كما تَستَحي مِن الرَّجلِ الصَّالِحِ

محمد علي يوسف

«أُوصيكَ أن تَستَحي مَنَ اللهِ تعالى، كما تَستَحي مِن الرَّجلِ الصَّالِحِ مِن قومِكَ»، بتلك الكلمات الموجزة بين النبي أن هناك حياءً من الرجل الصالح، وأظهر قيمة القدوة، وحرص على رعاية تلك القيمة في نفوس الناس، تخيل لو أن هذا الصالح أو العالم القدوة، أو صاحب السمت الطيب قد انهار وسقط في أعين الناس! النتيجة الحتمية عندئذ أن يهون كل شيء وأي شيء..

  • التصنيفات: شرح الأحاديث وبيان فقهها - الحث على الطاعات -

«أُوصيكَ أن تَستَحي مَنَ اللهِ تعالى، كما تَستَحي مِن الرَّجلِ الصَّالِحِ مِن قومِكَ» (صحيح الجامع:2541).
جملة بسيطة واضحة مباشرة -كعادته- لخص بها النبي صلى الله عليه وسلم معان كثيرة وقيمًا عميقة، كما تستحي من الرجل الصالح! وهل يُستحى من الرجل الصالح؟! نعم.

بتلك الكلمات الموجزة بين النبي أن هناك حياءً من الرجل الصالح، وأظهر قيمة القدوة، وحرص على رعاية تلك القيمة في نفوس الناس، تخيل لو أن هذا الصالح أو العالم القدوة، أو صاحب السمت الطيب قد انهار وسقط في أعين الناس! النتيجة الحتمية عندئذ أن يهون كل شيء وأي شيء..

- إذا كان هذا الرجل الصالح المتدين -بتاع ربنا كما يقولون- فيه كذا وكذا من سيىء النعوت وقبيح الخصال، فماذا أفعل وأنا الشخص العادي الضعيف الذي لم يدع يومًا أنه متدين؟!

- هؤلاء ثلة من المنافقين يظهرون الصلاح، بينما قلوبهم تمتلىء بالفساد والباطل، أما أنا فصاحب قلب نظيف إذاً فأنا أفضل أو على الأقل كلنا في "الهوا سوا وما فيش حد أحسن من حد"، العبارتان السابقتان بصياغات مختلفة تمثلان لسان حال وحديث نفس كثير ممن يستمرئون الخطأ، كرد فعل لأخطاء بعض المتدينين أو انهيار صورتهم،

والعامل النفسي أمر لا ينبغي إغفاله، فالحقيقة أن صاحب السمت الملتزم ذا الصلاح الظاهر المتمسك بالتقوى والبعد عن الفواحش أو المجاهرة بها، والحريص على الطاعات والعبادات كما أنه يسبب حياء لدى سليمي الفطرة، ويدفعهم لمنافسته {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين من الآية:26]، فإنه أيضًا يسبب نقصًا عند بعض من استسلموا لشهواتهم وتقلبوا في دنس معاصيهم..

تلك حقيقة شرعية ونفسية وواقعية تظهر جلية في قول ربنا: {وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا} [النساء من الآية:27]، فحين لا يقدر المفرط على إصلاح حاله أو الإقلاع عن معاصيه يصير البديل لديه أحيانًا أن يكون الناس كلهم مثله أو أسوأ، فهم عنده أفاقون، ومنافقون، وتجار دين، وطلاب دنيا ومنصب وجاه، بينما هو بحاله ومعاصيه لم يفعل شيئًا من هذه الطامات كما يقنع نفسه، فترتاح وتركن حيث لم يعد هناك داع للتغيير أو التوبة، وهنا محل الخطر! وذلك ما يسعى إليه البعض بكل قوة، وتساعدهم فرص ذهبية يعطيهم إياها بعض المتدينين بعدم تحملهم لتلك المسؤولية، فتعظم تلك الزلات ويسلط عليها الضوء للغاية..

