدى عينيه فو الله ما أبصرت بها شخصاً ولا طريقاً منذ خمس عشرة سنة ولكني ما أخبرت أحداً بذلك إلا أنت في هذه الساعة أما سمعت قول العبد الصالح: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف من الأية:86]، فاجعل الله عز وجل مشكاك ومحزنك عند كل نائبة تنوبك فإنه أكرم مسئول وأقرب مدعو.

وعندما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم قول الله تعالى حكاية عن لوط عليه السلام {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هود من الأية:80]،  قال: «يرحَمُ اللهُ لوطًا، لقد كان يأوي إلى ركنٍ شديدٍ» (صحيح البخاري: [3387])، لا شك أن لوط عليه السلام كان يعلم أنه يأوي إلى رب عظيم قوي، لكن استحضار هذا المعنى ومراعاة التعبير مطلوبان في هذا المقام.

 

ختاماً، حصل أن أحزم مع طفلي الصغير وأعاقبه، لكنه مع ذلك كان بعدها بلحظات إذا جاءني ضيوف، كان يأتي إلي ويضع يده على ركبتي لأجلسه في حجري وهو ينظر متوجساً إلى الضيوف لا يخطر بباله طبعاً أن يذهب عندهم ويشكوني إليهم، كان هذا الموقف يستدر عطفي وشفقتي على الصغير وأحس معه كم هو ضعيف محتاج إلي.

عندما يبتليك الرحمن سبحانه وتعالى الجأ إليه، إليه وحده، لا تشك همك وضعفك إلى أحد، انكسر بين يدي الله سبحانه واطلب منه أن يتغمدك بلطفه وأحسن الظن به، وحينها، سيحبك الله، ويرحمك، ويرأف بك ويلطف، {إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ} [هود من الأية:90].

ضمن هذه المعاني صغت في خضم بلاء مررت به قصيدة كان لها أثر بإذن الله في ثبيتي. ما هي هذه القصيدة؟ سنسمعها في الحلقة القادمة بإذن الله.