(26) أسباب اكتساب الهمة العالية (10)

محمد بن إبراهيم الحمد

"..ينقل التاريخ شذرات من حوادث المنصفين لمن خالفهم في أمر، أو المعترفين لبعض خصومهم بفضيلة، فتهتز في نفوس قرائها عاطفة احترام لمن أقرّ بالخطأ، أو اعترف لخصمه بخصلة حمد. وربما كان إكبارهم لمن أقرّ بالخطأ فوق إكبارهم لمن خالفه في الرأي فأصاب. وربما كان إكبارهم لمن شهِد لخصمه بمكرمةٍ فوق إكبارهم للشخص المشهود له بتلك المكرمة. وسبب هذا الإكبار عظمة الإنصاف، وعِزَّة من يأخذ بها في كل حال".

  • التصنيفات: تزكية النفس -

27- لزوم الإنصاف:

فالإنصاف خُلقٌ رفيع، وأدبٌ سامٍ، يدل على كرم النفس، وصفاء السريرة، والبُعد عن الأثرة، وهو من الخصال التي لا تنبت إلا في نفس زكية كريمة، نبتت في بئية صالحة.

فبالإنصاف يقوى الفهم، ويتسع الأُفق، ويعلو القدر، ويسود الود، وتقوى الصلات.

فيا من يروم المعالي، ويتطلّب الكمالات عليك بلزوم الإنصاف، وتحري العدل.

وإذا لم ينصفك الرجل فرد عليك الحق بالشمال واليمين، أو جحد جانبًا من فضلك وهو يراه رأي العين - فلا تكن قلة إنصافه حاملةٌ لك على أن تقابله بالعناد، فترد عليه حقًا، أو تجحد له فضلًا، واحترس من أن تسري لك من خصومك عدوى هذا الخُلق الممقوت، فيلج في نفسك، وينشط له لسانك أو قلمك، وأنت تحسبه من محاربة الخصوم بمثل سلاحهم.

كلَّا، لا يحارب الرجل خصومه بمثل الاعتصام بالفضيلة، ولا سيما فضيلة كفضيلة الإنصاف؛ فهي تدل على نفسٍ مطمئنة، وهمةٌ عالية، ونظرٌ في العواقب بعيد.

ولئن كان الإنصاف جميلًا فلهو مع الأقران أجمل وأجمل؛ ذلك أن الرجل يسهل عليه أن ينصف من هو أكبر منه سنًا أكثر مما يسهل عليه أن ينصف أقرانه؛ ذلك لأن أكبر عائق عن الإنصاف التحاسد؛ فحسد الإنسان لأقرانه أكبر وأشد من حسده للمتقدمين عليه في السن.

بل يسهل عليه أن ينصف أقرانه أكثر مما يسهل عليه أن ينصف من هو أحدث سنًا منه؛ إذ يسبق إلى ظنه أن ظهور مزية لمن هو أحدث عهدًا منه قد تفضي إلى أن يكون ذكره أرفع.

وفضل القرين على بعض أقرانه شائع أكثر من فضل المتأخر على المتقدم؛ وشيوع الشيء يجعله أهون على النفس مما هو أقل شيوعًا منه؛ فإذا أنصف المرء من هو أحدث سنًا منه دل ذلك عل كرم نفسه، وشرف همته، وتناهي فضله.

أخرج ابن الجوزي عن عمر بن سعيد عن أمه قالت: "قدِم ابن عمر مكة، فسألوه، فقال: أتجمعون لي يا أهل مكة المسائل وفيكم ابن رباح -يعني عطاء-"[1].

فابن عمر رضي الله عنه كان صحابيًا وعطاء رحمه الله كان تابعيًا، ومع ذلك لم يجد ابن عمر غضاضة أو حرجًا من إنصاف عطاء.

فينبغي أن يتيقظ للأحوال التي تتقوى فيها داعية العناد، ويعد للوقوف عند حدود الإنصاف، ومقاومة تلك الداعية - ما استطاع من قوة.

كذلك لا يصعب على الرجل أن يُنصِف قريبًا أو صديقًا، بل لا يصعب عليه أن يُنصِف من لا تربطه به قرابة، أو صداقة، ولا تبعده منه عداوة.

والإنصاف الذي قد يحتاج فيه إلى مراوضة النفس كثيرًا أو قليلًا - هو أن يبدي بعض أعدائه رأيًا سديدًا، أو يناقشه في رأيٍ مناقشةً صائبة؛ فهذا موطن تذكير النفس بأدب الإنصاف، وإنذارها ما يترتب على العناد من إثمٍ وفساد.

قال تعالى: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة من الآية:8].

ومن الإنصاف الذي يدل على الرسوخ في الفضيلة أن يتحدّث الرجل عن خصمه، فينسب إليه ما يعرفه من فضل.

أنشد رجل في مجلس أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه قول الشاعر:

فتى كان يدنيه الغنى من صديقه *** كأن الثريا علقت بجبينه
إذا ماهو استغنى ويبعده الفقر *** وفي خده الشعرى وفي الآخر البدر

فلما سمعها علي رضي الله عنه قال: "هذا طلحة بن عبيد الله، وكان السيف ليلتئد مجردًا بينهما"[2].

كذلك قد تقول قولًا تراه صوابًا، وقد تعمل عملًا تحسبه حسنًا، فينقده آخر بميزان العلم الصحيح، ويُريك أنك قد قلت خطأً، أو عمِلت سيئًا.

ففي مثل هذا المقام قد تجد في نفسك كراهة للاعتراف بالخطأ في القول، أو الإساءة بالعمل.

فإن كنت على ذِكرٍ في فضيلة الإنصاف والرجوع إلى الحق، وعلى بينةٍ من قبح الإصرار على الباطل - لم تلبث أن تكظم الكراهة، ولم تجد في نفسك حرجًا من أن تقول للناس: إني أخطأت في قولي، أو أسأت في عملي.

ولهذا فالأكابر لا يأنفون من الاعتراف بالخطأ إذا أخطأوا، ولا يتلبثون في الرجوع إلى الحق ولو عظمت مناصبهم، وعلت أقدارهم.

والراسخون في الفضيلة لا يبالون أن يكون رجوعهم عن الخطأ أمام من خالفهم وحده، أو بمحضر جمعٍ كبير.

"وقل ينقل التاريخ شذرات من حوادث المنصفين لمن خالفهم في أمر، أو المعترفين لبعض خصومهم بفضيلة، فتهتز في نفوس قرائها عاطفة احترام لمن أقرّ بالخطأ، أو اعترف لخصمه بخصلة حمد. وربما كان إكبارهم لمن أقرّ بالخطأ فوق إكبارهم لمن خالفه في الرأي فأصاب. وربما كان إكبارهم لمن شهِد لخصمه بمكرمةٍ فوق إكبارهم للشخص المشهود له بتلك المكرمة. وسبب هذا الإكبار عظمة الإنصاف، وعِزَّة من يأخذ بها في كل حال"[3].
 
ولو أخذت هذه الخصلة حظها من النفوس لعم الائتلاف، ولقل الاختلاف.

عن الربيع بن يسلميان قال: "سمعت الشافعي يقول: ما أوردت الحق والحجة على أحدٍ فقبلها مني إلا هِبته، واعتقدت مودته. ولا كابرني على الحق أحد، ودافع الحجة إلا سقط من عيني"[4].

"ونقرأ في تاريخ العلامة محمد بن عبد السلام أن ابن الصباغ اعترض عليه في أربع عشرة مسألة، فلم يدافع عن واحدة منها، بل أقرّ بالخطأ فيها جميعًا"[5].

فإذا كان الإنصاف بتلك المثابة -كان واجبًا على أولياء الأطفال، وأساتذة الأخلاق، ودعاة الإصلاح- أن يجعلوا له من تربيتهم، وتعليمهم، ودعوتهم نصيبًا يكفي لأن نرى كتابتاتنا وأقوالنا نقية من جحود الحق، ومن جحود الفضل.

هذا.. ومما يعين على اكتساب خلق الإنسان زيادة على ما مضى ما يلي:

أ- استحضار فضيلة الإنصاف: وقد مرّ بنا شيءٌ من ذلك في بداية الحديث عن الإنصاف؛ فإذا استحضر المرء فضيلة الإنصاف وجد ما يبعثه إلى الأخذ به، ولزومه، ولو لم يأتِ من فضائله إلا أن اللَّه أمر به، وأنه عز وجل يحب أهله.

قال تعالى: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} [النحل من الآية:16]. وقال: {وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات من الآية:9].

ب- أن يحب المرء لإخوانه ما يحبه لنفسه: فذلك أقرب للتقوى، وأنفى للوحشة والبغضاء، وأدعى للعدل والرحمة، والمودة والقربى؛ "فأعدل السير أن تقيس الناس بنفسك، فلا تأتي إليهم إلا ما ترضى أن يؤتى إليك"[6].

قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه»[7].

قال الشافعي رحمه الله: "ما ناظرت أحدًا فأحببت أن يخطئ"[8].

وقال: "ما ناظرت أحدًا قط إلا أحببت أن يُوفّق، ويُسدّد، ويُعان، ويكون عليه رعاية من الله، وحفظ"[9].

وقال الخطابي رحمه الله:
ارض للناس جميعًا *** إنما الناس جميعًا
فلهم نفس كنفسك *** مثل ما ترضى لنفسك
كلهم أبناء جنسك *** ولهم حس كحسك[10]

ج- أن يضع المرء نفسه موضع خصمه: فذلك مما يدعو لالتماس المعاذير، والبُعد عن إساءة الظن، والحذر من مواطن الظلم والاعتساف.

قال ابن حزم رحمه الله: "من أراد الإنصاف فليتوهم نفسه مكان خصمه؛ فإنه يلوح له وجه تعسفه"[11].

د- التجرّد للحق: فإذا تجرّد المرء للحق، وآثره، وحرص على طلبه - وُفِّق له، ولم يجد صعوبةً في لزوم العدل.

قال الرافعي رحمه الله: "متى ما وقع الخلاف بين اثنين، وكانت النية صادقة مُخلصَة - لم يكن اختلافهما إلا من تنوّع الرأي، وانتهيا إلى الاتفاق بغلبة أقوى الرأيين، ما مِن ذلك بد"[12].

وقال الشافعي رحمه الله: "وما ناظرت أحدًا إلا ولم أبالِ: أبيّن الله الحق على لساني أو لسانه"[13].

28- لزوم الصدق والصراحة، والترفُّع عن النفاق والمواربة:

فإن للصدق آثارًا حميدة، وعوائدٌ عديدة؛ فالصدق حسنة تنساق بصاحبها إلى الحسنات؛ ذلك أنه دليل على حُسن السيرة، ونقاء السريرة، وسمو الهمة، ورجحان العقل.

فبالصدق يُشرّف قدر المرء، وتعلو منزلته، ويصفو باله، ويطيب عيشه.

فالصدق يُنجي صاحبه من وخز الضمير، وذُل الاعتذار، ومن إساءة الناس إليه، ونزع الثقة منه.

ثم إن الصدق يُكسِب صاحبه عِزَّة وشجاعة، وثقة في النفس، فيظل موفور الكرامة عزيز النفس، مهيب الجناب.

وهذه الأخلاق تقود إلى تطلب الكمال، والأنفة من الذل.

ولا يمكن أن يستقيم لأحدٍ سؤدد، ولا تعلو له مكانة، ولا يحرز قبولًا في قلوب الناس - ما لم يُرزَق لسان صدق[14].

"ومن صدَق الله في جميع أموره صنع الله له فوق ما يصنع لغيره. وهذا الصدق معنى يلتئم من صحة الإخلاص وصدق التوكل، فأصدق الناس من صحة إخلاصه وتوكله"[15].


ولهذا فإن من أعظم آداب صاحب المروءة - أن يكون صريحًا صادق اللهجة، مُترفعًا عن النفاق والمواربة، فلا يُبدي لشخصٍ الصداقة، وهو يحمل العداوة، أو أن يشهد له باستقامة السيرة، وهو يراه مُنحرفًا عن سواء السبيل.

قال الحكيم العربي:
فسري كإعلاني وتلك خليقتي *** وظلمة ليلي مثل ضوء نهاريا[16]

والمراد: أن صاحب المروءة لا يتخذ الظهور بخلاف ما يُضمر عادةً له كحال ما يفعله قوم لا تشمئز نفوسهم من التملُّق والرياء.

أما إذا اقتضت الحكمة إخفاء بعض ما يضمر من نحو العداوة والصداقة - فإن اتباع ما تقتضيه الحكمة من مكملات المروءة[17].

ثم إن الحكمة قد تقتضي أن يلجأ المرء إلى المعاريض؛ ذلك أن الإنسان في هذه الدنيا مُعرّض للبلاء، ومن أشد البلاء ما يمنعك من أن تقضي حق فضيلة.

فقد يلاقي الإنسان حالًا تُرغِمه على أن ينطق بما يكره، ويسلك في القول ما لم يألف.

ولو وقف علم الأخلاق أمام هذه الأحوال المرغمة صلبًا جامدًا - لضاقت سبيله، ولوجدت بعض النفوس مناصًا للخروج عليه.