ومن ثم تنهار القدوة، ويخبو في القلب ذلك المثل الحسن الذي كان يشكل جذوة من ضياء، يتمنى جزء خفي من نفس الشخص الطبيعي وفطرته السوية أن يعم ذلك الضياء القلب والبدن يومًا مًا، وبانهيار القدوة وانطفاء تلك الجذوة من ضياء التأسي والاستحياء من صالحي القوم تتحول الهزة المجتمعية أو السياسية إلى هزة دينية، وتردٍ التزامي وأخلاقي فتتصدع قيمة التأسي وتفقد الثقة ويزول الحياء من صالحي القوم، بل ويزول التصديق أن هناك أصلاً ما يسمى بصالحي القوم.

كل ذلك حين تنهار القدوة والمثل، ولست أعني بالانهيار هنا انهيار الاستحقاق، فإن القدوات ومن يستحقون أن ينظر إليهم الناس بعين التقدير موجودون دائمًا بفضل الله، ولا يزال الخير في الأمة حتى تقوم الساعة لكنني أعني هنا انهيار تلك القدوات في نظر الناس، وذلك إما بتشويه متعمد مكذوب أو للأسف بأخطاء حقيقية وقع ويقع فيها البعض بسفه غير مسبوق، وعدم احترام لأنفسهم أو تحمل لمسؤولية المكان والمكانة التي كانوا فيها، والتي جعلت لهم قيمة الاقتداء بهم مما أثر على كل من يحمل السمت نفسه بالتبعية.

وللأسف أكثر الناس يتأثرون وربما يفتنون بأفعال المتدينين وأخلاقهم، وينظرون دومًا إلى صنيعهم..
لكن كثير ممن هم في مقام القدوة يهونون على أنفسهم خطورة هذا العامل بترديد تلك القاعدة العظيمة المنسوبة لسيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "لا يعرف الحق بالرجال"، وهي كقاعدة لا غبار عليها فلا أحد معصوم، وبالتالي لا بنبغي منطقًا أن يرتبط الحق بشخص يخطىء ويصيب، لكن كم من الناس يدرك تلك القاعدة ويطبقها؟! كم من الخلق يتعامل على أساسها ولا يفتن بضدها؟!

الحقيقة الواقعية والمشاهدة أن أكثر الناس يتأثرون وربما يفتنون بأفعال المتدينين وأخلاقهم، ويدققون في خصال وخيارات أهل العلم والفضل، وينظرون دومًا إلى صنيعهم وينتظرونه،ولذلك راعى النبي هذا الأمر واعتبره فقال: «..إن منكم لمنفرين..» (صحيح البخاري:7159)، نعم هي ليست حجة مبررة لأفعال وتفريط النافر، لكنها حجة على المُنَفِّر والمستهين بقيمة القدوة، والمتغافل عن كون مقام الرجل الصالح في نفس الإنسان البسيط هو مقام كبير، ومهم ينبغي أن يصان، وأنه إن سقط في النفس كانت النتيجة لا تحمد عقباها وكما يقال الغلطة هنا "بفورة".

يقول الله: {وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيم} [النحل:94]، قال ابن كثير مفسرا هذه الآية: "حذر الله عباده من اتخاذ الأيمان دخلاً: أي خديعة ومكراً لئلا تزل قدم بعد ثبوتها، مثلٌ لمن كان على الاستقامة فحاد عنها، وزل عن طريق الهدى بسبب الأيمان الحانثة، المشتملة على الصد عن سبيل اللّه، لأن الكافر إذا رأى أن المؤمن قد عاهده ثم غدر به لم يبق له وثوق بالدين، فيصد بسببه عن الدخول في الإسلام، ثم قال تعالى: {وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} [النحل من الآية:95]، أي لا تعتاضوا عن الأيمان باللّه عرض الحياة الدنيا وزينتها، فإنها قليلة ولو حيزت لابن آدم الدنيا بحذافيرها لكان ما عند اللّه هو خير له، أي جزاء اللّه وثوابه خير لمن رجاه وآمن به، وطلبه وحفظ عهده رجاء موعوده".

كل هذا يضاعف من مسؤولية القدوات وأهل العلم الصُلاح، ويعظم ضرورة الالتفات إلى أهمية دعوة الحال وعدم الاكتفاء بدعوة اللسان والكلام، وأن كثيرًا مما يتهاون فيه البعض من الأفعال يعد من ‫‏الصد عن سبيل الله، وسبب لأن تزل قدم عن طريق هداية كانت قد ثبتت عليه يومًا ما كل ذلك لأجل غلطة وخطيئة كبرت أو صغرت فإنها منه بفورة. 

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام