(38) نماذج رائعة للهمة العالية: نور الدين محمود (1)

محمد بن إبراهيم الحمد

هو صاحب الشام، الملك العادل، نور الدين ناصر أمير المؤمنين تقي الملوك، ليث الإسلام، أبو القاسم محمود ابن الأتابك قسيم الدولة أبي سعيد عماد الدين زنكي ابن الأمير الكبير آقسنقر التركي السلطاني الملكشاهي [1]، قال عنه ابن كثير: "ولد وقت طلوع الشمس من يوم الأحد السابع عشر من شوال سنة إحدى عشرة وخمسمائة بحلب، ونشأ في كفالة والده صاحب حلب والموصل، وغيرها من البلدان الكثيرة الكبيرة، تعلم القرآن، والفروسية، والرمي، وكان شهماً شجاعاً، ذا همة عالية، وقصد صالح، وحرمة وافرة، وديانة بينة".

  • التصنيفات: التاريخ والقصص - تزكية النفس -

سير عظماء الرجال من علماء ومجاهدين، وكرماء، وأبطال من أعظم ما يبعث الهمة، ويقدح زندها، ويذكي أوارها؛ ذلك أن حياة أولئك كما مر تتمثل أمام القارىء، وتوخي إليه بالاقتداء بهم، والسير على منوالهم، وكثيراً ما دفع الناس إلى العمل الجليل حكاية قرؤوها عن رجل عظيم، أو حادثة رويت عنه، وأمتنا الإسلامية على مر العصور لم تخل من نماذج عظيمة، وقمم سامقة؛ سواء في ميادين العلم والعبادة، أو في ميادين الجهاد والدعوة، أو في ميادين البذل والعطاء والتضحية، أو نحو ذلك..

وإليك أخي القارىء هذه الإشارات العابرة، والنتف اليسيرة، لرجال أفذاذ أبطال، ملأوا حياتهم بجلائل الأعمال، فشهدت لهم الأمة بعلو المنزلة، وسجل لهم التاريخ تلك المآثر، ولن يكون الحديث ها هنا عن سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم فلقد سبقت الإشارة السريعة إلى شيء من ذلك، ولأجل ألا يقال هذا رسول الله مؤيد بالوحي من ربه..

بل ولن يكون عن الصحابة الكرام رضي الله عنهم فلقد سبقت الإشارة إليهم بشيء من الإجمال، ولئلا يقال هؤلاء الصحابة قد تربوا على يدي رسول الله وشهدوا الوحي وهو يتنزل عليه..   فـ:

لا تعرضن بذكرهم مع ذكرنا *** ليس الصحيح إذا مشى كالمقعد


وإنما سيكون الحديث عن أناس تأخر بهم الزمان عن عهد النبوة والصحبة، ومع ذلك نالوا ما نالوه من مجد وسؤدد وذلك عندما زكت نفوسهم، وعلت هممهم، وحسن اتباعهم، وهذه بعض النماذج لهؤلاء تبين بعض ملامح النبوغ والألمعية، وتكشف جوانب الهمة العالية في شخصية أولئك.

هو صاحب الشام، الملك العادل، نور الدين ناصر أمير المؤمنين تقي الملوك، ليث الإسلام، أبو القاسم محمود ابن الأتابك قسيم الدولة أبي سعيد عماد الدين زنكي ابن الأمير الكبير آقسنقر التركي السلطاني الملكشاهي [1]، قال عنه ابن كثير: "ولد وقت طلوع الشمس من يوم الأحد السابع عشر من شوال سنة إحدى عشرة وخمسمائة بحلب، ونشأ في كفالة والده صاحب حلب والموصل، وغيرها من البلدان الكثيرة الكبيرة، تعلم القرآن، والفروسية، والرمي، وكان شهماً شجاعاً، ذا همة عالية، وقصد صالح، وحرمة وافرة، وديانة بينة" [2].

