(100) حقوق الله تعالى – ما تعلق بالعبادات (6)
إذا وجد من يتصدّى لعلم الشرع وليس من أهله من فقيه أو واعظ، ولم يأمن اغترار الناس به في سوء تأويل أو تحريف جواب، أنكر عليه التصدي لما ليس هو من أهله، وأظهر أمره لئلَّا يغتر به.
- التصنيفات: السياسة الشرعية -
الباب العشرون: في أحكام الحسبة
حقوق الله تعالى – ما تعلق بالعبادات (6)
فصل:
وأما النهي عن المنكرات فينقسم ثلاثة أقسام:
أحدها: ما كان من حقوقه الله تعالى.
والثاني: ما كان من حقوق الآدميين.
والثالث: ما كان مشتركًا بين الحقين.
فأمَّا النهي عنها في حقوق الله تعالى، فعلى ثلاثة أقسام:
أحدها: ما تعلق بالعبادات.
الثاني: ما تعلق بالمحظورات.
والثالث: ما تعلق بالمعاملات.
فأما المتعلق بالعبادات: فكالقاصد مخالفة هيئاتها المشروعة، والمتعمد تغيير أوصافها المسنونة مثل: من يقصد الجهر في صلاة الإسرار، والإسرار في صلاة الجهر، أو يزيد في الصلاة، أو في الأذان أذكارًا غير مسنونة، للمحتسب إنكارها، وتأديب المعاند فيها إذا لم يقل بما ارتكبه إمام متبوع، وكذلك إذا أخل بتطهير جسده، أو ثوبه، أو موضع صلاته أنكره عليه إذا تحقق ذلك منه، ولا يؤاخذه بالتهم ولا بالظنون؛ كالذي حكي عن بعض الناظرين في الحسبة أنه سأل رجلًا داخلًا إلى المسجد بنعلين، هل يدخل بهما بيت طهارته، فلمَّا أنكر ذلك أراد أحلافه عليه؛ وهذا جهل من فاعله تعدّى فيه أحكام الحسبة، وغلب فيه سوء الظنة، وهكذا لو ظنَّ برجل أنه يترك الغسل من الجنابة، أو يترك الصلاة والصيام لم يؤاخذه بالتهم، ولم يعامله بالإنكار، ولكن يجوز له بالتهمة أن يعظ ويحذر من عذاب الله على إسقاط حقوقه، والإخلال بمفروضاته. فإن رآه يأكل في شهر رمضان لم يقدم على تأديبه إلا بعد سؤاله عن سبب أكله إذا التبست أحواله، فربما كان مريضًا أو مسافرًا، ويلزمه السؤال إذا ظهرت منه أمارات الريب، فإن ذكر من الأعذار ما يحتمله حاله كف عن زجره، وأمره بإخفاء أكله؛ لئلَّا يعرض نفسه للتهمة، ولا يلزم أحلافه عند الاسترابة بقوله؛ لأنه موكول إلى أمانته، فإن لم يذكر عذرًا جاهر بالإنكار عليه مجاهرة ردع، وأدَّبه تأديب زجر، وهكذا لو علم عذره في الأكل أنكر عليه المجاهرة بتعريض نفسه للتهمة، ولئلَّا يقتدي به من ذوي الجهالة ممن لا يميز حال عذره من غيره.
وأما الممتنع من إخراج الزكاة: فإن كان من الأموال الظاهرة، فعامل الصدقة يأخذها منه جبرًا أخص، وهو بتعزيزه على الغلول إن لم يجد له عذرًا أحق، وإن كان من الأموال الباطنة فيحتمل أن يكون المحتسب أخص بالإنكار عليه من عامل الصدقة؛ لأنه لا اعتراض للعامل في الأموال الباطنة، ويحتمل أن يكون العامل بالإنكار عليه أخص؛ لأنه لو دفعها له أجزأه، ويكون تأديبه معتبرًا بشواهد حاله في الامتناع من إخراج زكاته، فإن ذكر أنه يخرجها سرًّا وكل إلى أمانته فيها.
وإن رأى رجلًا يتعرّض لمسألة الناس في طلب الصدقة، وعلم أنه غني إما بمال أو عمل أنكره عليه وأدّبه فيه، وكان المحتسب بإنكاره أخص من عامل الصدقة. قد فعل عمر رضي الله عنه مثل ذلك بقوم من أهل الصدقة، ولو رأى عليه آثار الغنى وهو يسأل الناس أعلمه تحريمها على المستغني عنها، ولم ينكره عليه لجواز أن يكون في الباطن فقيرًا، وإذا تعرّض للمسألة ذو جلد وقوة على العمل، زجره وأمره أن يتعرض للاحتراف بعمله، فإن أقام على المسألة عزره حتى يقلع عنها.
وإن دعت الحالة عند إلحاح من حرمت عليه المسألة لمال أو عمل إلى أن ينفق علي ذي المال جبرًا من ماله، ويؤجر ذا العمل وينفق عليه من أجرته لم يكن للمحتسب أن يفعل ذلك بنفسه؛ لأن هذا حكم والحكام به أحق، فيرفع أمره إلى الحاكم ليتولى ذلك أو يأذن فيه.
وإذا وجد من يتصدّى لعلم الشرع وليس من أهله من فقيه أو واعظ، ولم يأمن اغترار الناس به في سوء تأويل أو تحريف جواب، أنكر عليه التصدي لما ليس هو من أهله، وأظهر أمره لئلَّا يغتر به. ومن أشكل عليه أمره لم يقدم عليه بالإنكار عليه إلّا بعد الاختبار. قد مرَّ علي ابن أبي طالب عليه السلام بالحسن البصري وهو يتكلم على الناس فاختبره، فقال له: ما عماد الدين؟ فقال: الورع، قال: فما آفته؟ قال: الطمع، قال: تكلّم الآن إن شئت، وهكذا لو ابتدع بعض المنتسبين إلى العلم قولًا خرق به الإجماع، وخالف فيه النص، وردّ قوله علماء عصره، أنكره عليه وزجره عنه، فإن أقلع وتاب وإلا فالسلطان بتهذيب الدين أحق، وإذا تعرض بعض المفسرين لكتاب الله تعالى بتأويل عدل فيه عن ظاهر التنزيل إلى باطن بدعة تتكلف له غمض معانيه، أو تفرَّد بعض الرواة بأحاديث مناكير تنفر منها النفوس، أو يفسد بها التأويل كان على المحتسب إنكار ذلك والمنع منه، وهذا إنما يصح منه إنكاره إذا تميز عنده الصحيح من الفاسد، والحق من الباطل، وذلك من أحد وجهين، إما أن يكون بقوته في العلم واجتهاده فيه حتى لا يخفى ذلك عليه، وإما بأن يتفق علماء الوقت على إنكاره وابتداعه فيستعدونه، فيعول في الإنكار على أقاويلهم، وفي المنع منه على اتفاقهم.
الكتاب: الأحكام السلطانية
المؤلف: أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي، الشهير بالماوردي (المتوفى: 450هـ)
الناشر: دار الحديث القاهرة
عدد الأجزاء: 1
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي]