(33) الحُكم بغير ما أنزل الله والتصوُّر الصحيح لها
أبو فهر المسلم
أن يكون هناك تشريعٌ لتقنينٍ مُستقل، يُضاهي به حكمَ الله جل وعلا، هذا التقنين من حيث وضعه كفرٌ، والواضعُ له والمُشرِّع والسَّانّ لذلك، وجاعل هذا التشريعَ منسوبًا إليه، وهو الذي حكم بهذه الأحكام؛ هذا المُشرِّع كافرٌ، وكُفره ظاهر؛ لأنه جعل نفسَه طاغوتًا فدعا الناسَ إلى عبادته، عبادة الطاعة وهو راضٍ..
- التصنيفات: السياسة الشرعية -
تفصيلٌ دقيق ومُحكَم لمسألة الحُكم بغير ما أنزل الله، والتصوُّر الصحيح لها.
وهذه المسألة -أعني مسألةَ التحاكم إلى غير شرع الله- من المسائل التي يقع فيها خَلطٌ كثير، ومن أوجُه الخلْط في ذلك: أنهم جعلوا المسألة -مسألة الحكم والتحاكم- واحدة! يعني: جعلوها صورةً واحدة، وهي متعددة الصور، فمِن صورها:
* أن يكون هناك تشريعٌ لتقنينٍ مُستقل، يُضاهي به حكمَ الله جل وعلا، هذا التقنين من حيث وضعه كفرٌ، والواضعُ له والمُشرِّع والسَّانّ لذلك، وجاعل هذا التشريعَ منسوبًا إليه، وهو الذي حكم بهذه الأحكام؛ هذا المُشرِّع كافرٌ، وكُفره ظاهر؛ لأنه جعل نفسَه طاغوتًا فدعا الناسَ إلى عبادته، عبادة الطاعة وهو راضٍ.. المُشرِّع ومَن أطاعه في جَعْل الحلال حرامًا، والحرام حلالًا، ومُناقضَة شرع الله هذا كافر، ومن أطاعه في ذلك؛ فقد اتخذه ربًا من دون الله.
والحاكم بذلك التشريع فيه تفصيل:
فإن حكم مرةً أو مرتين أو أكثر من ذلك، ولم يكن ذلك ديدنًا له، وهو يعلم أنه عاصٍ بتحكيم غير شرع الله؛ فهذا له حُكم أمثاله من أهل الذنوب، ولا يكفر حتى يَستحل، ولهذا تجِد أن بعض أهل العلم يقول: "الحاكم بغير شرع الله؛ لا يَكفر إلا إذا استحلَّ" وهذا صحيح، ولكن! لا تَنزل هذه الحالةُ على حالة التقنين والتشريع، كما قال ابن عباس: "ليس الكفر الذي تذهبون إليه، هو كفر دون كفر".
يعني: أن مَن حكَم في مسألة أو في مسألتين بهَواه بغير شرع الله، وهو يعلم أنه عاصٍ ولم يستحلّ؛ هذا كفر دون كفر.
أما الحاكم الذي لا يحكم بشرع الله بتاتًا، ويحكم دائمًا ويُلزم الناس بغير شرع الله؛ فهذا من أهل العلم من قال: "يكفُر مطلقًا ككُفر الذي سنَّ القانون؛ لأن الله جل وعلا قال: {يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ} [النساء من الآية:60].
فجعل الذي يحكم بغير شرع الله مطلقًا طاغوتًا، وقال: {وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ} [النساء من الآية:60]".
ومن أهل العلم من قال: "حتى هذا النوع لا يَكفر حتى يستحلّ؛ لأنه قد يَعمل ذلك ويَحكم وهو يعتقد في نفسه أنه عاص، فلَه حُكم أمثاله من المدمنين على المعصية الذين لم يتوبوا منها".
والقول الأول -وهو أن الذي يحكم دائمًا بغير شرع الله، ويُلزم الناسَ بغير شرع الله؛ أنه كافر- هو الصحيح -عندي-، وهو قول الجَدّ الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله في رسالته: (تحكيم القوانين)، لأنه لا يَصدر في الواقع من قلبٍ قد كفرَ بالطاغوت، بل لا يَصدر إلا ممَّن عظَّم القانون، وعظَّم الحكمَ بالقانون (الشيخ صالح آل الشيخ، في التمهيد).
قلتُ: وقول الشيخ في آخره: "أما الحاكم الذي لا يحكم بشرع الله بتاتًا.. إلخ".
ثم ذكر خلافًا في هذه الصورة بين أهل العلم، فهذا الخلاف فقط هو بين المُتأخرين، وإلَّا فإنه لا يُعرف مثلُ هذا الخلاف أبدًا في القرون الأُولى، ولا الوُسطَى، وقد حَكى غيرُ واحدٍ من العلماء، الإجماعَ على كُفر الحاكم في مثل هذه الصورة كفرًا أكبر مُخرجًا من المِلَّة!
وسيأتي معنا مزيدُ بيان، في منشورنا القادم إن شاء الرحمن.