لقد خرج هذا الرجل في فترة حرجة من تاريخ الأمة الإسلامية؛ فلقد كانت الأمة تعاني من التفكك والانحلال، وتسلط الأعداء، وانتشار البدع، فالأمراء والملوك -آنذاك- كل واحد منهم يقبع في أمارة أو دويلة صغيرة, وبينهم ما بينهم من التفرق والتنافر والخلاف، والصليبيون يعيشون في بلاد الشام فساداً بعد أن استولوا على كثير من الحصون والقلاع والمدن.

والعبيديون الباطنيون كانوا مستولين على مصر؛ فكانت أعلام البدعة مرفوعة، وأعلام السنة موضوعة، مما جعل الحاجة -بل الضرورة- ماسة إلى من يوحد كلمة الأمة، ويلم شعثها، ويصد فلول الأعداء عنها، فكان أن خرج نور الدين الذي كان أبرز أبطال الحروب الصليبية، والذي كان بروزه نقطة تحول في تاريخ تلك الحروب؛ فإن له من اسمه نصيباً؛ فلقد أوقد في دياجير الظلمة جذوة الدين، وأنزل الهزائم الساحقة بالصليبين، وامتشق حماسه منذ نعومة أظفاره، فلم يغمده حتى أتاه اليقين، وبعد أن قرت عينيه بتألق نجم تلميذه صلاح الدين حتى قام على تراث الشهيد بالرعاية والصيانة والتمكين [3].

وإن مما يقوي الرغبة في دراسة سيرة هذا الرجل -أعني نور الدين- هو ذلك التشابه بين الأوضاع القاسية التي مرت بها أمة الإسلام في الماضي، وبين الأوضاع التي نعيشها حاليًا؛ فكأن التاريخ يعيد نفسه؛ فكان من مسوغات الحديث عن سيرته الاستفادة من هموم الماضي لعلاج الحاضر [4]، فإلى ما يلي من أسطر تكشف لنا شيئاً من تلك السيرة العطرة لذلك المجاهد العظيم، تلك السيرة التي تنبي عن همة عالية ونفس كبيرة، وتبين عن شجاعة متناهية وبطولة وسؤدد.

أولاً: صفاته ومناقبه:
لقد جمع الله لنور الدين الشيء الكثير، ولقد آتاه من مهيئات النبوغ، ومقومات الألمعية ما جعله يتبوأ تلك المكانة العلية من تاريخ الأمة الإسلامية، فمن تلك الصفات التي اتصف بها نور الدين ما يلي:

أ- التقوى والصلاح:
فلقد كان نور الدين تقيَّاً، صالحاً، ورعاً، زاهداً، يخاف الله تبارك وتعالى.
وكان ذا تأله وعبادة، وأوراد، وقيام بالليل، وكان كثير التضرع، والدعاء واللجوء إلى الله عز وجل.

قال ابن الأثير متحدثاً عن صفات نور الدين: "فمن ذلك زهده، وعبادته، وعلمه؛ فإنه كان لا يأكل، ولا يلبس، ولا يتصرف إلا في الذي يخصه من ملك كان له قد اشتراه من سهمه من الغنيمة، ومن الأموال المرصدة لمصالح المسلمين، ولقد شكت إليه زوجته من الضائقة، فأعطاها ثلاثة دكاكين في حمص كانت له، يحصل له منها في السنة نحو العشرين ديناراً، فلما استقلتها قال: ليس لي إلا هذا، وجميع ما بيدي أنا فيه خازن للمسلمين فيه، ولا أخوض نار جهنم لأجلك، وكان يصلي كثيراً بالليل، وله أوراد حسنة، وكان كما قيل:

جمع الشجاعةَ والخشوعَ لربه *** ما أحسن المحرابَ في المحراب[5]


وكذلك كانت زوجته عصمت الدين خاتون بنت الأتابك معين، تكثر القيام في الليل، فنامت ذات ليلة عن وردها فأصبحت وهي غضبى، فسألها نور الدين عن أمرها، فذكرت نومها الذي فوت عليها وردها، فأمر نور الدين عند ذلك بضرب طلبخانة [6] في القلعة وقت السحر؛ لتوقظ النائم ذلك الوقت لقيام الليل، وأعطى الضارب على الطلبخانة أجراً جزيلاً، وجراية كثيرة.

