(33) أسباب اكتساب الهمة العالية (16)

محمد بن إبراهيم الحمد

الإرادة قد يعتريها ما يعتريها من الأمراض، فلا تستطيع مقاومة الأهواء، والشهوات، ولا تتحمل المسؤوليات والتبعات، فيستسلم صاحبها لسورة الجهل، أو ثورة الغضب، وينأى بنفسه عن تحمل المسؤوليات التي تناط به، ومن المظاهر التي تعتري الإرادة أن يرى الإنسان الخير في شيء، ويرى وجوب عمله، ويعزم عليه، ثم تخونه إرادته، فيستسلم للخمول والكسل.

  • التصنيفات: تزكية النفس -

44- استثارة الهمة، وتحريك الإرادة:
فكثير من الناس تكمن فيه الهمة كمون النار في الزند، وهذه الهمة تحتاج إلى من يوريها، ويقدح زندها.
وكذلك الأمر بالنسبة للإرادة؛ فهي قوة من القوى، كالبخار والكهرباء؛ فهي المحرك للإنسان، وعنها تصدر جميع الأعمال الإدارية، فجميع ملكات الإنسان وقواه تكون في سبات عميق حتى توقظها الإرادة؛ فمهارة الصانع، وقوة عقل المفكر، وذكاء العامل، وقوة العضلات، والشعور بالواجب، ومعرفة ما ينبغي وما لا ينبغي، كل هذه لا أثر لها في الحياة ما لم تدفعها قوة الإرادة، وكلها لا قيمة لها ما لم تحولها الإرادة إلى عمل.

هذا وللإرادة نوعان من العمل، فقد تكون دافعة، وقد تكون مانعة.
فتارة تدفع قوى الإنسان إلى عمل كأن تحمله على القراءة، أو التأليف أو الخطابة، وتارة تمنع القوى عن المسير، وتقصرها عن العمل [1].

45- تقوية الإرادة ومغالبة النفس:
فالإرادة القوية إرادة تقدم على ما قصدت مهما كلفها من المشاق، ولا تحجم أمام العقبات التي تعترضها، وإنما تبذل ما في وسعها لتذليلها، ولا شيء عندها أصعب من عدولها عن قصدها، والمقصود بالإرادة ها هنا إنما هي الإرادة المتوجهة إلى الخير، فمن أفضل ما يمدح به الرجل أن يتوجه بعزمه القاطع إلى إظهار حق، أو إقامة مصلحة.

هذه الإرادة هي سر النجاح في الحياة، وهي عنوان عظماء الرجال، الذين إذا أزمعوا أمراً لم يثنهم عنه شيء، بل يسلكون إليه كل شبيل، ويركبون له كل صعب وذلول، فلقوة الإرادة أثر عظيم في انقلاب حال الأفراد والجماعات؛ فكم من فتى يساويه في نباهة الذهن، وسائر الفضائل فتيان كثيرون.

ولكنه يجد من قوة الإرادة ما لا يجدون، فيكون له شأن غير شأنهم، ويبلغ في المحامد شأواً أبعد من شأوهم.
ولو نظرت إلى كثير ممن ظهروا أكثر مما يظهر غيرهم، وأقمت موازنة بينهم وبين كثير من لداتهم لم تجد في أولئك الظاهرين مزية يرجح بها وزنهم، غير أنهم يهمون بالأمر فيعملون.

والإرادة قد يعتريها ما يعتريها من الأمراض، فلا تستطيع مقاومة الأهواء، والشهوات، ولا تتحمل المسؤوليات والتبعات، فيستسلم صاحبها لسورة الجهل، أو ثورة الغضب، وينأى بنفسه عن تحمل المسؤوليات التي تناط به، ومن المظاهر التي تعتري الإرادة أن يرى الإنسان الخير في شيء، ويرى وجوب عمله، ويعزم عليه، ثم تخونه إرادته، فيستسلم للخمول والكسل.

وعلاج هذه الإرادة المريضة يمكن بأنواع من العلاج، ومنها:
أ- المجاهدة: وذلك بأن يجاهد المرء نفسه على تقوية إرادته؛ فالمجاهدة تنفع كثيراً في هذا الباب وغيره قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت من الآية:69]، ومن المجاهدة المفيدة في تقوية الإرادة أن يحرم المرء نفسه من بعض ملذاتها، ورغباتها، وعوائدها.

قال ابن عبد القوي:

وفي قمع أهواء النفوس اعتزازها *** وفي نيلها ما تشتهي ذل سرمد[2]


وقال السفاريني: "ينبغي للعاقل أن يتمرن على دفع الهوى المأمون العواقب، ليتمرن بذلك على ترك ما تؤذي عواقبه، وليعلم اللبيب أن مدمني الشهوات يصيرون إلى حالة لا يلتذون بها، وهم مع ذلك لا يستطيعون تركها؛ لأنها صارت عندهم بمنزلة العيش الذي لا بد لهم منه" [3].

ومن المجاهدة المفيدة أن يلزم النفس أعمالاً تتطلب مشقة وجهدًا، وان يعودها على تحمل ذلك شيئاً فشيئاً، ولا تعني المجاهدة أن يجاهد المرء نفسه مرة أو مرات، وإنما يجاهدها في ذات اللَّه حتى الممات؛ ذلك أن المجاهدة عبادة، واللَّه عز وجل يقول: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر من الآية:99].

قال ابن عقيل الحنبلي: "ولو لم يكن من بركات مجاهدة النفس في حقوق اللَّه، والانتهاء عن محارم اللَّه، إلاَّ أنه يعطف عليك، فيسخرها لك، ويطوعها لأمرك، حتى تنقاد لك، ويسقط عنك مؤونة النزاع لها والمجاهدة حتى تصير طوع يدك وأمرك، تعاف المستطاب عندها إذا كان عند اللَّه خبيثاً، وتؤثر العمل لله وإن كان عندها بالأمس كريهاً، وتستخفه وإن كان عليها ثقيلاً، حتى تصير رقاً لك بعد أن كانت تسترقك..

وكذا كل من حقق العبودية لسيده استعبد له من كان يملكه، وألان له ما كان يعجزه، قال سبحانه: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ} [التغابن من الآية:16]، بعد إخباره: {وَأُحْضِرَتْ الأَنفُسُ الشُّحَّ} [النساء من الآية:128]، فقد أبان عن أن أقواماً يوفيهم، ويقيهم ما أحضرته النفوس،وقال: {وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ} [الأنبياء من الآية:90]، وهو الذي قال: {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} [التغابن من الآية:14]، ما أبرك طاعة الله على المطيع! قوم سخر لهم الرياح والمياه، والحيوانات، وقوم أعاق عليهم الحوائج، وكسرها في صدورهم" [4].

ب- محاسبة النفس وأخذها بمبدأ الثواب والعقاب: فإذا أجادت وعملت أجمها وأراحها، وأرسلها على سجيتها في المباح بعض الوقت، وإذا قصرت وتوانت أخذها بالحزم والجد، وحرمها من بعض ما تريد، على أنه لا ينبغي أن يطيل في محاسبة النفس؛ لأن ذلك قد يؤدي إلى انقباض النفس وانكماشها [5].

ج- كثرة التعبد: فاللَّه عز وجل شرع الشعائر للتزكية والتعليم، لا لضيق بها على المسلم، ولا ليجعل عليه في الدين من حرج، وإنما يريد ليطهره بها، وينمي ملكات الخير والرحمة فيه، وليقويّ إرادته وعزيمته في الإقدام على الخير والإقلاع عن الشر، وليروضه على الفضائل الشاقة كالصبر، والثبات، والحزم، والعزم، وليحرره من عبادة الشهوات، وملكها لعنانه، ولكل عبادة في الإسلام حكمة يظهر بعضها بالنص عليه، أو بأدنى تدبر، وقد يخفى بعضها إلاَّ على المتأملين الموفقين في الاستجلاء والاستنباط.

والحكمة الجامعة في العبادات هي تزكية النفس، وترويضها، وتطهيرها من النقائض، وتصفيتها من الكدرات، وإعدادها للكمال الإنساني، وتقريبها للملأ الأعلى، وتلطيف كثافتها الحيوانية، وفي كل فريضة من فرائض الإسلام امتحان لإيمان المسلم، وعقله، وإرادته [6]، فإذا أكثر العبد من القربات وأنواع التعبدات، واستحضر مافيها من جميل الثمرات زكت نفسه، وقويت إرادته، وزادت مغالبته لنزواته وشهواته.

د- الصوم: ويقال عن الصوم ما قيل عن العبادة من حيث كونها سبباً لتقوية الإرادة، غير أن الصوم أعسرها امتحاناً، لأنه ينفرد من بين العبادات بأنه مقاومة عنيفة لسلطان الملذات والرغبات، وبأنه قمع للغرائز عن الاسترسال في الشهوات، فبالصوم تروض النفوس، وتقوى الإرادات، وتنشأ الأخلاق الرفيعة. فهو تدريب منظم على حمل المكروه، ودرس مفيد في سياسة المرء لنفسه، وتحكمه في أهوائها، وضبطه لنوازع الهزل واللغو والعبث فيها..