إلا أن علم الأخلاق -الذي أرسى الإسلام قواعده، ورفع مناره- فسيح الصدر بمقدار ما يسع مقتضيات الحياة الفاضلة.

فصدق اللهجة يُعد من الفضائل؛ نظرًا إلى ما هو شأنه من حفظ المصالح، وردء المفاسد.

ولو عرضت على وجه الندرة حال يكون حديث الرجل فيها على نحو ما يعلم جالِبًا عليه أو على غيره ضررًا فاحشًا - لوجد في نظام الأخلاق مرونة تسمح له بأن يصوغ حديثه في أسلوب لا يجلب ضررًا.

فإذا وقع الإنسان في حال لا يليق معه التصريح بأمرٍ واقع، ولم يكن بُدٌ من أن يقول في شأنه شيئًا - فههنا يُفسح له أن يأخذ بالمعاريض، وهي ألفاظٌ محتملةٍ لمعنيين؛ يفهم السامع منها معنى، ويريد المتكلِّم منها معنىً آخر.

وإن شِئت فقل: هي ألفاظٌ ذات وجهين: أحدهما غير حقيقة، وهو ما يسبق إلى فهم المخاطب، وثانيهما حقيقة، وهو ما يقصده المتكلِّم.

فهذه الحالة لا تخرج المرء من أهل الصدق، ولا تُلحِقه بزمرة الكذّابين.

وهذا ما يفعله الذين أُشرِبوا صدق اللهجة متى عرفوا أن في القول الصريح حرجًا أو خطرًا[18].

وإذا كان الصدق بهذه المثابة فالواجب علينا -معاشر المسلمين- أن نلزم الصدق ونتحراه، وأن نوطِّن أنفسنا على الأخذ به، وأن يكون هيئة راسخة يعتمده الواحد مِنَّا في جميع أحواله، لا أن يكون موسميًا، أو مرتبطًا بحالةٍ معينة.

قال ربنا تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:119].

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «عليكم بالصدق؛ فإن الصدق يهدي إلى البِر، والبِر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق حتى يُكتب عند الله صديقًا»[19].

قال ابن السماك: "ما أحسبني أُؤجر على ترك الكذب، لأني أتركه أنفَه"[20].

وقال بعض الحكماء: "الصدق عِزٌ، والكذب خضوع"[21].

وقال آخر: "لو لم يترك العاقل الكذب إلا مروءة لقد كان حقيقًا بذلك، فكيف وفيه المأثم والمغرم؟"[22].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المراجع:

[1]- (صفة الصفوة، لابن الجوزي، ص: [2/143]).

[2]- (انظر: رسائل الإصلاح، ص: [1/43]).

[3]- (رسائل الإصلاح: [1/46]).

[4]- (صفة الصفوة: [2/167]).

[5]- (رسائل الإصلاح: [1/42]).

[6]- (الأدب الصغير والأدب الكبير، ص: [73]).

[7]- (رواه البخاري: [1/9]، ومسلم: [45]).

[8]- (صفة الصفوة: [2/167]).

[9]- (صفة الصفوة: [2/167]).

[10]- (أقوال مأثورة، ص: [456]).

[11]- (الأخلاق والسير، ص: [80]).

[12]- (وحي القلم: [2/315]).

[13]- (صفة الصفوة: [2/167]. وانظر: تفصيل الحديث الحديث عن الإنصاف في رسائل الإصلاح، ص: [1/ 38-47]، وأخطاء في أدب المحادثة والمجالسة؛ لمحمد بن إبراهيم الحمد، ص: [68-84]).

[14]- (انظر: رسائل الإصلاح، ص: [2/ 101-102]، وانظر: الكذب.. مظاهره، علاجه؛ لمحمد بن إبراهيم الحمد، ص: [33-38]).

[15]- (الفوائد؛ لابن القيم، ص: [266]).

[16]- (عيون الأخبار: [1/296]).

[17]- (انظر: رسائل الإصلاح، ص: [1/211]).

[18]- (انظر: صحيح مسلم بشرح النووي، ص: [16/ 157-158]، ورسائل الإصلاح: [2/100]، والكذب.. مظاهره، علاجه؛ لمحمد بن إبراهيم الحمد، ص: [19-23]).

[19]- (رواه البخاري: [10/422]، ومسلم: [2607]).

[20]- (المحاسن والمساوئ، ص: [433]).

[21]- (المحاسن والمساوئ، ص: [433]).

[22]- (المحاسن والمساوئ، ص: [433]).

 

المصدر: كتاب: الهمة العالية