فألبس الله هاتيك العظام وإن **** بَلِيْنَ تحت الثرى عفواً وغفرانا
سقى ثرىً أوْدَعُوه رحمة ملأت *** مثوى قبورهم روحاً وريحانا"[7]


وقال الفقيه أبو الفتح الأشري معيد النظامية ببغداد، وكان قد جمع سيرة مختصرة لنور الدين قال: "وكان نور الدين محافظاً على الصلوات في أوقاتها في جماعة بتمام شروطها، والقيام بها بأركانها، والطمأنينة في ركوعها وسجودها، وكان كثير الصلاة بالليل، كثير الابتهال والتضرع إلى الله عز وجل في أموره كلها".

قال: "وبلغنا عن جماعة من الصوفية ممن يعتمد قولهم أنهم دخلوا بلاد القدس للزيارة أيام أخذ القدس الفرنج، فسمعتهم يقولون: إن القسيم ابن القسيم -يعنون بذلك نور الدين- له مع الله سر فإنه لم يظفر وينصر علينا بكثرة جنده وجيشه، وإنما يظفر علينا وينصر بالدعاء وصلاة الليل، فإنه يصلي بالليل، ويرفع يده إلى الله ويدعوه، فإنه يستجيب له، ويعطيه سؤله، فيظفر علينا، -قال-: فهذا كلام الكفار في حقه" [8].

وقال ابن كثير: "وقد كان حسن الخط، كثير المطالعة للكتب الدينية، متبعاً للآثار النبوية، محافظاً على الصلوات في أوقاتها مع الجماعات، كثير التلاوة، محباَ لفعل الخيرات، عفيف البطن والفرج، مقتصداً في الإنفاق على نفسه وعياله في المطعم والملبس حتى قيل: إنه كان أدنى الفقراء في زمانه أعلا نفقة منه، من غير اكتناز ولا استئثار بالدنيا، ولم يسمع منه كلمة فحش قط في غضب ولا رضى، صموتاً وقوراً" [9].

وقال الذهبي: "وكان نور الدين مليح الخط، كثير المطالعة، يصلي في جماعة، ويصوم ويتلو، ويسبح ويتحرى في القوت، ويتجنب الكبر، ويتشبه بالعلماء والأخيار، ذكر هذا ونحوه الحافظ ابن عساكر" [10]، وقال الموفق عبد اللطيف: "وكان يأكل من عمل يده، ينسخ تارة، ويعمل أغلافاً تارة ويلبس الصوف، ويلازم السجادة والمصحف" [11].

وقال سبط بن الجوزي: "كان له عجائز، فكان يخبط الكوافي، ويعمل السكاكر، فيَبِعْنَها سراً ويفطر على ثمنها" [12]، وقال أيضاً: "حكى لي نجم الدين بن سلام عن والده أن الفرنج لما نزلت على دمياط ما زال نور الدين عشرين يوماً يصوم ولا يفطر إلاّ على الماء، فضعف حاله وكاد يتلف، وكان مهيباً ما يجسر أحداً أن يخاطبه في ذلك، فقال إمامة بن يحيى: (إنه رأى النبي في النوم يقول يا يحيى، بَشِّر نور الدين برحيل الفرنج عن دمياط، فقلت: يا رسول الله، ربما لا يصدقني، فقال: قل له: بعلامة يوم حارم) [13].

وانتبه يحيى، فلما صلى نور الدين الصبح وشرع يدعو هابه يحيى، فقال له: يا يحيى، تحدثني أو أحدثك، فارتعد يحيى، وخرس، فقال: أنا أحدثك: رأيت النبي هذه الليلة، وقال كذا وكذا، قال: نعم، قال: فبالله يا مولانا، ما معنى قوله: بعلامة يوم حارم؟ فقال: لما التقينا العدو خفت على الإسلام فانفردت، ونزلت ومرغت وجهي على التراب، وقلت: يا سيدي من محمود في البين؟ الدين دينك، والجند جندك، وهذا اليوم افعل ما يليق بكرمك، قال: فنصرنا الله عليهم" [14].