ثم إن صيام رمضان يحرك النفوس للخير، ويسكنها عن الشر، ويطلقها من أسر العادات، ويحررها من فساد الطباع، ويجتث منها رعونة الغرائز، ويطوف عليها في أيامه بمحكمات الصبر، ومثبتات العزيمة، وفي لياليه بأسباب الاتصال باللَّه والقرب منه [7]، فإذا كان الأمر كذلك فما أجدر المسلم أن يستحضر عظمة الصوم في رمضان، وأن يجعل لنفسه نصيباً من صيام النفل، يتقرب به إلى ربه، وينال الفوائد المتنوعة الحاصلة من جرائه، والتي منها ما نحن بصدده وهو تقوية الإرادة.

هـ- التجارب: فمن تعلق همه بأمر كان قد عرف بطريق التجربة أنه ميسور، وأن عاقبته سلامة انقلب همه في الحال عزماً صادقاً، أما من لم تسبق له تجربة فقد يتخيل الأمر بمكان لا تناله يده، أو يخشى من أن يلاقي وراء السعي إليه خيبة، فيقف في تردد وإحجام، ولذلك فذو العمر الطويل من أولي الألباب قد يكون أسرع إلى بعض الأمور، وأشد عزماً عليها من حديث السن؛ لما تفيده التجارب من إمكانها، ونجاح السعي إليها.

و- المبادرة للعمل والتنفيذ لما أردناه: فلا نترك الإرادة تتبخر من غير أن ننفذ ما عزمنا عليه من عمل؛ فإن ذلك يضعف الإرادة، ويورثها الفشل والإخافق، فإذا عزمنا عزمة فلننفذها، أو نحاول ذلك ما استطعنا إليه سبيلاً، قال ابن المقفع: "إذا هممت بخير فبادر هواك؛ لا يغلبك، وإذا هممت بشر فسوّف هواك؛ لعلك تظفر؛ فإن ما مضى من الأيام والساعات على ذلك هو الغنم" [8]، وقال: "اغتنم من الخير ما تعجلت، ومن الأهواء ما سوفت، ومن النصب ما عاد [9] عليك، ولا تفرح بالبطالة، ولا تجبن عن العمل" [10].

ز- النظر في التاريخ: فالذي يخطر في باله أمر قد قرأ في سيرة شخص أنه قد هم بمثله، وعمل لحصوله، فنجح في عمله، وصلحت عاقبته، شأنه أن يعزم على ذلك الخاطر، ويجعله بعد العزم عملاً نافذاً.

ح- أن نعرِّف النفس طرق الخير والشر: فقد تكون الإرادة قوية، ولكن مرضها في اتجاهها وميلها نحو الجرائم والشرور، فعلاجها حينئذ أن نعرف النفس طرق الخير والشر، وأن نلزمها سلوك سبيل الخير، وأن نحوطها بكل ما يحببها بالخير، وأن نتذرع بالصبر في مقاومة ميلها إلى الشرور؛ حتى تهتدي إلى الصراط المستقيم، كما نفعل بالشجرة الفتية إذا نحن آنسنا منها اعوجاجاً فإنا نحوطها بكل ما يصلح وجهتها، ونقاوم اعوجاجها مدة حتى تستقيم قناتها، ويصلب عودها، فلا تتأثر بعد ذلك بشيء، وبالجملة فكل مجهود يبذل في مقاومة هوى أو شهوة، ثم يؤدي التغلب عليهما لكسب الإرادة يعد قوة وشجاعة [11].

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1]- انظر الأخلاق لأحمد أمين ص53 ، وقوة الإرادة وطرق تنميتها لصلاح مراد ص9-11.
[2]- غذاء الألباب 2/454.
[3]- غذاء الألباب 2/456-457.
[4]- كتاب الفنون لابن عقيل 2/496.
[5]- انظر: إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان لابن القيم تحقيق مجدي السيد ص82-89 ، ففهي كلام جميل على محاسبة النفس.

[6]- انظر: عيون البصائر ص538-539.
[7]- انظر: عيون البصائر ص538-540 ، 573-574.
[8]- الأدب الصغير والأدب الكبير ص68-69.
[9]- ما عاد عليك: أي ما كان نافعاً لك.
[10]- الأدب الصغير والأدب الكبير ص79.
[11]- انظر: الأخلاق ص52-56 ، 66 ، وانظر رسائل الإصلاح 1/65-69. 

المصدر: كتاب: الهمة العالية