(96) الحسبة واسطة بين أحكام القضاء وأحكام المظالم (2)

إنَّ النظر في المظالم موضوع لما عجز عنه القضاة، والنظر في الحسبة موضوع لما رفه عنه القضاة، ولذلك كانت رتبة المظالم أعلى، ورتبة الحسبة أخفض.

  • التصنيفات: السياسة الشرعية -

الباب العشرون: في أحكام الحسبة

الحسبة واسطة بين أحكام القضاء وأحكام المظالم (2)

 

فصل:

واعلم أن الحسبة واسطة بين أحكام القضاء وأحكام المظالم، فأمَّا ما بينهما وبين القضاء فهي موافقة لأحكام القضاء من وجهين، ومقصورة عنه من وجهين، وزائدة عليه من وجهين:

فأما الوجهان في موافقتها لأحكام القضاء:

فاحدهما: جواز الاستعداء إليه وسماعه دعوى المستعدي على المستعدى عليه في حقوق الآدميين، وليس هذا على عموم الدعاوى، وإنما يختص بثلاثة أنواع من الدعوى:

أحدها: أن يكون فيما يتعلق ببخس وتطفيف في كيل أو وزن.

والثاني: ما يتعلق بغش أو تدليس في مبيع أو ثمن.

والثالث: فيما يتعلق بمطل وتأخير لدَيْن مستحق مع المكنة، وإنما جاز نظره في هذه الأنواع الثلاثة من الدعاوى دون ما عداها من سائر الدعاوى؛ لتعلقها بمنكر ظاهر هو منصوب لإزالته، واختصاصها بمعروف بيّن هو مندوب إلى إقامته؛ لأن موضوع الحسبة إلزام الحقوق والمعونة على استيفائها، وليس للناظر فيها أن يتجاوز ذلك إلى الحكم الناجز والفصل البات، فهذا أحد وجهي الموافقة.

والوجه الثاني: إنَّ له إلزام المدعى عليه للخروج من الحق الذي عليه، وليس هذا على العموم في كل الحقوق، وإنما هو خاص في الحقوق التي جاز له سماع الدعوى فيها، وإذا وجبت باعتراف وإقرار مع تمكنه وإيساره، فيلزم المقر الموسر الخروج منها ودفعها إلى مستحقها؛ لأن في تأخيره لها منكرًا هو منصوب لإزالته.

وأما الوجهان في قصورها عن أحكام القضاء:

فاحدهما: قصورها عن سماع عموم الدعاوى الخارجة عن ظواهر المنكرات من الدعاوى في العقود والمعاملات وسائر الحقوق والمطالبات، فلا يجوز أن ينتدب لسماع الدعوى لها، ولا أن يتعرّض للحكم فيها، لا في كثير الحقوق، ولا في قليلها من درهم فما دونه، إلَّا أن يرد ذلك إليه بنص صريح يزيد على إطلاق الحسبة، فيجوز ويصير بهذه الزيادة جامعًا بين قضاء وحسبة، فيراعَى فيه أن يكون من أهل الاجتهاد، وإن اقتصر به عن مطلق الحسبة، فالقضاة والحكام بالنظر في قليل ذلك وكثيره أحق، فهذا وجه.

والوجه الثاني: إنَّها مقصورة على الحقوق المعترف بها، فأمَّا ما يتداخله التجاحد والتناكر فلا يجوز للمحتسب أن يسمع بينة على إثبات الحق، ولا أن يحلف يمينًا على نفي الحق، والقضاة والحكام بسماع البينة وإحلاف الخصوم أحق.

وأما الوجهان في زيادتها على أحكام القضاء:

فأحدهما: إنه يجوز للناظر فيها أن يتعرَّض لتصفُّح ما يأمر به من المعروف وينهى عنه من المنكر وإن لم يحضره خصم مستعد، وليس للقاضي أن يتعرَّض لذلك إلا بحضور خصم يجوز له سماع الدعوى منه، فإن تعرّض القاضي لذلك خرج عن منصب ولايته، وصار متجوزًا في قاعدة نظره.

والثاني: إنَّ للناظر في الحسبة من سلاطة السلطنة واستطالة الحماة فيما تعلق بالمنكرات ما ليس للقضاة؛ لأنَّ الحسبة موضوعة للرهبة، فلا يكون خروج المحتسب إليها بالسلاطة والغلظة تجوزًا فيها ولا خرقًا، والقضاء موضوع للمناصفة، فهو بالأناة والوقار أحق، وخروجه عنهما إلى سلاطة الحسبة تجوز وخرق؛ لأنَّ موضوع كل واحد من المنصبين مختلف، فالتجوز فيه خروج عن حده.

وأما ما بين الحسبة والمظالم فبينهما شبه مؤتلف وفرق مختلف.

فأما الشبه الجامع بينهما فمن وجهين:

أحدهما: إنَّ موضوعهما مستقر على الرهبة المختصة بسلاطة السلطنة وقوة الصرامة.

والثاني: جواز التعرض فيهما لأسباب المصالح والتطلع إلى إنكار العدوان الظاهر.

وأما الفرق بينهما فمن وجهين:

أحدهما: إنَّ النظر في المظالم موضوع لما عجز عنه القضاة، والنظر في الحسبة موضوع لما رفه عنه القضاة، ولذلك كانت رتبة المظالم أعلى، ورتبة الحسبة أخفض، وجاز لوالي المظالم أن يوقع إلى القضاة والمحتسب، ولم يجز للقاضي أن يوقع إلى والي المظالم، وجاز

له أن يوقع إلى المحتسب، ولم يجز للمحتسب أن يوقع إلى واحد منهما، فهذا

الفرق الثاني: إنه يجوز لوالي المظالم أن يحكم، ولا يجوز لوالي الحسبة أن يحكم.

 

الكتاب: الأحكام السلطانية

المؤلف: أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي، الشهير بالماوردي (المتوفى: 450هـ)

الناشر: دار الحديث  القاهرة

عدد الأجزاء: 1

[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي]

المصدر: المكتبة الشاملة