ب: العدل:
كان نور الدين عادلاً متحرياً للعدل في كافة أموره، حتى أنه أصبح مضرباً للمثل في العدل، بل إنه يسمى الملك العادل، قال ابن الأثير: "وقد طبق الأرض بحسن سيرته وعدله، وقد طالعت سير الملوك المتقدمين فلم أر بعد الخلفاء الراشدين وعمر بن عبد العزيز أحسن من سيرته، ولا أكثر تحرياً منه للعدل" [15].

وقال أيضاً: "وأما عدله فإنه لم يترك في بلاده على سعتها مكس ولا عشراً، بل أطلقا جميعاً في مصر، والشام، والجزيرة، والموصل، وكان يعظم الشريعة، ويقف عند أحكامها، وأحضره إنسان إلى مجلس الحكم، فمضى معه إليه، وأرسل إلى القاضي كمال الدين بن الشهرزوري يقول: (قد جئت محاكماً؛ فاسلك معي ما تسلك مع الخصوم)، وضهر الحق له، فوهبه الخصم الذي أحضره، وقال: (أردت أن أترك ما يدعيه، وانما خفت أن يكون الباعث لي على ذلك الكبر والأنفة من الحضور إلى مجلس الشريعة، فحضرت ثم وهبته ما يدّعيه)، وبنى دار العدل في بلاده، وكان يجلس هو والقاضي فيها ينصف المظلوم ولو أنه يهودي من الظالم ولو أنه ولده أو أكبر أمير عنده" [16].

وقال أيضاً في كتابه التاريخ الباهر: "كان عارفاً بالفقه على مذهب الإمام أبي حنيفة، ليس عنده فيه تعصب، بل الإنصاف سجيته في كل شيء" [17]، وقال الذهبي: "صاحب الشام الملك العادل نور الدين" [18]، وقال: "وكان نور الدين حامل رايتي العدل والجهاد، قلّ أن ترى العيون مثله" [19]، وقال ابن كثير: "وكان يقوم بأحكامه بالمعدلة الحسنة، واتباع الشرع المطهر، ويعقد مجالس العدل ويتولاها بنفسه، ويجتمع إليه في ذلك القاضي، والفقهاء، والمفتيون من سائر المذاهب، ويجلس يوم الثلاثاء بالمسجد المعلق الذي بالكشك؛ ليصل إليه كل واحد من المسلمين وأهل الذمة حتى يساويهم" [20].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1]- انظر سير أعلام النبلاء للذهبي 20/531.
[2]- البداية والنهاية لابن كثير 12/299.
[3]_ انظر أبطال ومواقف لأحمد فرح عقيلان ص431، ونور الدين زنكي في الأدب العربي في عصر الحروب الصليبية لمحمود فايز السرطاوي ص9.
[4]_ انظر نور الدين زنكي في الأدب العربي ص10.
[5]- المحراب الأولى: صيغة مبالغة بمعنى كثير الحرب، والمحراب الثانية قبلة الصلاة، وبين الكلمتين جناس تام كما هو معروف عند البلاغيين في فن البديع.

[6]- الطلبخانة نوع من الطبول، وهب بمثابة المدافع في عصرنا الحاضر.
[7]- الكامل في التاريخ لابن الأثير 9/225 وانظر البداية والنهاية لابن كثير 12/300_ 301.
[8]- البداية والنهاية 12/304.
[9]- البداية والنهاية 12/300.
[10]- سير أعلام النبلاء 20/533.

[11]- سير أعلام النبلاء 20/534.
[12]- سير أعلام النبلاء 20/537.
[13]- أحد المعارك التي خاضها نور الدين.
[14]- سير أعلام النبلاء 20/538.
[15]- الكامل 9/125.

[16]- الكامل 9/125.
[17]- التاريخ الباهر في أخبار الدولة الأتابكية لابن الأثير ص165.
[18]- سير أعلام النبلاء 20/531.
[19]- سير أعلام النبلاء 20/532.
[20]- البداية والنهاية 12/299. 

المصدر: كتاب: الهمة العالية