(25) ضَبْطُ البُوصَلَة
جمال الباشا
قد تكونُ العبارَةُ قاسيةً بعضَ الشيء.. ولكن لن يستغربَها مَن فَقِهَ قولَ النبيِّ عليه الصلاةُ والسلام: «تعِسَ عبدُ الدينار، تعِسَ عبدُ الدّرهَم، تعسَ عبدُ الخميصَة» (صحيح، مجموع الفتاوى [28/35])، إنَّ عبادَةَ هذهِ المادّياتِ لم تكُن يومًا بالسجودِ والركوعِ والنُّسُك.. بل كانت بالمحبَّةِ وفرطِ التعَلُّق.
- التصنيفات: أعمال القلوب -
في لحظةِ غفلةٍ، وصخَبٍ من الإعجابِ وحُسنِ الثناء، قد يُصاب الداعيةُ الصالحُ المتبوعُ ذو التأثير كغيرِهِ بداءٍ خَفي، أعراضُهُ التشخيصيةُ مراعاةُ تضخيم الذاتِ عند المُعجَبين، وإن كان ولا بدَّ فالحفاظُ على ما حقَّقهُ من المكاسِبِ في نفوسهم، فتكونُ إيقاعاتُهُ الدعويةُ متسقَةً مع ردود أفعالهم، وتدورُ في فلك استرضائهم.
قد تنحرفُ البوصلةُ بعدَ حين، ويتحوَّلُ الداعيةُ بالتدريج من دلالةِ العبادِ على ربِّ العباد، لتُصبحَ دلالتُهُ لهم على ذاته، بعد أن ذاقَ لذَّةَ الشرَفِ وحلاوةَ الجاهِ عندَ الخَلق!! فبدَلَ أن يكونَ هو سبيلَ الناسِ للوصولِ إلى اللهِ، جعَلَ اللهَ سبيلَ الناس للوصولِ إليه. ولعلَّهُ يبلغُ من الغفلةِ درَجةً لن يكونَ فيها بتعلُّقِهِ بما ينتظرُهُ منهم بأقلَّ عبوديةً منهم بتعلُّقِهم بما ينتظرونَهُ منه.
قد تكونُ العبارَةُ قاسيةً بعضَ الشيء.. ولكن لن يستغربَها مَن فَقِهَ قولَ النبيِّ عليه الصلاةُ والسلام: « » (صحيح، مجموع الفتاوى [28/35])، إنَّ عبادَةَ هذهِ المادّياتِ لم تكُن يومًا بالسجودِ والركوعِ والنُّسُك.. بل كانت بالمحبَّةِ وفرطِ التعَلُّق.
لقد بلغَ غلامُ الملِكِ من عِلمِ الرَّاهِبِ ما مَكَّنهُ من إبراء الأكمَهِ والأبرَص، وخشيةَ أن يُغاليَ فيه الضُّعَفاءُ ويُفتَنَ به الجُهَلاءُ، كانَ يقولُ لكلِّ مَن طلَبَ منهُ الشفاءَ: "إنّي لا أشفي أحدًا إنَّما يشفي اللهُ، فإن أنتَ آمنتَ باللهِ دعوتُ اللهَ فشفاكَ ". لم يكُن للغُلام الصالحِ أيَّةُ التِفاتَةِ قلبٍ نحو الناسِ الذين أدهَشَهُم بكراماته، بل كانَ شغلُهُ الشاغِلُ كيفَ يدلُّهُم على الإيمانِ بربّهِم العظيم، ولو كلَّفَهُ ذلك حياتَه.
معادلةٌ صعبَةٌ.. حياةُ الداعيةِ مقابلَ إيمانِ الناس!! العجيبُ أنَّها لم تُفرَض على الغلام، بل هو الذي اختارَها وفرضَها على العدو. إنَّهُ لم يكُن يفكّرُ بالشرَفِ العاجلِ والمَجدِ الزائِل، بل كانَ يبحَثُ عن قُربِ سيّدِهِ ومولاهُ الذي به شرَفُ الأبَد.
إنَّه فوق.. هناك..
آتٍ للصادقينَ لا مَحالة..
يا طالبَ الشرَفِ والجاه..
إرفع رأسَك هناك..
واجعَلْ شعارَك:
إذا صحَّ منك الودُّ فالكلُّ هيّنٌ *** وكلُّ الذي فوقَ التُرابِ تُرابُ
وجَدّد ضبطَ البوصَلَة.